فيلم "تراب الماس".. حين يكون القتل أثراً جانبياً

فيلم "تراب الماس".. حين يكون القتل أثراً جانبياً


30/09/2018

الخلفية السياسية في فيلم "تراب الماس"، آب (أغسطس) 2018، المقتبس عن رواية أحمد مراد، ربما أصابت البعض بصدمة دفعتهم للتقليل من قيمتها والقول بإمكانية حذفها دون أن يؤثر الحذف سلباً على مضمون القصة، فهل هذا الجانب فائض يمكن الاستغناء عنه، أم أنه مهم وبدونه سيفقد الواقع الاجتماعي المتخيل دلالاته وستنهار بُنيته السردية؟

يفتتح الفيلم بعودة طه حسين (آسر ياسين) إلى البيت ليجد والده حسين حنفي الزهار (أحمد كمال) ملقىً على الأرض، يقف طه فيصطدم رأسه بشيء، سنعلمه في نهاية الفيلم. تنتقل حركة الكاميرا بعد هذا الحادث- بتقنية الاسترجاع (فلاش باك) - من ليلة رأس السنة 2018، إلى "قبل 65 عاماً"، أي إلى العام 1953. الراوي (أحمد كمال) يصف ما حدث في تموز (يوليو) 1952 بأنه انقلاب، ولهذا التوصيف دلالته في أحداث الفيلم كما سنرى. يتم عرض مشاهد سريعة لأجواء تلك الفترة والتركيز على الانقلاب الثاني الذي حدث لمحمد نجيب، وتستكمل قصة الفيلم تمرير الإسقاطات السياسية لاحقاً عبر الإعلامي شريف مراد (إياد نصار) والراوي.

غلاف رواية "تراب الماس" لـ أحمد مراد

تكثيف الزمن

يختزل المخرج مروان حامد هذا الامتداد الزمني بحركة كاميرا دائرية متخذاً من الصور الفوتوغرافية أداة لهذا الانتقال بين زمنين، يُكثف الزمان والمكان والأحداث المختلفة باللجوء إلى المزج والتداخل وإظهار الأحداث المهمة فقط، مع كاميرا متحركة طوال الوقت تقريباً، يستثمر المخرج خطاب الصورة الفوتوغرافية للانتقال الزمني بين جيلين، تتحرك الكاميرا للأعلى- من مشهد موت الأب والجد حنفي الزهار (1954) وهو برفقة ابنه الطفل حسين - لتعرض صوراً فوتوغرافية مختلفة للعائلة ثم تهبط الكاميرا إلى أرضية الصالون على العجوز المُقعد حسين الزهار وهو ممدد على الأرض (2018) وابنه طه ملقىً إلى جواره. ينهض طه ويتجه مترنحاً إلى باب الشقة، يفتحه ويسقط في الممر مغشياً عليه، يستيقظ من الغيبوبة بعد أسبوع في المستشفى ليعرف أن والده قد قُتل ولتنقلب حياته رأساً على عقب.

الراوي يصف ما حدث في تموز 1952 بأنه انقلاب ولهذا التوصيف دلالته في أحداث الفيلم

تتحول قصة الفيلم عند هذه النقطة من قصة اجتماعية بخلفية سياسية- عن شاب صيدلي يهوى العزف على الدرامز ويرعى والده المُقعد- إلى قصة بوليسية، جريمة وغموض، يحاول فيها طه الكشف عن قاتل أبيه وعندما يعرف أن "حاميها حراميها" يتم توريطه في جريمة قتل. الانتقال من جريمة القتل العام 2018 إلى العام 1953 فيه دلالة على العودة إلى جذور وأسباب الجريمة. فيما رمزية الغراب تُلمِّح إلى أول جريمة قتل ارتكبها قابيل، وتعهُّد حسين الزهار للغراب بالرعاية يشير إلى اعتراف بالجميل للحل الذي قدمه الغراب للإنسان بدفن الجثة "وإلا كان الإنسان اتعفن أكثر ما هو معفن" كما قال حسين لابنه.

الروائي أحمد مراد

الإسقاطات السياسية
موضوع الفيلم هو الفساد، فساد الشرطة ممثلاً بالعقيد وليد سلطان (ماجد الكدواني) الذي يستغل وظيفته للاتجار بالمخدرات والرشاوى والجنس، وفساد مجلس الشعب ممثلاً بهاني برجاس (عادل كرم)، وهو فساد ورثه عن أبيه السياسي محروس برجاس (عزت العلايلي)، وفساد الإعلام ممثلاً بالإعلامي شريف مراد، الذي يظهر كالببغاء يكرر ما يُملى عليه من غرفة الكونترول، وفساد الطب ممثلاً في الخطأ الطبي الذي سبب الشلل لحسين الزهار، وفساد الجيش الذي حال دون التحاقه به وهو شاب.

مع كاميرا متحركة طوال الوقت تقريباً يستثمر المخرج خطاب الصورة الفوتوغرافية للانتقال الزمني بين جيلين

لكن كل هذا الفساد الأخلاقي والاجتماعي، كما تُلمح الخلفية التاريخية السياسية، له مصدر واحد هو الفساد السياسي الذي بدأ بانقلاب 52 ثم الانقلاب على محمد نجيب. هذا الفساد لخصه الراوي بعبارة يقول فيها: "لقد تحمَّلتُ تبعات وأخطاء حُكَّامنا"، وعبارة أخرى من مذكرات محمد نجيب يذكر فيها كيف أن الثورة استبدلت مَلكاً بِعدة ملوك.

هذا ما تُومئ له قصة الفيلم بلغة فنية ورمزية تجعل من الأحداث السياسية خلفية للأحداث الاجتماعية وأساساً لها في الوقت نفسه. بترتيب القصة ببعديها؛ الاجتماعي والسياسي سيحل الجانب السياسي ثانوياً، لكن ترتيبها وفقاً للسبب والنتيجة، تصبح الخلفية السياسية هي الأساس. وإهداء أحمد مراد الرواية لمحمد نجيب والإسقاطات السياسية في الفيلم هي بمثابة اعتذار متأخر بلسان حال يقول إن كل ما نعانيه اليوم سببه أخطاء الماضي.

الانقلاب على محمد نجيب ظهر أيضاً من خلال سقوط صورته من على الحائط. خطاب الصورة الفوتوغرافية ظهر أيضاً من خلال عرض صور محروس برجاس وهو بصحبة الملك فاروق ثم محمد نجيب وجمال عبدالناصر والسادات وبقية الرموز السياسية التي حكمت البلد. سؤال مهم طرحه طه حسين وهو ينظر إلى صور محروس برجاس المعلقة على حائط مكتبه، دون أن ينتظر جواباً: "هوَّ محروس برجاس عمره قد إيه؟!" في رسالة مضمرة تقول إن الفساد مستمر منذ ذلك الوقت والخلاص منه لن يكون إلا عبر "تراب الماس"؛ تلك المادة القاتلة التي ورثها حسين الزهار عن جاره صائغ الذهب اليهودي ليتو (بيومي فؤاد) والتي مكّنت حسين الزهار من قتل شخصيات فاسدة عديدة، ثم ورّث تراب الماس لابنه طه بالصدفة عبر مذكراته التي كشف فيها كل الأسرار.

اقرأ أيضاً: أحمد مراد: اتهمني نقاد بسرقة رواياتي فجاء الرد من الجمهور

تُوجِّه قصة الفيلم نقداً خاطفاً لثورة 25 يناير 2011، في اللقاء الذي جرى بين العقيد وليد سلطان والبرلماني هاني برجاس يبتز العقيد البرلماني فيسأل هذا الأخير بنبرة متعالية: "ليه حابب الموضوع يجي من فوق؟" يجيب العقيد أن هذا كان ممكناً قبل 11 يناير، في إشارة إلى تدهور الوضع وإلى تغول القادة الصغار. ويتضمن الفيلم محطات عن تحوّل الإعلام من وضعية التساؤل وإثارة القضايا الحساسة إلى وضعية مخدِّرة تدعو للتفاؤل وهو ما ينطبق على إعلام اليوم.

 

 

الرسائل المضمرة
تهدف حبكة الفيلم في جانبها البوليسي إلى خداع المتفرج وكسر التوقع، لكن الحبكة ليست البطلة في هذا الفيلم، السيناريو والإخراج وأداء آسر ياسين وماجد الكدواني هو ما يعطي قيمة إيجابية للفيلم إضافة إلى تضافر بقية العناصر كالموسيقى التصويرية والمونتاج.

في جواب قصة الفيلم عن مشكلة الفساد يطرح حلاً واحداً هو القتل، وهذا أخطر ما في القصة إن نظرنا إلى لغتها المباشرة، العبارة التي تكررت عدة مرات على لسان عدة شخصيات (حسين الزهار وليتو والعقيد وليد سلطان): "أحياناً نرتكب غلطة صغيرة لتفادي غلطة أكبر"، هي الشعار الذي من خلاله يتم تمرير رسالة القتل، مع عبارة أخرى وردت في الفيلم وعلى غلاف رواية (تراب الماس): "حين يصبح القتل أثراً جانبياً."

الانتقال من جريمة القتل العام 2018 إلى العام 1953 فيه دلالة على العودة إلى جذور وأسباب الجريمة

ثمة رسائل مضمرة أخرى للمتلقي الحاضر تفيد أن "الذين لا يتذكرون الماضي، قدرهم أن يعيشوه مرة أخرى"، كما عبّر الفيلسوف والشاعر والروائي جورج سانتيانا، ورسالة مضمرة تفيد أن تسلسل القتل ليس حلاً، "كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون"، كما ورد في إنجيل القديس متى، وهو ما يظهر عبر مصير حسين الزهار الذي انتهى مقتولاً وكان يُدرك أنه سيُقتل.

انتهاء قصة الفيلم باحتفاظ طه بعلبة "تراب الماس" يُلمح إلى إمكانية استعمالها في المستقبل، وإلا لكان تخلص منها ليقول بلغة التلميح إن زمن القتل قد مضى وانتهى عند هذا الحد، لكن بما أن قصة الفيلم تصف واقعاً ولا تقدم حلولاً فقد انتهى الفيلم على هذا النحو.

الحل المضمر يأتي بالتكفير عن الانقلاب السياسي، لكن كيف؟ ليس من شأن الفن أن يقول لنا كيف، لكن بما أن القصة تُلمح إلى أن مصدر كل أشكال الفساد الذي نعاني منه هو "الانقلاب" فإن الحل لن يكون إلا سياسياً... وما لمَّح له أحمد مراد بلغة فنية غير مباشرة عبَّر عنه جمال حمدان في كتابه (شخصية مصر) بلغة صريحة حين وصف الوضع السياسي طيلة قرون بأنه سلسلة من الانقلابات وأن الخلاص من الفساد لن يكون إلا شعبياً.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية