هل يغذي التعاون السلوك العنفي؟ كيف؟

هل يغذي التعاون السلوك العنفي؟ كيف؟


26/02/2022

يحيل مفهوم التعاون إلى نشاط جماعي يُسهّل إنجاز الأشياء، فمشاركة الآخرين تعوّض نقص المقدرة الفرديّة في أيّ جانبٍ كانت، بينما تتبدى الإحالة الأعمق لهذا المفهوم في أننّا أصلاً كائنات اجتماعيّة، يشكّل التعاون جوهر طبيعتها، أو كما يراه عالم النفس "إريك إريكسون": "هو أساس التطوّر البشري، فإننّا نتعلّم أن نكون سويّة قبل أن نتعلّم كيف نقف منفصلين"، فالأفراد لا يمكن أن يتطوروا في عزلةٍ عن بعضهم البعض، لذلك فإنّ التعاون يفتح إمكانات الوجود البشري على أقصاه، ويساهم في اختبار الكيفيّات التي يمكن أن تؤدي إلى إقامة العلاقات مع الآخرين، ويحفّز الوعي الذاتي الذي يتخلّق حسب "إريكسون"، عبر سياق التواصل والتجريب مع الآخرين.

اقرأ أيضاً: ماذا يعني مجتمعات مستقرة؟

تختصر(مع الآخرين) دلالات التعاون كافة، فهو ما ينجز مع آخرين، سواء كان مادياً أم معنوياً، وإذا ذهبنا مع "إريكسون" في أنّ الوعي الذاتي يتخلّق عبر سياق التواصل والتجريب مع آخر، فهذا يعني: أنه ليس بمستطاع الذات أن تعي ذاتها إلّا بوعيها للآخر بوصفه طريقاً إلى الذات، فالتشارك المضمر في التعاون، أحد تعيّنات الإرادة الحرّة لأفرادٍ متفقين بأنّ الاختلاف هو من يمنحهم القدرة على التكامل، والتشارك باعتباره تمريناً اجتماعياً على إنسانيتنا يجعل من التكامل النتيجة المنطقيّة للتعاون، ولكن هل هذا ما يحدث فعلاً؟ إذ إنّ هناك وجهاً آخر للتعاون، قد يحرف قيمه الإنسانيّة عن مسارها، "فريتشارد سينيت" في كتابه "في مواجهة التعصب" يرى أنّ "التفكير بالتعاون كقيمة أخلاقيّة فقط، يعيق فهمنا له"، فقد تتعاون مجموعة من المجرمين بفعالية وكفاءة عالية في عمليّة سرقة منظمّة، أو قد يتوّج تعاون مجموعة من العلماء بإنتاج أكثر القنابل فظاعة وفتكاً.

قد تتعاون مجموعة من المجرمين بفعالية وكفاءة عالية في عمليّة سرقة منظمّة، أو قد يتوّج تعاون مجموعة من العلماء بإنتاج أكثر القنابل فظاعةً وفتكاً

ينتج التعاون الهدّام عن قصور أخلاقيّ في عموم المجتمعات التي تتعاطى (الغاية تبرر الوسيلة)، فلا يمكن قراءة غياب السلام العالمي إلّا كمؤشرٍ على الوضعيّة المأزقيّة التي ينتجها الاجتماع البشري، من خلال أشكال التعاون التي تقود بطرق مباشرةٍ وغير مباشرة إلى تغذية سلوكٍ عنفيّ شاملٍ، تتوّجه تعاونيات الحروب المزدهرة؛ إذ إنّ تغييب القيم الأخلاقيّة المنتجة للتعاون، هي أحد أهم مناورات الأيدولوجيا للحفاظ على التسلّط وبقائه، فالتعاون حسب "سينيت" "حرفة تتطلب من البشر الفهم والاستجابة للآخر"، فالفهم باعتباره إصغاءً لآخر مختلفٍ، هو جهدٌ متطلّب لوعي الفروقات الثقافيّة والمعرفيّة بين الأفراد، وإيجاد نقاط الاتفاق وإدارة الاختلاف، وهذا ما يشكل التعاون البناء الذي افتقده ويفتقده التاريخ البشري في الكثير من مراحله المفصلية، التاريخ الذي تم نسجه بالخوف والتوجس والانغلاق.

اقرأ أيضاً: هل يبرر الخراب مغادرة الأرض؟

تحتل صيغة التفكير "نحن  - ضد - هم"، مجمل السلوك البشري؛ فالعلاقات التي ينتجها البشر فيما بينهم، يحظى النزاع فيها بمقبوليّة عامة، طالما أنّ نظم التربية التي توجهها أيديولوجيا متعالية، ترى في التفوّق سمة فارقة بالنظر إلى من هم خارج دائرتها، بمعنى أنها تستثمر التعاون دون أن تنزع عنه قشرة التنافس، ممّا يجعل انفتاحها الشكلي على الآخر انغلاقاً ضمنياً عنه، إنها تتناول التعاون من زاوية محددة، عبر تعزيز قدرة النّظم التعليميّة على جعل اللامساواة شرطاً لإبراز الذات وتميّزها، إنها تدير أسفل الطاولة حرب الجميع ضد الجميع، من خلال تمييع القيم التعاونيّة التي تتحدد شروطها في التواصل والانفتاح والاعتراف بالمساواة، لتشيّد في زواياها المظلمة قلاع التعاون ضد الآخر.

اقرأ أيضاً: العالم ينحدر.. هل نحتاج عرّافاً؟

إنّ تنامي النزعة الفرديّة يترافق في المحصلّة مع غياب قيم التعاون، وإن كانت الأنظمة التربوية تدعم هذه النزعة عبر تكريس التراتبيات الهرميّة داخل فضائها، فهذا يعود أساساً لأنّ مهمتها الأساس هي النظر إلى الطفل كوسيلة لا كغاية، مما يجعل التعلّم ميداناً عريضاً للمنافسة، وبهذا يكون التعاون الذي تنتجه أو تفرضه الأنماط التربوية، يؤسس لمبدأ التعاون الهدّام، والذي يعتمد أساساً على التلاعب في الفارق بين الرغبة والخشية وبين الإرادة والخضوع، حيث يدفع هذا التشويش الأطفال إلى ترجيح كفّة الانسحاب الاجتماعي في تجاربهم، على كفّة التعاون والتضامن مع الآخرين، فاللامساواة المفروضة سوف تُنتج عالماً منقسماً على نفسه، يحرم الأفراد من قدرتهم على الاختيار في أن يكونوا معاً، مع الآخرين.

تنامي النزعة الفرديّة يترافق في المحصلّة مع غياب قيم التعاون، وإن كانت الأنظمة التربوية تدعم هذه النزعة عبر تكريس التراتبيات الهرميّة داخل فضائها

كما أنّ النقلة الخاطئة على رقعة الشطرنج تلاحق اللاعب حتى نهاية الدور، كذلك فإنّ أخطاء التنشئة الاجتماعيّة، سترافق الطفل كنتيجة حتميّة لخبرات منقوصة لم تأخذ حقّها في التفتح والنضج، لقد تمّ توظيف الفروقات لا لصالح تعاون أكبر وأشمل، بل لتعميق التفاصل والتحاجز الاجتماعيين، وكأنهما (التفاصل والتحاجز) معطىً قبلياً لخلفية الأفراد الوجوديّة، ففي عالمٍ يهمل أخلاقيّة الوسائل وصلاحيتها، مقابل الغايات التي تبررها، تبرز لغة الامتيازات التي تهمل قيم التعاون والتضامن الإنساني، وتُمنح قوى التملّك والتسلّط  دوراً حاسماً في تصفية مرتكزات الوجود الاجتماعي، كأفراد نتواجد معاً ونعتمد على بعضنا البعض، أو بتعبير "ماكس فيبر": "لا مكان للآخرين في الكفاح الاستحواذي لإثبات الذات".  

اقرأ أيضاً: ألم يحن الوقت لإعادة التفكير بقيمنا؟

"وتعاونوا على البرّ والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، إنّ الآية الكريمة بكلّ وضوح ودون أيّ لبس، تبيّن الفرق ما بين التعاون البنّاء والتعاون الهدّام، ما بين أن نبدأ من تعاون يجعل من الآخر شريكاً في الحياة، ويخلق فرصة لأن يرتقي الإنسان بإنسانيته، ويتيح له أن يعيد اكتشاف الحب في الوجود، أو من تعاونٍ يجعل من الآخر عدواً، ومن الحياة جحيماً، والنتائج دائماً ابنة مقدماتها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية