هيثم الزبيدي.. رسائل الإسلام السياسي

هيثم الزبيدي.. رسائل الإسلام السياسي

هيثم الزبيدي.. رسائل الإسلام السياسي


22/05/2025

هشام النجار

استدعى رحيل رئيس تحرير جريدة “العرب” الدكتور هيثم الزبيدي إلى ذاكرتي محطات مررتُ بها منذ التحاقي بالصحافة وتخصصي في ملف التطرف والإرهاب قبل أكثر من ربع قرن في لبنان إلى اليوم.

كثيرون لا يعرفون كيف يتكون كاتب ناضج متخصص في ملف ما، وقد لا يعرفون كيف يكون أداء رئيس تحرير مؤسسة صحفية كبيرة، وكيف يعمل ويُوجه ويُدير، كما أن الغالبية لا تعرف تلك العلاقات والمساحات المعرفية والرؤى شديدة التطور والخصوصية -بجانب الشِق الإنساني- التي تجعل من تجربة ما مؤثرة وجديرة بأن تكون ضمن عروض الجذب الجماهيري عبر مباريات التدافع الحضاري والفكري والمغالبة الثقافية.

تخصصتُ في ملف التطرف والإسلام السياسي بمحض الصدفة، حيث بدأت كمحرر أدبي من منطلق كوني قاصا وناقدا، لكن مشرف الصفحة بجريدة شهيرة تصدر من بيروت اطلع على كراسة كتبتها قبل ثلاثين عامًا في نقد مفاهيم الجماعات المتطرفة فوجهني منبهرًا إلى الكتابة في الملف.

مررتُ بمحطات كثيرة، لكن الذي جعلني مُحترفًا (أو هكذا أظن) محطتان رئيسيتان، الأولى جريدة “الأهرام” العريقة في مصر واقترابي من قاماتها وكوادرها وتتلمُذي على يد بعض كبار مُحترفيها، حيث أكتب فيها بصفة دورية منذ عام 2014، والثانية جريدة “العرب” وعلى صفحاتها مُنجَزي الذي أراه من وجهة نظري مهمًا ومتطورًا في رصد وتحليل ظاهرة التطرف والإرهاب وتوثيق نشاطات تيار الإسلام السياسي وتتبع مساراته وكشف خلفياته واستشراف مآلاته في الشرق الأوسط ومختلف قارات العالم على مدار ما يُقارب العشر سنوات.

لم يكن الأمرُ سهلًا، فهذه ساحة تنافسية مُعقدة، لا يتميز فيها وسط أهم الكوادر الصحفية بالوطن العربي إلا المُتفرد بعمق رُؤاه وتحليلاته، والملف هو الأكثر أهمية وحساسية، ولا يتعلق فحسب بأداء عمل مُتخصِص يُسلط الضوء على أدق ما يتعلق حاضرًا ومستقبلًا بالجماعات التكفيرية فكرًا ومنهجية وحَركية وبما يُفيد القراء والمختصين وصُناع السياسات، إنما يرتبط بجهد نِضَالي دفاعًا عن الإسلام الذي تُمعِن التنظيمات ومن خلفها أجهزة عديدة في تشويهه، وعن الأوطان التي تُمعِن في تفكِيكِها وتقسيمها وتسليم ثرواتها غنيمة باردة للقوى الاستعمارية الطامعة النَهِمَة.

لم أُقابل الراحل العظيم هيثم الزبيدي يومًا بشكل مباشر، لكن قابلته مِرارًا وكثيرًا جدًا ويوميًا بين أسطر وكلمات مقالاتي، فوجهه بملامحه الودودة والصارمة معًا، وما عرفتُ عنه من سِمات الرُقي المعرفي والفكري والإنساني من الصديق الكاتب الصحافي الكبير محمد أبوالفضل (مدير مكتب “العرب” بالقاهرة)، كان من ضمن وجوه عدة لأساتذة كبار تأثرتُ بهم في مسيرتي.

يضعني استحضار وجوه وعقول ومُنجز الأساتذة في مخيلتي وأنا أكتب في حيز الإجادة والتميز، وهو ما أجده في ثناء مفكرين كبار ومختصين على ما أكتب، واهتمام بعض المنصات الأجنبية بنقله وترجمته عن “العرب”.

كتبتُ مئات التحليلات والدراسات المُهمة التي أثنى عليها مفكرون كبار، لكن أرى أن أدق وأرقى ما كتبت تلك التي كتبتُها بناءً على تكليف من الدكتور هيثم الزبيدي، وهو ما أطلقتُ عليه طريقة “أبوالفضل – الزبيدي”.

يُرسل الدكتور هيثم رحمه الله عن طريق مدير مكتب “العرب” بالقاهرة رسالة بها محاور محددة حول موضوع ما بملف الإسلام السياسي وبجانبها التكليف باسمي، وغالبيتها تكشف مدى ما تمتع به من قدرة على قراءة الواقع ودفع باتجاه استشراف مآلاته أو طرح رؤى بديلة لإصلاحه.

أنتج أنا المقال بالتسلسل والعُمق المطلوب على ضوء المحاور الموضوعة بالرسائل في وقت قياسي بشكل يُبهِرُني شخصيًا ولا أستطيع تفسيره، متخيلًا أن الدكتور هيثم بجانبي ينتظر أن أفرُغ من المقال ليقرأه ويُقيمَه، رغم أنه هناك في لندن وأنا هنا في صَوْمَعتي بمصر، كما يُسميها أولادي، بين كتبي جالسًا خلف مكتبي.

عرفتُ بمرضه قبل فترة ولم أتخيل أن يرْحَل سَريعًا، وآملتُ أن يُواصل طويلًا في ساحات نضاله العديدة التي يعلم المقربون منه كم كان جَسُورًا مِغوارًا فيها، لكنه الموت لا يستثني أحدًا، وعزاؤنا أنه رجل صَالح وعَمَل عملًا صالحًا، وأن الله وعد أمثالَه الجنة.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية