كما لكلّ فكرٍ ودينٍ نصّ دائم يعضده ويعبّر عنه، فإنّ المثل الشعبي المتوارث هو دستور النساء الشعبيات المصريات. دستورٌ نابعٌ من واقع ووعي الأسلاف، معبر عن حكمة العجائز وخلاصة فهم تجاربهم، وهو قد يتلاقى أو يتقاطع مع النص التأسيسي للدين الرسمي المعتنَق؛ نظراً إلى ارتباطه بثقافة بيئته التي أنتجته، وأهم ما في طبيعة المثل سلاسة صياغته ومفرداته اللغوية، وواقعيته التي تجعله أكثر تداولاً وحضوراً في ذهن العوام، لا سيما الأميين أبجدياً والمثقفين منهم شفهياً، لكن يوضَع في الاعتبار أنّ معظم الأمثال الشعبية مجهولة المصدر، ومن العسير تحديد زمانها وأصل هويتها، الدينية أو المجتمعية، التي أنتجتها، والظروف التي بلورتها، وتحديد النوع الجنسي الذي صاغها، هل كان امرأة أم رجل؟ لذلك من السهل ملاحظة التناقض في بنيته الكلية وتضارب مضامينه أحياناً.
ونجد عديداً من النساء، لا سيما الأميّات، يحفظن الكثير من تلك الأمثال، ويرددنها خلال أحاديثهن أو مواقف حياتهن اليومية، للاستدلال بها على صحة آرائهن وأفعالهن، أما علاقتهن مع النص التأسيسي (القرآن)؛ فهي هامشية جداً من الناحية الإدراكية، وهي علاقة حسية تقتصر على وجوده بهدف الحصول على البركة والحسنات، وحفظ بيوتهن وأولادهن من غواية الشيطان والأنفس الحاسدة، أو قراءته صدقةً على أرواح الموتى.
نجد عديداً من النساء لا سيما الأميّات يحفظن الكثير من الأمثال ويرددنها خلال أحاديثهن أومواقف حياتهن اليومية
ومعظمهن يحفظن سُوَر الفاتحة والمعوذتين والإخلاص وآية الكرسي، ورغم استماعهن إلى القرآن بشكلٍ دائمٍ ومكثفٍ على مدار اليوم، عبر وسائط الإعلام وآلات التسجيل المختلفة، أو بشكل مباشر من الشيخ، أو حتى أولادهن في مراحل التعليم، إلّا أنهن لا ينتبهن جيداً لكلماته وتراكيبه، ولا يدركن تفسير معانيه، بالتالي، لا يسعهن تمييز محتواه إذا خلطه أحد بنصّ آخر وقرأه منغماً؛ لأنهنّ لا يتعرفن عليه سوى من خلال القراءات المميز بها عن أي نصّ آخر، أو من خلال أصوات مشاهير المقرئين المحببة شعبياً لثرائها بالمقامات الموسيقية المميزة؛ كالشيخ محمد رفعت، ومحمد المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، وغيرهم. أيضاً ليس بمقدورهن تمييز المصحف عن أي كتاب آخر يتشابه معه في التنوين والزخرفة والشكل العام.
ويوجد العديد من الأمثال الشعبية التي استمدت مضامينها من بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، خاصة فيما يتعلق بأدبيات التعامل مع الآخر، والنسق الأخلاقي، والإيمان بالقضاء والقدر واليوم الآخر، والحساب والثواب والعقاب، والصبر على الابتلاءات، وأداء الفروض كالصلاة والزكاة والحج، صيغت جميعها بمفردات اللهجة المصرية المألوفة.
وقد ثبت من المعاينة الميدانية أنّ معظم الأفكار الدينية والتراث القصصي الخاص بكرامات الأولياء، وغيرها من المضامين المختلفة التي تؤمن بها النساء الأميات، يعتقدن أنّها ذكرت في القرآن الكريم، بالتالي، تسري عليها رمزيته المقدسة. على سبيل المثال؛ هُنّ يعتقدن أنّ كلّ ما يتعلق بالجن والحسد، هو حقيقي وصحيح، طالما احتوى القرآن بعض المرويات المتعلقة بالجن، وذكر الحسد في آيات كثيرة، خاصة في سُورة الفلق التي يحفظنها باسم المعوذات، فأيّة منطقية يُوجه بها الحديث في تلك المسألة سوف تُواجه بقولهن "دا مذكور في القرآن".
معظم الأفكار الدينية والتراث القصصي الذي تؤمن به النساء الأميات يعتقدن أنّه ذُكر في القرآن الكريم
كما تعتقد إحداهن عن يقين وحماسة أنّ إحدى كرامات الشيخ إبراهيم الدسوقي مذكورة في القرآن، ومضمونها: "إنّ امرأة وبصحبتها طفلها الوليد قصدت الشيخ الدسوقي في مسجده كي تنال البركة، وفي طريقها للعودة التهم أحد التماسيح طفلها؛ لأن المسجد كان بمحاذاة نهر النيل، واستطاع الشيخ الدسوقي أن يستخرج الطفل من بطن التمساح، ويرده إلى أمه سالماً"، ولا زال بالمسجد إلى الآن بقايا من العمود الفقري لهذا التمساح، شاهداً على قدرته وكشف الحُجب عنه، وبصرف النظر عن أوجه التشابه الواضحة بين محتوى تلك القصة وقصة النبي يونس والحوت، وجهل هذه المرأة بالزمن التاريخي الذي يستحيل معه ذكر كرامة الدسوقي في القرآن، لكنّ الأهم أنّها لم تقتنع بعدم صحة اعتقادها، لاعتمادها على العقل الجمعي، ممثلاً بالأهل ورجال الدين في المسجد، الذين أخبروها بذلك، ولا يمكن أن يكون هؤلاء على خطأ، حسب وجهة نظرها.
وهذه المسألة تجعلنا ننتقل إلى نقطة أهم وأخطر من ذلك، فيما يتعلق بعلاقة النصّ التأسيسي بالعنف والإرهاب، كما تستخدمه الجماعات الإرهابية والأفراد المتبنين للفكر السلفي المتشدد، وننتبه جيداً لإجابات بعضهن حين سُئلن: ما رأيكن في الآيات القرآنية التي تستخدمها جماعة مثل داعش في تنفيذ عملياتها الإرهابية؟ رفضن تماماً أن يحتوي القرآن الكريم على مثل تلك الآيات، حتى في حال ثبوتها، فإنّ أفراد هذه الجماعات هم من قاموا بتحريفها كي تتناسب مع مصالحهم التي يتآمرون بها على المجتمع؛ لأنّه يستحيل أن يكتب الله، الرحيم المحبّ، في كتابه شيئاً قبيحاً كهذا، هُنّ عبّرن عن رؤيتهن بمنتهى العفوية، دون أن يُدركن خطورة ما صرّحن به، وهي رؤية، بطبيعة الحال، ليست نابعة من المعرفة بالشيء، إنّما مستمدة من تكوين الصورة الإلهية المبلورة بوعيهن الذاتي.