عائلة بوتو: باكستان بين السلطة والموت

باكستان

عائلة بوتو: باكستان بين السلطة والموت


05/07/2018

مثّلت باكستان منذ انفصالها عن الهند دولة متنوعة شديدة التعقيد، من خلال المشاكل العديدة التي رافقتها منذ نشأتها كأزمات تداول السلطة وصعود التشدد الديني ، وامتلاك قوة ردع نووية، ليعكر كل ذلك أحلام الوطن الذي تشكّل ليمنح المسلمين هويةً قومية خاصة، في مواجهة الهند التي ظل عنوان صراعها مع باكستان مرتبطاً بإقليم كشمير.

بدأ ذو الفقار بوتو حياته السياسية بالتأكيد على ضرورة صياغة دستور عصري ووضع باكستان تحت سيادة القانون

أما حكامها، أو رجالها المؤثّرون؛ كمحمد إقبال، ومحمد علي جناح، مروراً بعائلة بوتو، فظلّوا أيقونات لهذه الصراعات، خاصةً عائلة بوتو المثيرة للجدل، وابنتها الأشهر؛ بينظير بوتو.

تحقيق النبوءة
نبوءة تأسيس باكستان، بدأت العام 1930 من خلال صرخة "محمد إقبال"، الذي يعتبر الأب الروحي لباكستان، إذ طالب حينذاك بكيانٍ مستقلٍ للمسلمين عن الهند، وهو سرعان ما بدأ يتحقق بعد العام 1940 حين بدأت بريطانيا تتخبط في الهند، بفعل الأثر البالغ للحرب العالمية الثانية عليها.
في كتابها "تعال معي إلى باكستان"، تقول الصحفية والكاتبة المصرية فرح جبران إنّ وفاة محمد إقبال "لم تسقط فكرة تأسيس دولةٍ قوميةٍ للمسلمين، إذ سرعان ما تبنى محمد علي جناح الفكرة، ولم يلبث يناضل لأجلها تدعمه القوى السياسية الباكستانية، إلى أن قامت باكستان العام 1947"، وصارت  تمثّل المسلمين، بينما تمثل الهند الهندوس، في انقسامٍ سوف يتخلله الصراع لعقود.

اقرأ أيضاً: الجهاد بالوكالة: باكستان زرعت الإرهابيين في الجوار فحصدت الفوضى
في تلك الأثناء، كان ابن العائلة الإقطاعية القادمة من إقليم السند قبيل منتصف القرن التاسع عشر "ذو الفقار علي بوتو" يستعد للدراسة في واشنطن، وكان بلغ التاسعة عشرة من عمره آنذاك.
ووفقاً للكاتب والسياسي الباكستاني المعروف شاكير علي، فإن أهمّ ما يمكن ذكره حول ذو الفقار المولود العام 1928، هو "والده، شاه نواز بوتو، الذي حصل على لقب فخري من بريطانيا وعلى قطعة أرض كبيرةٍ جداً في باكستان، مستفيداً من تقسيم الهند والتوجه لبناء كيانٍ مستقلٍ للمسلمين".

شاكير علي يتحدث في كتابه عن ذكرياته مع بوتو

ويضيف شاكير في كتابه "ذكرى من أجل بوتو"، أن ذو الفقار وبعد حصوله على شهادة في العلوم السياسية من جامعة كاليفورنيا،أحرز شهادة في القانون من بريطانيا، ليعود بعد ذلك إلى كراتشي، أكبر مدن باكستان وعاصمة أرص السند، ليعمل هناك كمحامٍ ناجح خلال عدةِ سنوات، ويقوم بين عامي 1954 و1956 بكتابة العديد من المقالات والدراسات، حول ضرورة "صياغة دستور عصري، ووضع باكستان تحت سيادة القانون".

لفّق ضياء الحق تهمة لذو الفقار وأعدمه مدركاً أنه لن يحكم طالما بقي غريمه على قيد الحياة

وكانت باكستان بحسب شاكير، واجهت مطلع خمسينيات القرن الماضي، مجاعات حصدت الآلاف، بسبب قيام الهند بقطع مجاري الأنهار التي تنبع في أراضٍ بينها وبين باكستان، مما كاد يقضي على معظم القطاع الزراعي، وبينما كانت باكستان تغرق في هذه المشكلة وسواها من المشكلات، دخل بوتو بوابة الحكومة لأول مرة، بعد تعيينه في العام 1958 متحدثاً باسم بلده في الأمم المتحدة.
لكن المشاكل لم تنته، فخاضت البلاد حروباً عديدة مع الهند على إقليم كشمير المتنازع عليه بين البلدين، استمرت منذ ستينيات القرن الماضي ولم تكد تنقضِ حتى التسعينيات من القرن المنصرم.

خلّفت الحروب مع الهند هزائم موجعة لباكستان

هذه الحروب، خلفت هزائم حلت بباكستان، كانت أكبرها انفصال باكستان الشرقية العام 1971 تحت مسمى "بنغلاديش"، وكان بوتو  الذي عمل وزيراً للخارجية بعد العام 1965خاض نضالاً دام عدة سنواتٍ من أجل منع هذا الانفصال، إلا أنّه كلما تقدم في مناصبه خلال تلك الأعوام، تراجعت باكستان، دون أن يكون له دور حقيقي في الأحداث.

عائلة تحكم كي تموت
ما نتج عن هذه الحروب والخسارات لباكستان، كان انكفاء المؤسسة العسكرية الباكستانية، أما هزيمة العام 1971، فمكّنت ذو الفقار علي بوتو، أن يصبح أول رئيسٍ منتخبٍ للبلاد العام 1973، وفقاً للدستور الذي ناضل من أجل وضعه في بلد يحكمه العسكر.
بوتو، وهو مؤسس حزب الشعب الباكستاني أيضاً، حاول خلال فترة حكمه القفز ولو مؤقتاً عن الصراعات الخارجية التي تنهك باكستان، وذلك من خلال حزبه صاحب الأغلبية الشعبية (حزب الشعب)، والشعار البسيط الشهير له (المأكل والملبس والمأوى)، في بلدٍ ناشئ، معرض للانقسام والمجاعات، بسبب ضغط الهند من الخارج، ولوجود مؤسسة عسكرية في الداخل، من مصلحتها تعزيز الانقسام.

سجنت بينظير ونفيت مراتٍ عديدة وتعرضت للتهديد إلا انها بقيت مصرّة على أن مصيرها مرتبط بمصير باكستان

وبينما كان بوتو يواجه مشاكل كبيرة، منها الأمية والنقص الحاد في الخدمات، وعدم قدرة الدولة على توفير فرص عملٍ كافية. ولأجل التركيز على الهموم الداخلية، ووقف الاستنزاف العسكري للبلاد، قام بوتو بعقد اتفاقية سلام مع الهند العام 1972، عرفت باسم اتفاقية "سيملا" التي استطاع من خلالها استعادة 95 ألف أسير باكستاني وإنهاء الحرب.
مسيرة الرئيس التي بدت ناجحةً جداً، ما لبثت أن بدأت تتعثر، فتراجعت علاقاته سريعاً مع العالم بمجرد تفكيره بالطاقة النووية كحلٍ لأزمة الطاقة في البلاد، كما بدأ "الملالي" يسيِّرون مظاهراتٍ ضده، بحجة عدم نشر بوتو للإسلام في البلاد، وهو ما حاول الالتفاف عليه، من خلال بعض الإصلاحات، وبحسب الجنرال المتقاعد من الجيش الباكستاني "فيروز خان"، فإنه يقول في مذكرات شاكير "الرئيس حوّل العطلة من يوم الأحد ليوم الجمعة إرضاء للملالي، كما منع شرب الخمور".

العام 1977، حضر في باكستان، وأشباح العداء الدولي تلاحقه بسبب مشاريع الطاقة النووية، بينما تزايد العداء الداخلي تجاهه، بدعمٍ من الولايات المتحدة الأمريكية كما يرى فيروز خان الذي عايش تلك الحقبة، ليقوم الجيش بانقلاب ضد بوتو، قاده الجنرال ضياء الحق، ولتأتي الأقدار ساخرةً حين يتهم الجيش الذي دشّن مرحلة الاستبداد بوتو بعدم ممارسة الديمقراطية، ويوجّه له تهماً كثيرة هدفها التخلص منه.

امرأة لا نظير لها
حين وُضع بوتو في السجن، لم يكلّف أياً من ولديه (مرتضى وشاه نواز) بالدفاع عنه، بل حَمّلَ هذا العبء لابنته الكبرى "بينظير بوتو"، بسبب وثوقه من قدراتها السياسية والثقافية.
بوتو، التي ولدت العام 1953، بعد ستة أعوامٍ على استقلال باكستان، خاضت أول تجربة سياسية كبيرةٍ لها، فدافعت عن والدها مستميتةً، محاولة إقناع الجيش والناس أنه للشعب الحق في التصويت من أجل مصير قائدهم ومصير باكستان، كما حاولت مع إخوتها كسب ضغطٍ دولي من أجل أبيها.

برويز مشرف سرعان ما أعاد سطوة الجيش بقوةٍ على البلاد من جديد بانقلابٍ عسكريٍ آخر

لكن الجنرال ضياء الحق، ظل طامعاً في استلام حكم باكستان، مدركاً أنه لا يمكن حصول ذلك طالما بقي ذو الفقار علي بوتو على قيد الحياة.
وهكذا؛ حاولت الفتاة الذكية التي ارتادت جامعات بريطانيا وأمريكا وحملت اسم "بينظير"؛ أي التي لا نظير لها، إنقاذ والدها، لكنها فشلت في ذلك، بعد تلفيق تهمة القتل إليه، ومن ثم إعدامه شنقاً، ليكون أول فردٍ يحكم في عائلة بوتو ليقتل ويموت.

ربطت بينظير مصيرها بمصير باكستان

بعد ذلك وضعت عائلة بوتو تحت الإقامة الجبرية، وكذلك باكستان، التي كثرت فيها الإعدامات في عهد ضياء الحق، إضافةً إلى الجلد في الساحات العامة، "وكانت المطالبة بالحريات والتعبير عن الآراء تودي بأصحابها" وفقاً لبينظير في كتابها "ابنة القدر" وهو كتاب مذكراتٍ شخصية عن حياتها.
لكن حكم ضياء الحق الدكتاتوري استمر بدعمٍ مفاجئ من أمريكا، بعد قيام الاتحاد السوفييتي بدخول أفغانستان العام 1979، وهنا تذكر بوتو في كتابها أن "المدارس الدينية أخذت تحصل على الدعم، وأخذ الطلاب يتعلمون عن ضرورة الجهاد لتحرير أرض المسلمين في أفغانستان". وقد انتشرت في حينه آراء تؤكد أن السوفييت سوف يشكلون خطراً على باكستان المسلمة.

اقرأ أيضاً: مدارس الكنيسة الأنجليكانية مقصد المسلمين في باكستان

أفغانستان، وعلى صعيد شخصي، تسببت لبينظير بالسجن، حيث حاول شقيقاها مرتضى وشاه نواز تحضير انقلابٍ عسكري من هناك ضد ضياء الحق، حصل هذا العام 1981، فرد ضياء الحق بسجنها في حبسٍ انفرادي في الصحراء، وتقول بوتو في كتابها "لم أتكلم مع أحد لسنوات، حتى إنني فقدت القدرة على الكلام تماماً"، واستمر ضياء الحق من ناحيته بتوزيع أموال الدعم الأمريكي في أفغانستان على "جماعاتٍ مسلحة"، بينما شهد العام 1984 اغتيال شاه نواز بوتو بالسم في فرنسا.
نفيت بينظير بوتو هي ووالدتها بعد هذه الأحداث، إلى أن عادت لبلدها العام 1986 مصرّة على ممارسة العمل السياسي، وكانت تزوجت في لندن من "آصف علي زرداري"، لتخوض الانتخابات مستندةً إلى شعارات والدها عن الديمقراطية والحريات، وتمكّنت من تولي رئاسة الوزراء في الانتخابات التشريعية التي أجريت في 1988، من خلال أغلبية شعبية مؤيدة أسس لها والدها الراحل.

واجهت بوتو الجهاديين وعملت على تحسين التعليم وإدخال التقنيات الحديثة للبلاد بينما اعتبرها الإسلاميون شيطانهم الأكبر

وتقول في كتابها ذاته عن تلك الانتخابات "كنت حاملاً، وأعرف أنّ رجال ضياء الحق في السلطة سوف يحددون موعد الانتخابات مع موعد وضعي لطفلي، لذا قمت بتغيير السجلات الطبية، هذا فاجأهم، حتى أن ضياء الحق قال لأحد رجاله أنه أخطأ حين لم يقتلني، ولما أخبرني الرجل بذلك، قلت له إنّ الجنرال محق".
بدت شعبيتها كبيرة في باكستان، الناس يحبونها كثيراً، بينما طويت صفحة ضياء الحق بحادث تفجير طائرته العام 1988، وكان الجيش الباكستاني وحده المسؤول عن حمايته.
بداية التسعينيات، شهدت صعود "نواز شريف" الذي مثل في حينه دور رئيس تحالف القوى الإسلامية الباكستانية مدعوماً من المخابرات الباكستانية، وعمل شريف على شيطنة زوج بينظير أولاً، وتلفيق اتهاماتٍ بالفساد له ولزوجته ثانياً. حتى تمكّن من إقالتها خلال فترتها الرئاسية الثانية بين عامي 1992 و1996.

اقرأ أيضاً: سفاح باكستان اغتصب 8 فتيات وقتلهنّ!
وفي العام 1996، اغتيل أخوها الثاني مرتضى، واتهمت الشرطة والسلطات الباكستانية عائلة زرداري بقتل شقيق بينظير دون أدلة.
مواجهة بينظير للوضع في باكستان، نبعت أيضاً من "مخلفات الجهاديين" الذين أدارت أمريكا ظهرها لهم بعد انتهاء حرب أفغانستان، في بلدٍ تشير "فاطمة بوتو" حفيدة العائلة أن "معدل الإنفاق العسكري فيه والإنفاق على المدارس الدينية المتشددة يفوق الصرف على التعليم ودعم المرأة بكثير". وذلك في كتابها عن باكستان "السيف والنار".

ذو الفقار الذي حاول إرضاء الجميع وتحسين حال الشعب اتهم من قبل الجيش بأنه غير ديمقراطي

ورغم انتقادات فاطمة لعائلة بوتو، إلا أنّها تشير بوضوح إلى "ما واجهته بينظير كرئيسة وزراء وامرأة، فقد حاولت من خلال تفسير القرآن الكريم نفسه، رد كل محاولات المتشددين لقمع المرأة والحريات في المجتمع، كما أصرّت على إصلاح التعليم وإدخال التقنيات العلمية الحديثة إلى البلاد"، وبالمقابل، اعتبر الإسلاميون الباكستانيون بوتو شيطانهم الأكبر.
وبينما كانت بينظير تخوض صراعاتها هذه، عين نواز شريف الجنرال "برويز مشرف" رئيساً للأركان، الذي سرعان ما أعاد سطوة الجيش بقوةٍ على البلاد من جديد، بانقلابٍ عسكريٍ آخر، ليعيد مسيرة ضياء الحق في مواجهة عائلة بوتو من جديد.
اعتقل زوجها آصف زرداري وسجن في باكستان، أما هي فحكم عليها غيابياً بخمس سنوات من السجن بينما كانت تكافح من أجل إزاحة القبضة العسكرية عن باكستان، ومن جديد، واجهت العام 2002 حكماً آخر بالفساد وغسيل الأموال، وهي كانت التهمة الرائجة في باكستان للإطاحة بأي سياسي.

اقرأ أيضاً: باكستان تكافح التطرف والإرهاب بتطبيق "تشوكاس"
في النهاية، بقيت بينظير بوتو مصرّةً على أن مصيرها مرتبط بباكستان، فعادت العام 2007 إلى بلدها رغم التحذيرات، لتخوض الانتخابات من جديد، وخرج الكثير من أنصارها لاستقبالها في مدينة كراتشي، حيث تعرض موكبها هناك إلى تفجيرين انتحاريين قتلا 125 شخصاً، لكنها نجت، لتنجح محاولة اغتيالٍ ثانية لها في مدينة روالبندي خلال العام ذاته فقتلت هناك.

لم تشفع المحبة الشعبية لبوتو من الاغتيال

أما باكستان، فبقيت تعاني من عدم الاستقرار، ومعرضة لفساد العسكريين وأجهزة الأمن (تم اغتيال قاضي التحقيق في اغتيال بينظير بوتو لاحقاً)، وبترك العنان للقوى المتشدّدة الإسلامية، والفقر والفساد، إضافةً إلى الصراع الدامي مع الهند.. قالت بينظير بوتو ذات مرة "حين ولدت، لم يزر أمي أي شخصٍ لثلاثة أيام، لأنها ولدت بنتاً، واليوم أدافع عن باكستان، التي حكمها رجال مختلفون، لكنهم لم يزوروا شعبهم، لم ينظروا إليه قط".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية