تونس.. حسابات السياسة تذيب جليد العداوة بين العلمانيين والإسلاميين

تونس

تونس.. حسابات السياسة تذيب جليد العداوة بين العلمانيين والإسلاميين


25/11/2019

يؤكد تقدّم المسار الحكومي والبرلماني، على ضوء نتائج الانتخابات المفاجئة التي عاشتها تونس خلال الشهرين الماضيين، أنّ البلد مقبلٌ على مرحلة جديدة من التوافقات، المبنيّة على حسابات حزبية، وإكراهات سياسية، ستجمع بين الأضداد، في نسخة مكرّرة لما أفرزته انتخابات 2014، التي أنتجت توافقاً هجيناً بين حزب حركة النّهضة الإسلامية، وحزب نداء تونس العلماني، والذي أدخل الشعب في متاهات اجتماعية واقتصادية، وانتهى إلى اندثار نداء تونس، وتراجع النّهضة التي خسرت أكثر من مليون ناخب من جملة مليون وخمس مئة انتخبوها في العام 2011.

اقرأ أيضاً: تونس: رئيس الحكومة الجديد مستقل فعلاً أم واجهة لحركة النهضة الإخوانية؟‎
التوافق الجديد متوَقعٌ بين قلب تونس العلماني، الذي حلّ ثانياً في الانتخابات البرلمانية بـ38 مقعداً، وحركة النّهضة صاحبة المرتبة الأولى بـ52 مقعداً، والتي اعتادت البحث عن شريكٍ تحمّله عبء التعثر، منذ 2011 بخروجها من السرية إلى العلن؛ حيث مرّت من تجربة "الترويكا"، التي جمعتها بحزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات، إلى توافقٍ مع "نداء تونس"، في انتظار اكتمال مراسم "زواجها الهجين" مع قلب تونس.
النهضة وقلب تونس يتفقان على انتخاب الغنوشي رئيساً للبرلمان

"الأغبياء هم الذين لا يتغيّرون"
ملامح الاتّفاق بين "النّهضة" و"قلب تونس" بدت واضحةً منذ أوّل جلسةٍ عقدها أعضاء البرلمان الجدد، والتي خُصصت لانتخاب رئيس للبرلمان ونواب له، بعد أن نجح نواب النّهضة في إقناع نواب قلب تونس، بانتخاب راشد الغنّوشي على رأس البرلمان للخمس سنوات القادمة.

تونس مقبلة على مرحلة جديدة من التوافقات المبنية على الحسابات الحزبية والإكراهات السياسية ستجمع بين الأضداد

وحصد الغنّوشي بذلك 123 صوتاً من مجموع 217 ليشغل أوّل منصب رسمي له منذ عودته من منفاه في لندن عقب ثورة 2011، التي أنهت حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، بفضل خصومه في الحزب المنافس، وهو ما وُصف ببداية الاتفاق بين الحزبين.
تحالفٌ خيّب آمال أنصار الحزبين، الذين رفضوا منذ البداية هذا التحالف الهجين، والذي انجرّ عنه استقالة أحد مؤسسي قلب تونس عبد العزيز بلخوجة، معتذراً من أنصاره الذين قال إنّه "غرّر بهم".
أمّا الغنّوشي فقد أكّد في أوّل تصريحٍ له إثر انتخابه رئيساً لمجلس نواب الشعب، وفي إجابته عن تغيير الحركة لموقفها وتراجعها عن قرارها بخصوص تحالفها –غير المعلن- مع قلب تونس، أنّ "الأغبياء هم الذين لا يتغيرون" وأنّ الحركة تعاملت مع كل الأحزاب إلا من أبى، كما أنّه لا يمكن أن تقع مقاطعة أيّ حزبٍ اختاره الشعب بما في ذلك قلب تونس.

اقرأ أيضاً: الحبيب الجملي: تكنوقراط بلا انتماء سياسي يرأس حكومة تونس
ووصف المحلل السياسي عبد الله العبيدي، لـ "حفريات"، ما حدث بـ"الصفقة السياسية"، التي وضعت الغنّوشي عن حركة النهضة على رأس البرلمان، والناطقة باسم "قلب تونس" سميرة الشواشي، نائبةً أولى له، مرجّحاً أن ينتهي الاتّفاق عند هذه النقطة، وأن لا يشمل الحكومة؛ لأنّ ممثلي الحزبين، مصرّون على عدم التقارب.

حركة النّهضة اعتادت البحث عن شريك تحمّله عبء تعثرها منذ العام 2011

أمّا الأستاذ في العلوم السياسية إبراهيم العمري، فيرى أنّ ما حصل عند انتخاب الغنّوشي رئيساً للبرلمان، "توافق ظرفيّ بغاية مصلحة سياسية"، مرجّحاً في حديثه لـ "حفريات"، أن يتواصل هذا التوافق إلى غاية انتهاء المدة النيابية الحالية العام 2024، وأن تحيي من خلاله حركة النّهضة اتّفاق 2014، الذي أبرمته مع حزب نداء تونس.
ووصف العمري تصريحات الغنّوشي بعدم التشارك مع خصمه "قلب تونس" في حكومة واحدة، بـ"التصريح السياسي"، موضحاً أنّ مفاوضات الحركة مع باقي الأحزاب الفائزة بمقاعد نيابية متعثّرة، وشروطهم مجحفة في حقّ حركة النّهضة التي تتمسّك بالسيطرة على الحكم على مستوييه؛ التنفيذي والتشريعي، وهو ما يجعل اتفاقها معهم مستحيلاً.
ورأى العمري أنّ التوافق المستقبلي للفترة الممتدة بين 2020-2024 بين "النهضة" و"قلب تونس"، هو الحلّ الأسلم، والأكثر استقراراً بالنّسبة للحركة الإسلامية، لتتحرّك بحريّة أكبر.
مؤشرات جديدة حول إعادة تجربة التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين في تونس

للسياسة حسابات
وكانت قيادات حركة النهضة تردّد منذ انطلاق الحملات الانتخابية في أيلول (سبتمبر) 2019 استحالة التفاوض أو التحالف مع حزب "قلب تونس"؛ إذ شدّد آنذاك زعيم الحركة راشد الغنّوشي نفسه على أنّه "لن يتحالف مع حزب تحوم حوله شبهات فساد مثل قلب تونس".

اقرأ أيضاً: تونس والغنوشي في انتظار صراع الدين والدولة
كما دعت الحركة في الدّور الثاني من الانتخابات الرئاسية التي جرت في 13 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، في بيانٍ رسمي قواعدها إلى انتخاب قيس سعيّد المرشّح المنافس لنبيل القروي (رئيس حزب قلب تونس).
من جانبه، بدا حزب "قلب تونس" ليّناً، خلال الحملة الانتخابية، في تعامله مع الحركة، باحثاً عن التموقع السياسي الإستراتيجي من أجل تخفيف الضغط على رئيسه نبيل القروي المتهم بتبييض الأموال وشبهات فساد.

اقرأ أيضاً: هل تنجح حركة النهضة الإخوانية بالاستفراد بالمشهد السياسي التونسي؟‎
وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي محمد بوعود: إنّ حركة النّهضة أمام خيارين لا ثالث لهما، فهي إمّا أن تفي بوعودها الانتخابية، وتكوّن حكومة ثورية تضم فيها إلى جانبها، حزب التيار الديمقراطي (وسط)، وحركة الشعب (قومية)، وائتلاف الكرامة (ذو التوجّه الإسلامي)، أو أن تعيد صياغة اتّفاق قرطاج الذي أُبرم في 2013 في باريس بين زعيمها راشد الغنّوشي ومؤسّس حزب نداء تونس الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، بأسماء جديدة مع المحافظة على نفس المضامين والأهداف.

ملامح الاتّفاق بين النّهضة وقلب تونس بدت واضحة منذ أوّل جلسة عقدها أعضاء البرلمان الجدد

وأضاف بوعود في تصريحه لـ"حفريات"، أنّ الطرف العلماني "قلب تونس" لا يريد أن يخسر مكانته في الدولة الوطنية التي يعتبر نفسه من بُناتها الأصليين، خاصّة أنّه لم يقدر للمرّة الثالثة على التوالي على هزيمة الإسلاميين، في حين تسعى النّهضة الإسلامية لتكوين حكومة لها قبولٌ إقليمي ودولي، لافتاً إلى أنّها لن تستطيع فعل ذلك إلاّ عبر التحالف مع "قلب تونس"، لتسوّق للخارج صورة منمقة لحكومة توافقية يتحالف فيها الإسلامي مع العلماني.
بوعود شدّد أيضاً على أنّ زعيم "النّهضة" راشد الغنّوشي يعي جيّداً أنّ حكومته إن ضمّت حركته وبنات عمّها (التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة) سيعتبرها الفاعلون الدوليون والإقليميون، حكومة إسلامية، لن تستمر طويلاً، وهو ما لا تريده "النّهضة".
وخلص بوعود إلى أنّ "النّهضة" مجبرةٌ على التوافق مع "قلب تونس"، ضماناً لتصريف حكومتها داخل تونس وخارجها؛ لأنّه لا حلّ لها غير ذلك، وإن راوغ قادتها.
نتائج الانتخابات التونسية تجبر قلب تونس وحركة النهضة على التحالف

رغم فيتو النّهضة.. قلب تونس حاضر
هذا واختار الحبيب الجملي، وهو مرشح حركة النهضة، "قلب تونس" كأوّل حزب ينطلق معه في مشاوراته التي بدأها مع الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان المنتخب حديثاً، من أجل التوصّل إلى تشكيل الائتلاف الحكومي وضمان الأغلبية المطلوبة.

إبراهيم العمري: التحالف مع قلب تونس هو الحلّ الأسلم لحركة النهضة خلال الفترة 2020-2024

واعتبر مراقبو الشأن التونسي أنّ هذا اللّقاء بمثابة الرسالة الواضحة إلى حركة النهضة، تشير إلى أنّه ليس بالإمكان استبعاد "قلب تونس" من الحكومة وتشكيل حكومة ضيقة لا تخضع للتجاذبات الحزبية، والأيديولوجية.
واعتبرت قيادات حركة النّهضة، تعليقاً على ذلك، أنّ رئيس الحكومة المكلّف له الحقّ في أن يختار طريقة مفاوضاته، ويدعو لها من يشاء، وسبق أن أكد رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، أنّ حركة النهضة ستستبعد حزب "قلب تونس" من مشاورات تشكيل الحكومة، ما اعتبره مراقبون ازدواجيةً في الخطاب، وإتقاناً في التحكّم بقيود اللعبة السياسية.
وكشف في المقابل، مدير مركز الدراسات الإستراتيجية حول المغرب العربي عدنان منصر في حديثه لـ "حفريات"، أنّه يمتلك معلومات تؤكد، وجود لقاءات جرت بين قيادات الحزبين، منذ ما قبل إجراء الانتخابات، وأنّهما متّفقان على التحالف والتوافق بخصوص رئاسة البرلمان والحكومة، "غير أنّ قياداتهم تراوغ، لمغالطة الرأي العام التونسي، وإقناعه بعدم وجود اتّفاق مسبق".

اقرأ أيضاً: عودة خطاب العنف.. حملات تحريض إخوانية ضد اتحاد الشغل بتونس
منصر أوضح أنّ مشاركة "قلب تونس" في الحكومة الجديدة لن تكون بالضرورة عبر شخصيات معروفة ومحسوبة عليه، بل عبر شخصيات يقترحها ويقدّمها على أنّها مستقلّة، ثم يمنحها نوابه ثقتهم عند عرضها على البرلمان لنيل الثقة، ومباشرة عملها رسمياً.
ولفت منصر أيضاً إلى أنّ الحزبين سيتحالفان، و"أنّ تحالفهما سيكون مماثلاً للتوافق الذي أبرمته حركة النّهضة مع حزب نداء تونس العلماني، عقب انتخابات 2014، حفاظاً على مصالح الحزبين".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية