رحلة صحفي إسباني بين سجون "داعش" في سوريا

رحلة صحفي إسباني بين سجون "داعش" في سوريا


27/08/2018

ترجمة: علي نوار


"هذه ليست العراق ولا ليبيا، بل شيء آخر. حتى الآن، مرحباً بكم في تركيا، لكن خذوا ما تشاؤون من الوقت، ربما يومين أو ثلاثة، كي تقرّروا ما إذا كنتم تودّون دخول سوريا أم لا. قد تتعرّضون للقتل".

كانت هذه هي عبارات الترحيب التي استقبلنا بها في أواخر العام 2011، نادر، وهو مدرّب كرة سلة سوري سابق تخلّى عن المهنة واتّجه للتهريب، قبل أن يقرّر مساعدتي في الدخول بصورة غير شرعية إلى سوريا مع زميلي ومرافقي خابيير إسبينوسا.

لاحظت أثناء اختطافي للمرة الثانية أنّ السوريين لم يفقدوا ثورتهم فحسب بل وبلادهم أيضاً

بعدها بأشهر، ستختطف الجماعات المتشددة الثورة الشعبية، والكثير من هذه الجماعات تتلقّى الدّعم من دول أخرى لها أجندتها الخاصة في سوريا، الأمر الذي أفضى لاندلاع أكبر نزاع منذ الحرب العالمية الثانية، والذي راح ضحيته 500 ألف شخص على الأقل حتى الآن فضلًا عن ستة ملايين لاجئ.

وسأسرد في هذه القصة كيف أنّني تعرضت للاختطاف مرتين على الأقل في غضون عام من قبل تنظيم الدولة الإسلامية الجهادي (داعش)، خلال محاولتي تغطية هذا النزاع الضاري.

كما أنّني أود تفسير لم أصررت خاصةً على إجراء مقابلات مع الأشخاص الذين ربما دبروا اختطافي.

احتل تنظيم الدولة الإسلامية جزءًا كبيرًا من سوريا والعراق وليبيا

نقاط تفتيش

مع دخولنا الأراضي السورية، واكتساب الجماعات الجهادية للسطوة في البلاد، لم يكن أمراً غريباً أن يتعرّض المرء للاحتجاز من قبل إحدى هذه الجماعات لعدّة ساعات أو حتى عدّة أيام.

تعرّضت شخصياً لذلك، وتحديداً عام 2012 في القصير (حمص، ثاني كبرى مدن البلاد ومعقل قوى المعارضة المسلحة)، ولمدة ثلاثة أيام، لكن لم يتطوّر الأمر.

اقرأ أيضاً: ما مصير "أيتام الخلافة" بعد هزيمة تنظيم داعش في سوريا والعراق؟

والحقيقة أنّه إذا كنت تتمتّع باتّصالات جيّدة في المنطقة، فيمكنك العمل دون مشكلات وعلى مسافة أمتار معدودة من عناصر تنظيم القاعدة أو حتى حضور العمليات القتالية بصفتك صحفي "ملحق" بين صفوفهم، لأنّ المدينة كانت تخضع لنفوذهم، مناصفة مع الجيش السوري الحر.

لكن نقطة التحول حدثت مع أخذ ما أطلق على نفسه تنظيم (الدولة الإسلامية) في اكتساب أراض وقوة في سوريا.

كانت أول تجربة احتكاك مباشر لي مع هؤلاء في أواخر العام 2012 بمدينة حلب، حين كانوا غير متّحدين بعد في صفوف تنظيم واحد.

لم أتردّد عن مواصلة المسير وكنت أفضّل المخاطرة بتلقّي رصاصة على العودة للوراء وملاقاة هؤلاء المخبولين

كنت قد اعتدت في تلك الفترة على المبيت بمنزل صديق لي يدعى ياسر، وهو واحد من الأطباء المعدودين الذين ظلّوا يعملون بمستشفى دار الشفاء في حلب.

كان هناك شعور غريب يخيّم على الأجواء في تلك الفترة مع التقدم الذي يحرزه هذا التنظيم الجديد، لكنني كنت قد أمّنت نفسي باتصالات جيدة بالشكل الكافي بعد قضائي عدة أشهر هناك بحيث لم أكن مضطراً للقلق بشأن هذا الأمر.

لكن في إحدى الليالي، وعلى نحو مباغت، كان عناصر تنظيم الدولة الإسلامية يتواجدون بداخل منزل ياسر.

لم يكن أمامي سوى ثوانٍ قليلة كي أخبّئ المعدات والمال أسفل أريكة غرفة الطعام. كانت هذه هي تجربة اختطافي الأولى.

تم وضعي رهن الأسر طيلة 11 يوماً.

اقرأ أيضاً: قصّة الجاسوس العراقي الذي اخترق داعش

ورغم احتجازي، إلا أنّ الجيش السوري الحر كان لا يزال يتمتع بقدر كبير من القوة في المدينة، لذا فقد تمكّن من التواصل مع تنظيم الدولة الإسلامية والذي كان أمامه خياران: إما إطلاق سراحي أو يقتل الجيش السوري الحر جميع عناصر التنظيم.

وفضّل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية اتّخاذ أول الخيارين.

أُجبر آلاف الأطفال على الفرار من منازلهم بسبب النزاع

خسارة الثورة

بعد اختطافي في حلب، بقيت لثلاثة أسابيع أخرى كي أخطّط للجزء المقبل من رحلتي: إدلب ودير الزور، الواقعتين في شرق سوريا، في العام 2013.

كنت أعلم أن الجيش السوري الحر لا يزال يحظى بالقوة في هذه المناطق، رغم أنّه كان يتقاسم الأراضي مع جماعات أخرى جهادية مثل؛ تنظيمي جبهة النصرة والدولة الإسلامية.

لذا حسمت أمري وقرّرت وضع ثقتي من جديد في الجيش السوري الحر، واثقاً من أنّهم حال قبلوا هذه المسئولية فستكون ثقتي بهم أمراً يدعوهم للفخر مثلما حدث في جميع المرات السابقة منذ عام 2011.

بيد أنّ الأمور لم تكن تجري في دير الزور على هذا النحو.

اضطررنا في مسيرتنا من تركيا للالتفاف حول حواجز على الطرق كان قد نصبها داعش

خلال الأيام التي أمضيتها في دير الزور كان هناك نوع من غياب التوازن في القوى... كان الميزان قد بدأ يميل نحو تنظيم الدولة الإسلامية.

لم يكن دخول دير الزور أكثر صعوبة من الولوج إلى مدن أخرى. لكنّنا اضطررنا في مسيرتنا من تركيا، التي عاودنا الدخول من أراضيها بشكل غير شرعي إلى سوريا في العام 2013، للالتفاف حول عدد من الحواجز على الطرق التي كان قد نصبها تنظيم الدولة الإسلامية.

وشهدنا بأمّ أعيننا كيف هاجم أفراد التنظيم الجهادي إحدى الحافلات. ثم استوقفنا رجل في منتصف الطريق لأنّ تنظيم الدولة الإسلامية اختطف شقيقه منذ دقيقتين فحسب.

لكنّنا رغم كل ذلك نجحنا في بلوغ وجهتنا دون مشكلات تذكر.

أمضينا قرابة أسبوعين في مدينة الأشباح هذه. لم تتوقّف الهجمات بالدبابات ومدافع الهاون ولو للحظة واحدة، ورأينا كيف جرى استخدام حديقة للأطفال في دفن القتلى.

اقرأ أيضاً: كم بقي من مقاتلي داعش في العراق وسوريا؟

أثناء خروجنا من دير الزور، استوقفونا في نقطة تفتيش تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية واحتجزونا بمبنى على جانب الطريق.

أمضينا هناك نحو 15 يوماً؛ حيث كنّا نعتقد أنّه بوسعنا تكرار التوصل لحل على غرار ما حدث في حلب.

لكن الأمر لم يجر بهذه الطريقة. تمكّن ياسر من تحديد موقعنا واستند مجدداً إلى هويته كطبيب.

إلّا أنّ نفوذ ياسر كان ينتهي مع حدود حلب. وبدا من الواضح أنّ السوريين الذين كانوا قد خسروا ثورتهم، ضاعت بلادهم كذلك.

خلف الصراع في سوريا قرابة 500 ألف قتيل وأكثر من 6 ملايين لاجئ

الاختطاف الثاني

تنقّلنا طوال ثمانية أشهر تقريباً بين سجون عدة تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، حيث كان التعذيب والقتل يمارسان بشكل منهجي يوميًا.

لقد كنت شاهداً على العالم القاتم الذي خلقه تنظيم الدولة الإسلامية حيث تعرّض طفل يحمل مسدساً للصعق بالكهرباء عدّة مرات لأنّه أقدم على التدخين، أو تعذيب موظف استقبال بسيط في المستشفى الرئيسي لمدينة الرقة حتى الموت.

كانت رؤية نحو بُعد آخر مختلف تماما، بُعد من الجنون غير البشري على الإطلاق والساديّة.

وأثناء تنقّلنا بين السجون، كنّا نصادف رهائن آخرين.

اقتادوني إلى الحدود مع تركيا وقبل الوصول للخط الحدودي تسمّروا بأماكنهم وشرعت أنا في التقدّم

كان عددنا قد وصل إلى 19 شخصاً مُكدّسين في غُرفة. كنت أعرف أحدهم مسبقاً خلال الحرب الليبية وقد التقيت به في سوريا عام 2011، لكنّه اختفى على نحو مفاجئ أثناء تواجده في حلب.

إلّا أنّه لم يتمكّن من النجاة من الأسر: فقد قتله تنظيم الدولة الإسلامية.

كان يوم إطلاق سراحي يحمل قدراً من السريالية يفوق كل ما شهدته على مدار أشهر هناك.

اقتادوني إلى الحدود مع تركيا، وقبل قليل من الوصول للخط الحدودي، تسمّروا في أماكنهم وشرعت أنا في التقدّم.

اقرأ أيضاً: من تركيا إلى "داعش".. رحلة مصري منشقّ تكشف الحقيقة

فور أن لمحني الأتراك أطلقوا النار علي، اعتقد أنّهم على الأرجح ظنّوا أنّني جهادي كان يحاول عبور الحدود بصورة غير شرعية.

لم أتردّد للحظة واحدة عن مواصلة المسير: كنت أفضّل المخاطرة بتلقّي رصاصة على العودة للوراء وملاقاة هؤلاء المخبولين مرّة أخرى.

جنون غير بشري وساديّة

العودة

بعد تحريرنا في العام 2014، قرّرت مواصلة مهمة التصوير التي كنت قد بدأتها العام 2011 في سوريا. لكن الأمر لم يعد يتعلق بالثورة: بل كان يتعلّق بتنظيم الدولة الإسلامية.

لكن ما السبب؟ حسناً لقد أصبح هذا التنظيم هو العدو الأكبر للبلاد.

بات التنظيم حاضراً في دول كثيرة ويمتلك ثلاث عواصم تكوّن خلافته: سرت في ليبيا، والموصل في العراق، والرقة في سوريا.

اقرأ أيضاً: ما أسباب بقاء تنظيم داعش حتى الآن؟

لذلك دأبت على مدار الأعوام السبعة الأخيرة على تصوير النزوح المكثف لآلاف الأشخاص والمعارك الضارية في سينجار وكوباني وسرت والموصل والرقة.

كان هذا هو تحديداً السبب وراء قراري، خلال الرحلة الرابعة إلى سوريا هذا العام، بمرافقة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، لرؤية هؤلاء الرجال المشتبه في كونهم "بيتلز" تنظيم (داعش).

تحدّثت طوال أعوام مع جهاديين عرب وأوروبيين وزوجاتهم، لكن الفرصة أتيحت لي هذه المرة للحديث إلى كل من ألكسندا كوتي والشافعي الشيخ.

ليس بوسع الجميع الموت بنفس الطريقة التي اعتقدوا أنّهم اختاروا العيش بها

كان هذا شيئاً جديداً تماماً. انضمّ الاثنان إلى إحدى مجموعات تنظيم الدولة الإسلامية التي عذّبت واختطفت عددًا من الأشخاص أثناء سيطرة تنظيم (داعش) على بعض المدن السورية.

إلّا أنّ ما استرعى انتباهي هو رؤيتي للكثير من الجهاديين يبذلون حياتهم من أجل شيء كانوا يؤمنون به، لكن ما حدث مع تنظيم الدولة الإسلامية هو أنّ الكثير من أفراده حاولوا الفرار بعد تهاوي الخلافة.

فقد حاول كوتي والشيخ، اللذان يعتقد أنّهما كانا ضمن الصفوة في تنظيم (داعش)، لإنقاذ حياتهما مخالفين بذلك معتقداتهما الشخصية وسعياً نحو الهروب إلى تركيا.

ليس بوسع الجميع الموت بنفس الطريقة التي اعتقدوا أنّهم اختاروا العيش بها. إلّا أنّ هؤلاء هم الأكثر جبناً وحقارة بين البقية.

تخرج الحرب أسوأ وأفضل ما في الأشخاص؛ لأنّ معايير السلوك التي نضعها في إطار مجتمع عادي، التي تُشتقّ من قوانين وعقوبات تفرض على من لا يلتزمون بهذه التشريعات، يجرى تقويضها. ليس الأمر أنّ الحروب تغيّرنا، بل أنّها ببساطة تظهر لنا ما نحن عليه في الحقيقة.


تقرير للصحفي والمصور الإسباني ريكاردو جارثيا بيلانوبا، منشور في النسخة الإسبانية من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي).



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية