هل يجِب تغييرُ الدستور التونسي؟

هل يجِب تغييرُ الدستور التونسي؟


كاتب ومترجم جزائري
18/08/2021

ترجمة: مدني قصري

جاء قرار قيس سعيّد بتولي سلطات استثنائية استجابةً لأزمة ساهمت المؤسساتُ المنبثقة عن دستور 2014  في تفاقمها. لذلك أصبحت مراجعة الدستور مطروحة على جدول الأعمال أكثر من أي وقت مضى.

وبتفعيله في الأيام الأخيرة، في ظلّ ظروف مثيرة للجدل، للمادة 80 من الدستور، التي تمنحه سلطات استثنائية، قام الرئيس التونسي قيس سعيّد بما هو أكثر من مجرد تعليقٍ للمجرى العادي للسير المؤسّسي.

لقد عاقب فشلَ المؤسسات الناتجة عن دستور 2014 في مواجهة الأخطار التي تهدّد استقرار الدولة. بل حتى مسؤولياتها في الأزمة الصحية والمالية والاجتماعية والسياسية متعدّدة الأبعاد التي خابت فيها الآمالُ التي وضعها التونسيون في الثورة والديمقراطية.

بعد سبع سنوات، يبدو الموضوع الدستوري خائباً محبَطاً، مثل مصباحٍ لعلاء الدين وقد صار خاملاً بشكل ميؤوس منه، غير قادر على تحقيق أيّ أمنية.

لقد تعطّل تشكيلُ المحكمة الدستورية بسبب عدم وجود اتفاقٍ سياسي، فيما كان من المفروض أن تكون هذه المحكمة قائمة منذ نهاية عام 2015. ما زال مشروع إنشاء هيئات دستورية مستقلة (باستثناء مفوضية الانتخابات) عند نقطة الصفر. لقد ظلت قائمةُ المواد حبراً على ورق (عدم التمييز، إلغاء المحكمة العسكرية للمدنيين، والحق في المياه، وما إلى ذلك) أو غير فعالة (التهرب الضريبي، والفساد ، والمحسوبية في التوظيف، واستقلال القضاء، إلخ.)، ويطول الحديث في ذكر تفاصيلها. ولا يزال النموذج الاقتصادي يُنتِج الكثيرَ من الظلم الاجتماعي.

توطيد غالبية الأحزاب المنعزلة عن المجتمع، وتعطيل ظهور قوى جديدة غير قادرة على الوصول إلى عتبة الدخول إلى البرلمان، يُنمّي الانقسامَ بين المؤسسات والمجتمع

غير أنّ أكثر ما يجسِّد فشلَ الدستور هو عدم قدرة المؤسسات الديمقراطية على تغيير واقع البلاد.

لقد يئِس التونسيون، وإذا كانت تونس تستقطب اليوم المزيدَ من الاهتمام الدولي، فهذا الاهتمام سببُه انهيار نظامها الصحيّ وخطر تخلفها عن سداد ديونها الخارجية.

عدة مراكز للقوة

كان يجب على النظام الجديد أن يتوقّى خطرَين اثنين. من ناحية، خطر إعادة تشكيل رئاسةٍ استبدادية، من خلال إقامة نظام تعتمد فيه الحكومة على الأغلبية البرلمانية.

ومن ناحية أخرى، خطرُ وجودِ حزب أغلبية في المجلس يُحصِّن موقعَه داخل الدولة، ويستولي على جميع السلطات، من خلال منح رئيس الجمهورية شرعية انتخابية مباشرة.

وللتعبير عن هذه الرغبة في التوازن، فإنّ النظام له ثلاثة رؤساء متساوون في الكرامة، إن لم يكونوا متساوين في السلطة: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب.

بالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن يحصل نظامٌ كاملٌ من السلطات المستقلة - خمس هيئات دستورية، والمحكمة الدستورية، والمجلس الأعلى للقضاء – على عددٍ معيّن من السلطات المستقلة عن المؤسسات السياسية. كما يجب ضمان استقلالها من خلال استقلاليّتها المالية، ومن خلال طريقة تعيينها.

بالفعل، يتم انتخاب جزءٍ من أعضائها من قبل الجمعية بأغلبية مؤهَّلة (الثلثين، أو145 صوتاً)، ممّا يُجبر الأطرافَ على اختيار أعضاء بالإجماع.

في هذا التصور الدستوري، المطابق لـ "الممارسات الجيدة" الساري في الديمقراطية الليبرالية، تصبج السلطة "مكاناً فارغاً" وغير متجسّد، أي تنظيم من مؤسسات منفصلة ومستقلة، يُنتِج قدرةً على صياغة المصلحة العامة وعلى اتخاذ القرار، والذي يحتوي على مبدأ التقييد الذاتي من خلال استحالة قيام ممثل واحد بالاستيلاء على جميع الوسائل.

لكن هناك نوعان من "الإجماع": الأول "نبيل"، بخيارات تتجاوز مصالح الأطراف، والآخر ، "تجاري جشع"، من خلال صفقات، حيث يسعى كلّ طرف قبل كل شيء إلى تعظيم أرباحه. الأوّل يمكن أن يُنتج تحولات سياسية نوعية، والثاني يميل إلى إبقاء النظام في مكانه، مع دمج فاعلين جدد.

والحال أنّ طابع الانتقال "الموثَق"، القائم على صفقات بين النخب القديمة والجديدة، أي بين الدستوريين (ورثة حزب الحبيب بورقيبة) والإسلاميين، قد أعطى الأفضلية للشكل الثاني من الإجماع.

لكن، في الفترة من 2015 إلى 2019 أصبح الإجماعُ الذي قُوِّض بفعل انعدام الثقة بين عُنصُرَيْه الرئيسيّين، النهضة ونداء تونس، وبسبب انحراف هذا الأخير، عاجزاً عن تقديم إصلاحات كبيرة. وهو الفشل الذي أقرّته نتائج انتخابات 2019.

بعد ذلك، لم يعد حزبُ قلب تونس الذي يتزعّمه نبيل القروي، الذي ادّعى خلافة نداء تونس بعد انتخابات 2019، قوياً بما يكفي لعقد اتفاقٍ تدعمه أغلبية متضائلة.

خلقت الفجوةُ بين شرعيّة التمثيل النيابي المجزّأ والفاقد للمصداقية عموماً، وشرعية رئيس الجمهورية قيس سعيّد صراعاً على رأس الدولة أدّى إلى شلّ عملِ الحكومة الضعيفة والمعطّلة.

على نحو ما فعله التونسيون الذين بعد أن خيّب "التوافق" آمالهم، أرسلوا إلى قرطاج رئيساً عارَض الطابعَ التصالحي للمرحلة الانتقالية، وسَمح لـ "الفاسدين" بترسيخ سيطرتهم على الدولة، وهكذا تم إعاقة الآلية الأساسية للدستور.

ثلاثة مخارج ، ثلاث طرق مسدودة

كيف يتم معالجة هذا الخلل البنيوي في الدستور؟ تُمدِّد المقترحاتُ الجوانب الثلاثة لهذا المثلث السياسي.

النهضة هي الحزب الأكثر ارتباطاً بالطابع البرلماني للنظام، وهو شرط وجودها السياسي لأنه حتى الآن الحزب الأكثر ديمومة وثباتاً في المشهد.

لجعل النظام البرلماني أكثر فاعلية، اقترح هذا الحزبُ تعديلَ طريقة التصويت لتعزيز ثقل الأحزاب الكبيرة من أجل تشكيل أغلبية أكثر استقراراً.

فإذا تم الالتزم بالبُعد الكمّي، يبدو الخيارُ منطقياً، لكنه يُهمِل أهميّةَ جودة التمثيل، وهي شرط الاستقرار السياسي.

يعتقد الكثيرون أنّ النظام الرئاسي يعني إعادة تشكيل مركز واحد للسلطة، مصدر فريد للدفع السياسي، والتحكيم، مرتبط بحزب قوي. باختصار: سلطة شخصية أكثر من نظام رئاسي

الحال أنّ تونس ورثت نظاماً حزبياً وُلد في ظلّ ظروف خاصة من الديكتاتورية والسريّة. فهي ليست نتاج صراعات داخل المجتمع، بل نتاج تنافسٍ بين النخب المتنافسة من أجل السيطرة على الدولة.

فهي ليست متجذّرة في الانشغالات والمصالح والحساسيات الشعبية. فهي على الخصوص أجهزة لتوزيع المناصب والمزايا، ووسطاء التأثير من أجل مصالح خفيّة.

تناضل الديمقراطية من أجل إقامة أحزاب تمثيلية حقيقية. إنّ إصلاحاً لنظام التصويت قد يتّجه إلى إعادة إنتاج الانقسامات إلى أجل غير مسمّى، بين المحافظين والإسلاميين، والذي لا يراعي شيئاً من احتياجات التونسيين.

توطيد غالبية الأحزاب المنعزلة عن المجتمع، وتعطيل ظهور قوى جديدة غير قادرة على الوصول إلى عتبة الدخول إلى البرلمان، من شأنه أن يُنمّي الانقسامَ بين المؤسسات والمجتمع، مما يؤدي إلى مفاقمة نزع الثقة من الطبقة السياسية، وبالتالي إرساء السلطة على قاعدة سياسية تزداد انحساراً وتقلصاً إلى حد إثارة مسألة شرعيتها، وفي كل الأحوال حتى مسألة طابعها الديمقراطي الحقيقي.

إعادة صياغة النظام الرئاسي.

الخيار الآخر، الذي يتم طرحه في كثير من الأحيان لجعل المؤسسات أكثر كفاءة، هو إعادة صياغة النظام الرئاسي.

يشير مفهوم النظام الرئاسي إلى النموذج الأصلي، وهو نظام الولايات المتحدة، حيث يُعيّن الرئيسُ، المسؤولين في "إدارته" (الحكومة والإدارة المركزية)، ولكن في إطار فصْلٍ صارم للسلطات التي يمتلك فيها الكونغرس صلاحيات ووسائل تتيح له التحكم بشكل صارم في السلطة التنفيذية.

ولكن يعتقد الكثيرون أنّ النظام الرئاسي يعني إعادة تشكيل مركز واحد للسلطة، مصدر فريد للدفع السياسي، والتحكيم، مرتبط بحزب قوي... باختصار، سلطة شخصية أكثر من نظام رئاسي، يتعيّن عليها لتجنب الانجراف الاستبدادي، أن تسير جنباً إلى جنب مع سلطات مضادة قوية، أي مع منتخَبين يدينون لِمنتخبيهم أكثر مما يدينون لحزبهم، وأدوات مراقبة احترام دولة سيادة القانون من قبل المؤسسات، وعدالة مستقلة، ووسائل إعلام محايدة ومزوّدة بأخلاقيات غير قابلة للصدأ ... لكن هذا الخيار لا يخلو من مخاطر أيضاً.

مشروع قيس سعيّد

بنَى قيس سعيّد وصولَه إلى الرئاسة على اقتراح "عكس هرم السلطة"، انطلاقاً من مبدأ أنّ دستور 2014  يتماشى مع نفس الفكر الدستوري لدستور عام 1959، مكتفِياً فقط بتوزيع السلطات المركزية بشكل مختلف.

التعدّدية الحزبية والانتخابات لا تكفي لترسيخ السيادة الشعبية، ولاسيما معالجة أسباب الثورة، أي الشروخ الاجتماعية والمدنية. فلا يستبعد أنه ينوي استغلالَ فترة الصلاحيات الاستثنائية لِعرض هذا المشروع على الاستفتاء.

وتتمثل فكرته في استبدال فضاءات الأحزاب في اختيار المرشحين بنظام انتخاب من القاعدة إلى القمة.

لقد تم البحث عن تأثير على طريقة فيدرالية برودون Proudhon، لكن من الواضح أنّ قيس سعيّد يولي أهمية كبيرة للدولة شبه الصوفية، بحيث يصعب وصفها بالدولة الفوضوية، أو على طريقة النفوذ الليبي، لكن لا أثر للمؤسسات القبَليّة في مشروع قيس سعيّد.

عند الضرورة، يمكن البحث عن تشابه في المجالس المجتمعية التي أنشأها شافيز في فنزويلا في عام 2006، نظامٌ يوصَف بـ "الإمارة الصغيرة"، تصبح فيه السياسة الاجتماعية لا مركزية، من خلال إسناد سلطة القرار إلى السكان حول الاستخدام المحلي للإيرادات. في هذا المشروع، لا يكون الترابط بين السلطات الإقليمية والدولة واضحاً تماماً.

يمكن وصف هذا الخيار بـ "الشعبوية" بالمعنى التاريخي للمصطلح، وليس بصفته لعنة لإقصاء أيّ انتقاد للديمقراطية التمثيلية.

الشعوبوية بمعنى أنّ الأمر يتعلق بتعميق الديمقراطية من خلال جعل الشعب موضوعاً سياسياً. لكن الطريق لا يخلو من خطر. شعبوية "من فوق"، يستحوذ فيها قائدٌ متفَّق عليه بانتظام على تمثيل الشعب، ينقلب حتماً إلى ديكتاتورية، مهما كانت نواياه نقية.

شعبوية "من الأسفل" تؤسِّس حقاً سلطةً شعبية على مستوى القاعدة، يمكن أن تنحرف أيضاً عن المسار الديمقراطي. أولاً، يمكن أن تُعزّز البارونات المحلية، وتكرّس أو تبني الوجوهَ والجماعات التي تصادر محلياً فوائد ممارسة السلطة. هذا النظام يمكن أن يُولِد نشازاً لا يمكن السيطرة عليه من السلطات المحلية المتنافسة في مجال تخصيص الموارد، والذي يستجيب له تأطيرٌ ضاغِط من الدولة. وهو ما يمكن أن يعيد بسرعة تشكيلَ شكلٍ من أشكال "الدولة- الحزب".

باختصار، كل الخيارات لها مزاياها ومخاطرها.

السلطات الفعلية

كيف الخروج من هذا المأزق الثلاثي؟ كان خطأ مكوّنات عام 2014 في التقليد الدستوري، هو الاعتقاد بأنّ المجتمع يتغير من خلال القانون وحده. لقد اعتقدوا أنهم ينطلقون من صفحة بيضاء، دون الرجوع للخبراء الذين كانوا يقدّمون لهم نصوصاً جاهزة للاستخدام.

في حقيقة الأمر، فالدستور من حيث هو صفحة بيضاء فهو عبارة عن طُرس، أي نصّ يُغطي نصوصاً أخرى، ونصوصاً فرعية أكثر حيوية لأنها غير مكتوبة، وقواعد وسلطات فِعلية لا يمكن لأيّ مكتوب أن يُلغيها.

ما الذي نتحدث عنه؟ عن المفهوم الذي تتصوّره الإدارة العليا عن دورها، وعن قنوات التأثير بين دوائر الأعمال والدوائر السياسية، وعن جميع الحكام المحليّين الصغار الذين يمكنهم التأثير على القرارات الإدارية، وعن الصلات بين الإعلام والمال، وعن الشرطة، والعدالة التي تُحابِيهم وتعضِّدُهم دون تركِ أيّ أثر، والقُضاة الذين يستخدمون "استقلالهم" لفرض مفاهيمهم الأخلاقية بدلاً من القانون، أو يقبلون الرشاوى لتشويه التوازن، والوزن الذي تمنحه الأولوية الأمنية للشرطة، والاعتماد المالي على دول أجنبية، وخصخصة الخبرة (المعاينة) في تحديد السياسات العامة لصالح مكاتب الخبرة العالمية التي تشكلت جميعُها في نفس القالب ... والقائمة هنا ليست شاملة.

لقد فشل دستور 2014 الذي تأسس على أحزاب تحرّكها في المقام الأول دوافعُ الحفاظ على مصالحها، وعلى جهلها لسلطاتها الفعلية، في الوفاء بالوعد الذي قطعه للمتمرّدين في عام 2011.

والنتيجة واضحة أمامنا، فالشرخ لم يسيق أن كان بهذا القدر من العمق بين المجتمع والمؤسسات غير القادرة على تلبية تطلعاته. ففي هذا الشرخ العميق استقرّ قيس سعيّد.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

www.middleeasteye.net/fr




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية