موسم الهجرة الأوروبي والعربي نحو التصوّف

موسم الهجرة الأوروبي والعربي نحو التصوّف


03/06/2018

ثمة سؤال مُغيب في التناول البحثي العربي، بَلْه التناول الإعلامي، بخصوص الإقبال الكبير على التصوف الإسلامي في التداول الغربي والعربي، ومن ذلك التداول الأوروبي والمتوسطي العربي بالتحديد.

من الذين يغيب عنهم استحضار هذا السؤال، نجد الفاعل الديني، سواء تعلق الأمر بالفاعل الديني في المؤسسات الرسمية، أو الفاعل الإسلامي الحركي، في تفرعاته الدعوية والسياسية والقتالية أو قل "الجهادية" [مع ما أصبح يُصطلح عليها أُمَمياً بظاهرة "التطرف العنيف"].

يمكن أن نتوقف عند محطتين أساسيتين في هذا السياق، على الأقل خلال العقود الأخيرة، منذ مطلع الألفية الثالثة:

يلاحظ هجرة شباب نحو البحث عن خطاب إسلامي معاصر، شرط أن يكون بعيداً عن ضيق العمل الإسلامي الحزبي

أ ــ مرحلة ما بعد اعتداءات نيويورك واشنطن في 11 سبتمبر 2001، فمعلوم أنّ هذه المحطات كانت صدمة للرأي العام الغربي (الأمريكي والأوروبي على الخصوص)، ومعها صناع القرار، بل كانت صدمة للمخيال الغربي، والذي إن كان جزءٌ منه متشبعاً بتسربات الخطاب الإسلاموفوبي، والاستشراقي، كما اشتغل نقدياً على ذلك الراحل إدوارد سعيد، إلا أنّ الجزء الآخر، والذي يضم كتلة غربية لا تعادي صراحة الإسلام والمسلمين ــ بل أنجبت مدارس استشراقية أنصفت التداول الإسلامي، من قبيل المدرسة الاستشراقية الألمانية كما اشتغل على ذلك بالشرع والتعريف رضوان السيد، وبالتالي، وجد هذا الجزء الغربي نفسه فجأة، أمام تورط جماعات إسلامية في مجموعة من الاعتداءات الإرهابية، طالت بعض الدول الغربية (الولايات المتحدة، بريطانيا، إسبانيا)، وكانت هذه الأحداث مناسبة لكي يلج الرأي العام الغربي باب القراءة والمتابعة المرتبطة بالإسلام والمسلمين، مع فارق جوهري، مفاده أن هذه القفزة النوعية ستتم بعيداً عن الوسائط الإعلامية والبحثية التي كانت تمرر تلك الصور النمطية عن الإسلام، سواء عبر الإعلام أو السينما أو الأعمال البحثية أو المواقف السياسية والبحثية وغيرها.

تعددت أسباب اعتناق الغربيين للإسلام، ولكن مؤكد أنّ هذه القفزة النوعية في اطلاع القارئ الغربي على الخطاب القرآني والنصوص التراثية الإسلامية، كانت أحد تلك الأسباب، سواء عبر بوابة التديّن الصوفي أو عبر بوابة التديّن السلفي الوهابي، ولن نتحدث عن مُعتقني الإسلام عبر بوابة "الدين المعاملة"، من خلال تفاعلهم وتعاملهم اليومي مع المسلمين الذين يقيمون في الغرب.

ما يهمنا في هذا المقام، أنّ اطلاع العديد من الغربيين على الأدبيات الصوفية (وخاصة أعمال ابن عربي وجلال الدين الرومي وبدرجة أقل عبد القادر الجيلاني وأبي حامد الغزالي)، يقف بشكل مباشر وراء اقترابهم أو نهلهم من الموروث الإسلامي، من باب الدفاع عن "المشترك الإنساني"، أو العمل به واعتناقه بشكل صريح، بصرف النظر عن معالم هذا العمل الديني الصوفي عند هذه النسبة، فهذا موضوع آخر؛ لأنه اتضح لاحقاً أنّ هناك عدة مسارات، من قبيل تلك التي أعلنت عنها ورَوّجتها مجموعة من الأسماء، نذكر منها الفرنسي إيريك جوفروا والدنماركية شيرين خانكان وغيرهما.

لا نتحدث هنا عن خلاصات وتوصيات بعض التقارير الغربية، الأمريكية على الخصوص، والتي سلطت الضوء على أهمية الرهان المؤسساتي في الساحة العربية على الخطاب الصوفي في سياق التصدي للظاهرة "الجهادية"، فهذه جزئية ثانوية الأهمية مقارنة مع التوجه العام لدى المتتبع الغربي (الأوروبي على الخصوص)، والذي لا عِلم به بالضرورة بمضامين هذه التقارير، بقدر ما عاين خطابات إسلامية جديدة عن قرب، ومنها الأدبيات الصوفية، بعيداً عن الوساطات التقليدية السالفة.

من مؤشرات الإعجاب الذي يطال التديّن الصوفي في التداول الأوروبي، أننا لا نجد أية قلاقل ذات صلة بالفاعل الصوفي في مُجمل الأعمال البحثية والمتابعات الإعلامية التي تتطرق على سبيل المثال لظاهرة "الإسلاموفوبيا" ["التخويف من الإسلام"]، أو تلك المرتبطة بالاعتداءات الدموية التي تمر منها بعض الدول الأوروبية، وكذلك في الخطاب الرسمي (سواء كان صادراً عن صناع القرار أو عن المؤسسات الحزبية)، كلما تعلق الأمر بالتفاعل مع الظاهرة الإسلاموية.

ب ــ مرحلة أحداث "الفوضى الخلاقة" في المنطقة العربية، والتي اصطلح عليها بأحداث "الربيع العربي"، ابتداءً من يناير 2011، ولو أن بعض الأعمال أصبحت تؤرخ لهذه الأحداث بين 2010 و2013، وبالتحديد بين 10 ديسمبر 2010 و30 يونيو 2013، تاريخ الثورة المصرية الثانية التي أقفلت قوس "الفوضى الخلاقة" في نسختها المصرية، باعتبار أن مصر تبقى إحدى أهم قوى المنطقة.

ومعلوم أيضاً، أنّ بعض نتائج هذه الفوضى في المنطقة، تجسّدت في صعود بعض الأحزاب السياسية الإسلامية، إلى سدة الحكم أو المشاركة في الحكم، كما عاينّا على الخصوص في الحالات المصرية والتونسية والمغربية، إضافة إلى صعود لائحة من الحركات الإسلامية "الجهادية" ومعها الجماعات السلفية التي راهنت على العمل الدعوي أو العمل السياسي (من قبيل ظاهرة "حزب النور" السلفي في مصر).

لم ينتظر الشارع العربي كثيراً حتى يطلع على الخطوط العامة لأداء الإسلاميين في تدبير العمل الحكومي، وتابع الرأي الشارع نفسه أداء عدد كبير من "الجهاديين" في المنطقة، من الذين تورطوا في إسقاط أنظمة، دون الحديث عن ورطة بعض الرموز "السلفية الجهادية" التي كانت تُصنف في مقام "المراجعات"، ولكن مباشرة بعد اندلاع أحداث "الفوضى الخلاقة"، عادت إلى خطاب ما قبل "المراجعات".

الخطاب الصوفي من دون تبني العمل الصوفي طال حتى بعض الإسلاميين الذين انخرطوا في مراجعات حقيقية

ساهمت هذه التطورات وغيرها، في ظهور عدة رجات أصابت تديّن شباب المنطقة، منها على سبيل المثال، ارتفاع نسبة الإلحاد في المنطقة، ونخص بالذكر الإلحاد في السعودية ومصر، وبدرجة أقل في المغرب والجزائر، ومع أنّ الظاهرة كانت متواجدة في حقبة ما قبل اندلاع أحداث "الفوضى الخلاقة"، إلا أنها كانت تُصنف في خانة "المُحرمات" أو "الطابوهات" المؤرقة التي تهدد أصحابها بمتابعات عقدية قبل المتابعات القانونية، ولكن ارتفاع مؤشرات حرية التعبير مباشرة بعد اندلاع الأحداث سالفة الذكر، عجّل بصدور العديد من أتباع الظاهرة إلى العلن، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.

لكن من بين أهم التطورات الدينية التي نعاينها أيضاً، نجد على الخصوص ما يُشبه هجرة جزء لا بأس به من شباب المنطقة نحو البحث عن خطاب إسلامي معاصر، شرط أن يكون بعيداً عن ضيق العمل الإسلامي الحزبي، حتى لا نتحدث عن ضيق خطاب إسلاموي طائفي، وضمن البدائل المقترحة، كانت الأدبيات الصوفية في المتناول، ولعل مقارنة الأعمال المُخصّصة للخطاب الصوفي بين مرحلة ما قبل "الفوضى الخلاقة" وما بعدها، تصب في هذا السياق، لعل أشهرها أعمال جلال الدين الرومي، وبالتحديد عمله المرجعي "مثنوي" الذي حظي بمتابعات بحثية وإعلامية وحتى فنية ـ سينمائية مع الفيلم الأمريكي الذي يقوم بدور البطولة فيه الممثل ليوناردو دي كابريو.

بل إنّ طرق باب الخطاب الصوفي دون أن يُفيد ذلك تبني العمل الصوفي، طال حتى بعض الإسلاميين الذين انخرطوا في مراجعات حقيقية، وقرروا أخذ مسافة نظرية وتنظيمية نهائية من العمل الإسلامي الحركي، وهذا ما تشهد عليها تدوينات بعض هؤلاء في الفضاء الرقمي، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه إذاً، أهم المحطات المرتبطة بعودة الخطاب الصوفي، وبدرجة أقل العمل الصوفي للتداول الإقليمي، المتوسطي والأوروبي، على أن نتطرق في مقالة قادمة، إلى تبعات هذه العودة، بما يقتضي التدقيق في الفوارق بين مسارات هذا الاعتناق المُركب، وبالتحديد الفوارق الجلية بين اعتناق الإسلام عبر بوابة التديّن الصوفي أو عبر بوابة التديّن السلفي الوهابي.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية