سيد قطب: معالم في طريق مضطرب

سيد قطب: معالم في طريق مضطرب


17/12/2017

رغم مضيّ قرابة نصف قرن على رحيله، ما يزال سيد قطب اسماً لا يمكن تجاوزه في تاريخ التيار الحركي الإسلامي الذي يعد رائده و"أيقونته".

بدأ هذا المعلم والتربوي شاعراً مرهفاً ثم أديباً وروائياً وناقداً فذّاً وسياسياً وأخيراً مفسراً للقرآن.
تبنّى معظم أفكار عصره من وفديّة ووطنية وليبرالية واشتراكية قبل أن يتبرّأ من أربعين عاماً غير آسف. وأنهى صاحب "معالم في الطريق" هذا المشوار المضطرب، قصد أم لم يقصد، مفكراً إسلامياً "مظلوماً" ومنظراً للسلفية الجهادية "الإرهابية"؛ كلٌّ يقرؤه كما يريد.
ظهر ولع سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي، الذي ولد العام 1906 في إحدى قرى أسيوط، بالكتب منذ نعومة أظفاره فكان يوفر مصروفه لشرائها، وظل له طوال حياته جَلَدٌ عجيب على القراءة؛ وهذا ما جهر به: "حين كتبت عن طه حسين وتوفيق الحكيم والعقاد والمازني، كلفتني كل مقالة قراءة كل كتاب لهؤلاء ومعظم ما كتبوه من مقالات".

برزت اهتمامات قطب السياسية في العام 1919 فكان ذلك الفتى ذو الثلاثة عشر ربيعاً يكتب الخطب المؤيدة للثورة التي اندلعت آنذاك، ليلقيها في مساجد وتجمعات قريته. وفي العام 1920 رحل إلى القاهرة حيث استكمل دراسته الثانوية العام 1924.
وفاة والده، الذي تركهم في مهبّ الريح، بعد أن باع معظم أراضيه شكلت منعطفاً في حياته، فاضطر قطب أن يعمل مُدرّساً ومدقّقاً في بعض الصحف ليعيل أسرته، بالتزامن مع التحاقه بكلية دار العلوم التي حصل منها على شهادة البكالوريوس في الآداب العام 1932.
بدأ التحول في حياته عقب تعرفه على عباس محمود العقاد عن طريق خاله الوفديّ؛ إذ قدمه لمعظم الصحف والمجلات التي خاض فيها معارك شرسة دفاعاً عن العقاد، جمع بعضها في كتابه "كتب وشخصيات"(1946) الذي بدا فيه تأثره بأستاذه وآرائه حول بعض الصحابة، وقد بلغت مؤلفاته ستة وعشرين كتاباً، فضلاً عن مئات المقالات التي كرسته واحداً من أهم نقاد عصره.

أحدث قطب انقلابات جذرية في فكر "الإخوان" وما تزال كتبه ملهمة لحاملي هذه الأفكار، ما دفع البعض للقول إن سيد قطب ما يزال يحكم من قبره

كانت "وردة ذابلة" باكورة قطب الشاعر التي نظمها في العام 1925، ليصدر في العام 1933 كتابه الأول "مهمة الشاعر في الحياة"، ثم أول دواوينه العام 1935، لتكون "دعاء الغريب" آخر قصائده في العام1950 الذي أسدل فيه قطب الستار على مرحلته الليبرالية.
وفي سياق تأثره بمعاصريه، أصدر العام 1946 سيرته الذاتية "طفل من القرية" من وحي "الأيام" لطه حسين، وكتب رواية "المدينة المسحورة" (1946)، وفي لعبة مكشوفة أسقط قصة حبّه الذي انتهى دون ارتباط وحياته التي استمرت بلا زواج في روايته الأخيرة "أشواك" (1947)، وفي العام 1948صدر كتابه "النقد الأدبي أصوله ومناهجه".
ويسجل لقطب أنه أول من سلط الضوء على موهبة الأديب الراحل نجيب محفوظ بعد إصداره روايتي "كفاح طيبة" و"خان الخليلي" عامي 1944 و1945، وفي آخر لقاء جمع الرجلين العام 1965 كانت آخر كلمات محفوظ له "لدي اقتراح، لكني أخشى أن يكون جاهلياً.. هو أن تعود إلى النقد الأدبي"، لكن قطب الناقد كان قد مات لتستولي عليه شخصية عبدالوهاب إسماعيل التي رسمها محفوظ لسيد قطب في روايته "المرايا" العام 1972.
الاضطراب والغلوّ لازما حياة هذا الرجل شديد الاعتداد بنفسه؛ فرغم علاقته القوية مع العقاد، التي استمرت خمسة وعشرين عاماً، حل الجفاء بينهما، بعد أن أعلن قطب القطيعة مع جيل "الأساتذة" العام 1947 في مقالته الشهيرة "بدء المعركة: الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ" رداً على مقال لطه حسين.
وانعكس هذا المزاج في حياته السياسية، فبعد أن انتسب سنوات طويلة لحزب "الوفد" ما لبث أن تركه العام 1942م، ثم دخل مرحلة "ضياع فكري" قبل أن يوجه دفته إلى المسار الإسلامي؛ حتى كتبه النقدية مثل؛ "التصوير الفني في القرآن" (1945)، و"مشاهد القيامة في القرآن" (1947م) لم تكن نابعة من توجه إسلامي ملتزم، بل كانت استكمالاً لمنهجه النقدي، وأخذ يتراجع عن معظم ما كتب في هذه المرحلة ويقارب الكتابة الدينية حتى انتهى إلى ما انتهى إليه "رائداً للفكر الحركي الإسلامي" الذي يعرف به الآن.
عقب تخرجه من دار العلوم تنقل قطب مدرساً بين مدارس متعددة حتى استقر موظفاً في الوزارة بالإدارة الثقافية العام 1938، وأوفده طه حسين عندما أصبح وزيراً للمعارف إلى أمريكا العام 1948 لدراسة المناهج مع تزايد الاستياء من سلاطة قلمه، وعاد منها العام 1950، ولكنها لم تكن عودة محمد عبده؛ فلا إسلام ولا مسلمين هناك أو هنا.. إنها الجاهلية التي ستحتاج بنظره إلى "معالم في الطريق" لاجتثاثها.

هذا التحول الجذري تجلى في مقالاته التي كان يرسلها، وبدا فيها شديد العداء للرأسمالية، ميالاً للاشتراكية قبل أن ينقلب عليها. فكان كتاباه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" ثم "معركة الإسلام والرأسمالية"، وكان يرى فيهما أن الشيوعية لو تخلت عن فكرة الإلحاد لالتقت مع الإسلام في العدالة الاجتماعية. وبعد عودته عينته وزارة المعارف مستشاراً، لكن عدم تبني اقتراحاته ذات الميول الإسلامية، ونقله أكثر من مرة، دفعه للاستقالة العام 1952.
وبعد أن كان ينظر قطب إلى "الإخوان المسلمين" باستخفاف، ما كان يثير حنق ابن أخته الإخواني، بدأ يتقرب من أفكارهم خلال مقامه في أمريكا، خصوصاً بعد اغتيال حسن البنا العام 1949 الذي لم يلتق به في حياته، فكتب في إهداء كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام": "إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديداً كما بدأ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون".
انتمى للجماعة رسمياً في العام 1953، وأصبح مسؤول نشر الدعوة فيها، وتولى رئاسة تحرير جريدتهم الأسبوعية الفتيّة، ومنذ العدد الأول عاد قطب لسيرته الأولى؛ مبتكراً شخصية "قرفان أفندي" الكاريكاتورية مهاجماً المرحلة الجديدة، بعد أن ساند حركة الضباط الأحرار العام 1952 حين كان يحضر اجتماعات مجلس قيادة الثورة، مطالباً بممارسة "ديكتاتورية إصلاحية"، حتى إن عبدالناصر اختاره نائباً له في "هيئة التحرير"، أول تنظيم سياسي شكلته الثورة بعد قرارها بحل الأحزاب.
غير أن شهر العسل لم يدم طويلاً، فاعتقل قطب العام 1954 عقب اتهام الجماعة بمحاولة اغتيال عبدالناصر، ليحكم عليه بالسجن 15 عاماً، ثم أفرج عنه العام 1964 لأسباب صحية كانت رفيقته منذ الطفولة. ورغم أن لوائح السجون كانت تمنع النزلاء من الكتابة أو امتلاك أدواتها، إلا أن عبدالناصر أصدر قراراً بتعيين الشيخ محمد الغزالي ليوفر لقطب ما يشاء من مراجع؛ ليصدر من محبسه "هذا الدين" و"المستقبل لهذا الدين"، ويستكمل "في ظلال القرآن" الذي اختط فيه لنفسه منهجاً بديعاً غير مسبوق في التفسير، لكنه ما لبث بعد الإفراج عنه أن أحدث فيه تعديلات كانت نواة آخر كتبه.
وفر له السجن فرصة لبلورة أفكاره الجديدة، ولم يجد حلاً للحيرة التي كانت تعتوره إلا باستدعاء أقوال الخوارج في الحاكمية، وأفكار طوباوية حول إحياء جيل الصحابة، وتجهيل المجتمعات من بعدهم، والاستعلاء بالإيمان، ليصبها كلها في أكثر كتبه جدلاً "معالم في الطريق" الذي تتركز فيه قناعاته الجديدة في "التغيير"، التي لم تخرج عما أتى به مجايله أبو الأعلى المودودي، ولكن بأسلوب أكثر جاذبية وبريقاً، حتى إنه عندما قُدم للمودودي بعد وفاة قطب قرأه في ليلة واحدة، ليخرج في الصباح قائلاً: "كأني أنا الذي ألّفت هذا الكتاب". ولم يكن مستغرباً أن عبدالناصر لم يكد يفرغ من قراءته خلال زيارته لموسكو العام 1965 حتى كتب على صفحاته الأولى: "هذا الكتاب وراءه تنظيم"، ليدان قطب إثرها بقيادة مؤامرة إخوانية لقَلْب نظام الحكم؛ ليعدم العام 1966 .

 أحدث قطب انقلابات جذرية في فكر "الإخوان"، وما تزال كتبه التي خطها في نهاية حياته ملهمة لحاملي هذه الأفكار، ما دفع البعض للقول إن سيد قطب ما يزال يحكم من قبره، ونجح بامتياز في تعليم "الاستعلاء".. على الواقع.

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية