يذهب كثير من الكتّاب والباحثين والمحللين السياسيين إلى أنّ على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يكون قلقاً فعلاً؛ ربما مرّت فترة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على خير، أو بأقلّ الخسائر الممكنة، حين حاول أن يعاقب تركيا على سياساتها واستفزازاتها للولايات المتحدة ولمنطقة الشرق الأوسط تحديداً، على سبيل المثال، بمحاولة امتلاك صواريخ إس - 400 الروسية، لكنّ ترامب بالمقابل، وحسب تحليلات سياسية، حمى تركيا من عقوبات محتملة كثيرة، لم تُظهر تركيا أو أردوغان إزاءها قلقاً مناسباً.
أمريكا معنية اليوم بإعادة إنتاج شخصيتها الاعتبارية ليس في الشرق الأوسط فحسب بل على مستوى العالم
ربما كانت الصداقة التي تجمع ترامب وأردوغان حجاباً حاجزاً لأيّ قلق محتمل، وقد ذهب ترامب وترك خلفه تلك الصداقة غير المريحة، وبقي أردوغان يحاول البحث عن أسباب مريحة لعلاقة إيجابية مع بايدن، لكنّ الأخير ربما غير معني بهذا، أو على الأقل غير مستعجل، فهو لم يفكّر بالاتصال بأردوغان، ولا حاول أن يوجّه لأيّ نوع من أنواع التواصل معه، في رسالة ضمنية لتركيا مفادها أنه يجب أن يكون ثمّة مساحة متاحة للقلق في العهد الجديد.
اقرأ أيضاً: اعتبرها "مزحة".. أردوغان غاضب من أمريكا.. لماذا؟
بايدن معني بإحداث تغييرات عميقة وحاسمة في كلّ السياسات الأمريكية وفي كل الملفات، بما في ذلك ملف "إسرائيل"، فهو أيضاً لم يحاول الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو"، وهذا الأخير يحاول أن يجمّل الأمر عبر تصريحات هنا وهناك على ألسنة سياسيين إسرائيليين بأنه غير منزعج من هذا الأمر أبداً، وقد يكون العكس هو الصحيح، إنه يحاول أن يقول بطريقة دبلوماسية تحسب له لا عليه: إنّ كلّ هذا الذي يحدث يخلق لديه الانزعاج. ومع ذلك فالانزعاج ليس من قبيل التخوف على أن يغامر بايدن بإخراج إسرائيل من ثوابت السياسة الأمريكية، لا يعقل أن تصل الأمور إلى هذا الثقب الأسود الذي يمكنه أن يبتلع بايدن فيما لو كان يفكر بهذا، لكنّ ذلك مستحيل أن يحدث، مهما كان من خلافات وأزمات قديمة نسبياً تقود إليها قراءات منطقية في تفاصيل العلاقة بين نتنياهو الذي أخذ مجده في عهد ترامب، وبايدن الذي لا ينسى الإساءات التي وجهها له نتنياهو بشكل غير مباشر، حين كان نائباً للرئيس الأمريكي، لكن تبقى إسرائيل ثابتاً مستقراً من ثوابت أمريكا في كلّ عهود الديمقراطيين والجمهوريين.
اقرأ أيضاً: عقيدة أردوغان: دولة الجنود والجواسيس هي تركيا الحديثة
لنعد قليلاً إلى تركيا وأمريكا، إلى جو بايدن ورجب أردوغان، والقلق المحتمل إزاء علاقة تحالف محتملة أو مزعومة بين الجمهوريتين "الأمريكية والتركية"، بايدن يريد أن يحدث تغييراً مهماً في سياسته في الشرق الأوسط، وبما أنّ تركيا "مستبدة" بحسب تعبير "بايدن"، فإنه معني جداً باستدراجها إلى منطقة القلق والتوتر، وإدخالها مجدداً داخل آلات مصنع إعادة إنتاج العلاقات وتدويرها، بشكل جديد ومستوى جديد، حتى وزير خارجيته أنتوني بلينكن، حين أراد أن يكسب ودّ وتأييد مجلس الشيوخ لتعيينه وزيراً للخارجية، لجأ إلى هزّ العصا في وجه تركيا، حين قال: إنّ "شريكاً استراتيجياً مزعوماً لا يتصرّف في نواحٍ كثيرة كحليف".
اقرأ أيضاً: الجنود الأتراك يدفعون ثمن سياسة أردوغان في العراق... ماذا حدث؟
ولنعد أيضاً إلى رجب طيب أردوغان، فهو حتماً وقع في فخ القلق، ويحاول تسلق جدران التوتر القائمة مع واشنطن، لكن باعتقادي الأمر بلا جدوى، لن يكون قادراً على اختراق جدران القلق والتوتر ما لم يذعن قليلاً، أو يقدّم شيئاً أعلى من رسائل التطمين، هذا النوع من الرسائل لن يقنع بايدن، عليه أن يقدّم تنازلاً "يفقد معه ماء وجهه"، حسب تعبير "غونول تول" من معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إذا فعل ذلك، فسيكون الجميع ـ من سياسيين ومحللين سياسيين - على قناعة تامّة بأنّ ثمّة من سيتكفل بإقناع جو بايدن "بمقاربة واقعية" مع تركيا.
أردوغان لن يكون قادراً على اختراق جدران القلق والتوتر مع واشنطن ما لم يذعن قليلاً
بعد عهد ترامب، شعرت كلّ النخب السياسية الأمريكية بأنه حدث لأمريكا وسطوتها وهيمنتها، على منطقة الشرق الأوسط تحديداً، شيء يشبه أو يقارب معنى التراجع، أو على الأقل، أوجدت سياسة ترامب من يزاحم أمريكا، ويخلق لنفسه مساحة مقلقة على حساب مساحة أمريكا، تحديداً ما أحدثته روسيا من إرباك وارتجاف في يد واشنطن، باختراقها كتلة كبيرة من النفوذ الأمريكي في المنطقة، وتحديداً ما حاولت تركيا أن تحدثه من تفلت من هذا النفوذ، هروباً باتجاه النفوذ الروسي سياسياً وعسكرياً. كلّ ذلك وغيره أيضاً يفسّر تقريباً البطء في التحرك السياسي الأمريكي تجاه المنطقة، وأنّ إحداث مستوى من القلق قد يكون بمثابة رسول دبلوماسي جيد قبل اتخاذ أيّ موقف حاسم.
اقرأ أيضاً: الإسلاموفوبيا ورقة أردوغان لتدعيم أجنداته الداخلية والخارجية
الرئيس الأمريكي بايدن يطهو وجبات سياسية على نار هادئة، فما انفلت من القبضة الأمريكية لا يعيده بقوة إلا الهدوء والدهاء الأمريكي في ثوبه الجديد، فالولايات المتحدة معنية اليوم بإعادة إنتاج شخصيتها الاعتبارية، ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب، بل على مستوى العالم، وقد يأتي الشرق الأوسط في مراحل تالية ومتأخرة في تسلسل الأولويات الأمريكية، فحين يتصل الرئيس الجديد بايدن برؤساء فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكندا والمكسيك وروسيا، وحتى اليابان وكوريا الجنوبية والهند، قبل أيّ اتصال مع أيّ زعيم في المنطقة، فهذا يعني أمراً ليس هامشياً ولا عفوياً أبداً.
باعتقادي أنّ السياسة التي ينتهجها الرئيس جو بايدن تحاول أن تهمس في أذن الجميع هنا في هذا الشرق الأوسط البائس والمرتجف والخائف: "على الجميع أن يكون قلقاً، وحذراً، ومترقباً".