هل يمكن تحقيق "الأمن البحري"؟.. هذه أبرز المساعي في مواجهة التهديدات المتصاعدة

هل يمكن تحقيق "الأمن البحري"؟.. هذه أبرز المساعي في مواجهة التهديدات المتصاعدة


01/09/2021

تبرز أهمية حركة الملاحة في المياه الدولية، مع استحضار حقيقة مرور أكثر من ثمانين في المائة من حجم التجارة العالمية من خلالها. وقد باتت تكتسب المزيد من الأهمية مؤخراً مع انتشار نموذج "الاقتصاديات الزرقاء"، وهي المعتمدة في اقتصادها على التجارة والأنشطة البحريّة بشكل أساسيّ، وما ترافق مع ذلك من تزايد التوترات بين الدول في مناطق بحريّة حساسة، من القطب الشمالي، إلى بحر الصين الجنوبي، إلى الخليج العربي. وبالتالي يتزايد السعي من قبل المجتمع الدولي إلى تأمين وحماية حركة الملاحة البحرية، عبر إقرار الاتفاقيات وتشكيل التحالفات الدولية، والتي تضمن الحفاظ على الأمن البحريّ.

توافق وإجماع دولي واسع.. على المستوى القانوني

جاء اعتماد أولى الاتفاقيات التي عُنِيَت بسلامة حركة الملاحة عبر المياه الدولية في العاشر من آذار (مارس) عام 1988، في العاصمة الإيطالية، روما. وعرفت باسم "اتفاقية قمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الملاحة البحرية"، واختصاراً بـ (SUA). وتم الاتفاق فيها على حظر ومعاقبة أي أعمال قد تهدد سلامة الملاحة البحرية. وبدأ تنفيذ الاتفاقية في الأول من آذار (مارس) 1992. في البداية كانت قد وقّعت عليها (15) دولة فقط، وفي عام 2015 وصل عدد الدول الموقعّة إلى (166) دولة.

جاء توقيع الاتفاقية الدولية في أعقاب تصاعد الأفعال التي هددت سلامة السفن خلال الثمانينيات

جاءت الاتفاقية نتيجة تصاعد القلق من الأفعال غير المشروعة التي هددت سلامة السفن وأمن الركاب والطواقم والتي تنامت على نحو لافت خلال سنوات عقد الثمانينيات من القرن العشرين. ومن ثم وبالترافق مع تتابع وصول تقارير طواقم السُفُن التي خطفت أو تعرضت لهجمات، تم تناول الأمر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1985 خلال اجتماع المنظمة البحرية الدولية (IMO)، بهدف وضع تدابير كفيلة لمنع هذه الاعتداءات. إلى أن تطوّرت المباحثات إلى عقد المؤتمر الخاص بصياغة واعتماد بنود "اتفاقية قمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الملاحة البحرية"، في آذار (مارس) 1988.

تلزم "اتفاقية قمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الملاحة البحرية" حكومات الدول المنضمة إما التسليم أو المحاكمة للمتهمين

الغرض الرئيسي من هذه الاتفاقية هو ضمان اتخاذ الإجراءات المناسبة ضد الأشخاص الذين يرتكبون الأفعال غير المشروعة ضد السفن، بما في ذلك من أعمال الاستيلاء على السفن بالقوة وأعمال العنف ضد الأشخاص والطواقم على متن السفن، أو وضع أجهزة ومتفجّرات على متن السفينة من شأنها أن تدمرها وتتسبب الأضرار بها، حيث تلزم الاتفاقية حكومات الدول المنضمة إما التسليم أو المحاكمة للمتهمين.

وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2005 اعتمدت تعديلات، في شكل بروتوكول ملحق بالمعاهدة، وبحيث تم إضافة أحكام تجرّم استخدام السفن لنقل أو تفريغ أسلحة بيولوجية أو كيميائية أو نووية، مع النصّ على أنّ نقل المواد النووية لا يعتبر جريمة إذا تم نقلها بين الدول الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.

البرنامج العالمي لمكافحة الجريمة البحرية.. خطوة أبعد في المكافحة

إلا أنّ الاقتصار بمستوى التعاون بين الدول على تسليم المجرمين من المعتدين على السفن وحركة الملاحة البحريّة لم يكن كافياً وحده لإنهاء ووقف الاعتداءات، وهو ما ظهر تحديداً مع تصاعد هجمات التنظيمات الإرهابية وبخاصّة الهجمات المصاحبة والتالية لهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، مع وقوع سلسلة من الأعمال الإرهابية ضد السفن، بدايةً من تفجير المدمّرة الأمريكيّة "يو إس إس كول"، في تشرين الأول (أكتوبر) 2000، بينما كانت ترسو في ميناء عدن باليمن، ومن ثم حادثة الانفجار في ناقلة النفط الفرنسية العملاقة "ليمبورغ" في خليج عدن عام 2002، وسفينة الركاب الفلبينية "SuperFerry 14"  عام 2004، إلى درجة أن ظهر وتطوّر في حينه مصطلح "الإرهاب البحري" (MARITIME TERRORISM). وتزامن ذلك مع موجة من تصاعد أعمال القرصنة في مضيق "ملقا"، الواقع بين أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة. ومن ثم أعقب ذلك تصاعد هجمات القرصنة البحريّة في القرن الأفريقي بين عامي 2007 و2012.

أدى وقوع حوادث مثل الاعتداء على السفينة الأمريكية "يو إس إس كول" إلى تفعيل برامج مباشرة لمكافحة الاعتداءات

كُلّ ذلك دفع بالأمم المتحدة إلى إطلاق "البرنامج العالمي لمكافحة الجريمة البحريّة" في عام 2009، والذي يضم حوالي (170) طاقماً في (26) دولة. حيث تقوم الطواقم العاملة في هذا البرنامج بتقديم المساعدة في التدريب وبناء القدرات، والتزويد بالعتاد، والدعم للإصلاح القانوني، وتطوير مراكز للتدريب الملاحي. كما وتشرف على إطلاق عمليات مكافحة الإرهاب والقرصنة في البحار. ومن أهم الأنشطة الحالية لهذا البرنامج المشروع الخاص بالتصدي لتهديد القرصنة الصومالية، والذي يعتبر الآن أكبر مشروع، بميزانية تناهز الربع مليار دولار.

استراتيجيات لتعزيز الأمن البحري

وعلى صعيد الدول والمنظمات الإقليمية، مثل الناتو، والاتحاد الأوروبي، فإنها شرعت كذلك بتطوير استراتيجيات بهدف الحفاظ على المصالح المرتبطة بالأمن البحري. إذ قامت بريطانيا بتطوير "الاستراتيجية الوطنية البريطانية للأمن البحري" (NSMS)، الصادرة في العام 2014. وتحدد الاستراتيجية نهج بريطانيا في توفير الأمن البحري في مياهها الإقليمية وفي المياه الدولية التي تمر عبرها حركة التجارة المرتبطة بها. وتهدف لتعزيز مجال بحري دولي آمن ودعم وتطوير قدرات وإمكانيات تأمين الطرق البحرية للدول في المناطق ذات الأهمية لحماية المصالح المرتبطة بالاقتصاد البريطاني، من الأنشطة الخطيرة، بما في ذلك مختلف أشكال الجريمة المنظمة والإرهاب.

تصاعدت الهجمات الإرهابية ضد السفن بالتزامن مع هجمات الحادي عشر من أيلول 2001

وفي ذات العام أصدر الاتحاد الأوروبي "استراتيجية الأمن البحري للاتحاد الأوروبي" (EU MSS)، وهي أوّل إطار شامل للمبادئ المشتركة لحماية المصالح البحريّة الاستراتيجيّة للاتحاد الأوروبي، وتهدف لضمان تحقيق استجابة أوروبيّة للتحديّات الأمنيّة المتزايدة في المياه الدولية. وفي حزيران (يونيو) 2018 اعتمد الوزراء الأوروبيّون خطّة عمل حول الأمن البحري تدعم الالتزام تجاه ضمان الأمن البحري في أوروبا وحول العالم. وذلك وفق نظرة شاملة للأمن البحري تشمل تحديّات القرصنة والإرهاب والتّهديدات الإلكترونيّة والمخاطر الكيميائيّة والبيولوجيّة والإشعاعيّة والنوويّة، وتتضمن الاستراتيجية مخططاً لحماية البنى التحتيّة البحريّة الأساسيّة، من الموانئ، والسفن، ومنصّات الطّاقة في عرض البحر. مع التركيز على أهمّ المناطق السّاخنة مثل خليج غينيا والقرن الأفريقي.

تحالف دولي من أجل تأمين إمدادات الطاقة

وأحدث التحالفات المعنية بأمن الملاحة البحرية الدولية هو "التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية"، والذي أنشأ في العام 2019، ويقع مقر قيادته في البحرين، ويهدف إلى حماية وتأمين الملاحة البحرية في الممرات المائية، وضمان التدفق الآمن لحركة التجارة، وذلك بالتحديد في مياه الخليج العربي، ومضيق هرمز، وخليج عُمان، وبحر العرب، ومضيق باب المندب والبحر الأحمر. حيث جاء تشكيل هذا التحالف في أعقاب وقوع عدد من الهجمات ضد منشآت نفطية وناقلات نفط في المناطق المشمولة، وألقي باللوم ومسؤولية القيام بها على إيران التي استمرت بنفي الاتهامات، والتي تم فيها بشكل أساسي استخدام زوارق استهدفت السفن، هذا فضلاً عن قيام إيران باحتجاز سفينة بريطانيّة في تموز (يوليو) 2019.

سفن حربية بريطانية مخصصة لحماية مناطق الصيد البحري

يهدف التحالف بالدرجة الأولى لضمان أمن الطاقة العالمي واستمرار تدفّق إمدادات الطاقة، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي من دفعت وراء تشكيل التحالف، وذلك بعد الدعوة لتأسيسه من قبل رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، جوزيف دانفورد، في تموز (يوليو) 2018. وتسعى من خلاله لقيادة عمليات المراقبة البحرية وتوفير سفن حربية لمهمات القيادة والسيطرة، على أن تسيِّر الدول المنضمة دوريات بحرية وتوفّر مرافقة للسفن. وإلى جانب الولايات المتحدة، انضمت له حتى الآن كل من السعودية، والإمارات، والبحرين، وأستراليا، وبريطانيا، وألبانيا، وليتوانيا، وأستونيا.

جاء تشكيل التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية في أعقاب تزايد الهجمات في مناطق الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب

يتطلب تحقيق الأمن البحري على المستوى الدولي تكاملاً وتعاوناً واسعاً بين أكبر عدد من الدول، وهو ما ظلّ مقتصراً على قدر من الإجماع ضمن المستوى القانوني، كما ظهر في الانضمام الواسع لاتفاقية العام 1988، إلا أنّ مثل هذا الإجماع لا يزال متعذراً على مستوى التعاون الأمني الذي يتطلب عمليات عسكريّة، وبالتالي ظلّ هناك قدر من القصور، خصوصاً مع تزايد التنافس والتوترات الدولية في البحار والمحيطات، وهو ما حاولت عدد من الدول والمنظمات الإقليمية تجاوزه، عبر تفعيل استراتيجياتها وتحالفاتها الخاصة لتحقيق الأمن البحري.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية