هل صمود النظام الإيراني حتى الآن يمنحه مناعة السقوط؟

هل صمود النظام الإيراني حتى الآن يمنحه مناعة السقوط؟


02/10/2019

لمْ تجرِ الأمور بشكلها الطبيعي في إيران منذ قيام ثورة 1979؛ فالبلاد لا تكاد تغادر أزمة حتى تواجه حرباً، فإن خمدت نيران المدافع، اشتعلت الاضطرابات الداخلية، أو عّمت الاحتجاجات، والمظاهرات، أو أطبق الحصار، أو فرضت العقوبات.  وعلى الرغم من كل الأزمات التي يمرّ بها النظام الإيراني، والاحتجاجات المتتالية التي شهدها، لكن يبدو أنّ لديه قدرة على البقاء، والتحايل على تلك الأزمات، وهو ما يطرح تساؤلاً مشروعاً حول كيفية حصول هذا الأمر.
تشير كثرة الاحتجاجات الداخلية، والاضطرابات السياسية في إيران خلال العقود الثلاثة الماضية إلى تآكلِ شرعية النظام، وتفاقم الأزمات الهيكلية الداخلية؛ السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعني عمليّاً إخفاق "النموذج الثوري الإيراني" في الحكم.

تشير كثرة الاحتجاجات الداخلية والاضطرابات السياسية في إيران خلال العقود الثلاثة الماضية إلى تآكل شرعية النظام

وبالفعل، عانت إيران طوال أربعة عقود من عمر الثورة الإسلامية من عدة أزمات مركبة ومتداخلة ومتناسلة، على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، بل لقد بات اسم إيران مقترناً في الأذهان دائماً بالأزمات والصراعات والاحتجاجات والحروب، ولم يعد بالإمكان التوصل إلى فهم دقيق للحالة الإيرانية دون تفكيك هذه الأزمات البنيوية التي حكمت نظرة الإيرانيين إلى أنفسهم، وإلى العالم الخارجي.
وفيما يقدم النظام رواية رسمية تستند بشكل جوهري إلى فكرة المؤامرة الخارجية لتفسير ما تعيشه إيران من صراعات داخلية وخارجية، بادرت النخب الثقافية الإيرانية إلى البحث عن مقاربات مختلفة للحالة، عبر إعادة تقييم المدركات الجمعية الإيرانية تجاه الذات والآخر.

اقرأ أيضاً: بأي معنى جاءت مبادرة "تحالف الأمل" الإيرانية؟ وما فرص نجاحها؟
وقد مثّلت المواجهات السياسية والعسكرية الأخيرة التي خاضها النظام الإيراني في الداخل والخارج تجلياً لمركب الأزمات في إيران، وبينت خطأ الرهانات على أنّ حل ملفات سياسية بعينها، مثل الملف النووي، والتوصل إلى اتفاقات معينة بخصوصها، من شأن أن يوجد حلولاً، أو يُحدث انفراجاً في أزمات إيران الداخلية والخارجية، أو يعيد رسم المشهد الداخلي نحو الاعتدال، والانخراط البنّاء مع النظام الدولي.
ولعلّ أحد أبرز مظاهر الأزمة السياسية الهيكلية في إيران، هي حالةُ الصراع بين مراكز القوى السياسية والاجتماعية والإثنية، وتضارب المصالح بين أركانها في ظل التعريف المغلق للهوية الذي يتبناه النظام، علاوة على التنافس داخل النظام بين مؤسسات الثورة، ومؤسسات الدولة. ثم جاء دخول ظاهرة "الشبكات السياسية-الاقتصادية" إلى المشهد الداخلي ليزيده تعقيداً، وتأزماً؛ فبعد أحداث العام 2009، بدأت تتضح مؤشرات على مغادرة النظام السياسي الإيراني مرحلة التباينات بين القوى المُشكِّلة للنظام على أساس المنظومات الفكرية، والاتجاهات السياسية، والبرامج الحزبية، لصالح ظهور "شبكات" تقوم على خليط من الروابط العائلية، والمصالح الاقتصادية، والتقارب الثقافي-الاجتماعي.

بات اسم إيران مقترناً في الأذهان دائماً بالأزمات والصراعات والاحتجاجات والحروب

وتتصارع هذه الشبكات السياسية-الاقتصادية فيما بينها بشكل محموم على السلطة والموارد، ومنها: شبكة خامنئي، وشبكة آل لاريجاني، وشبكة كبار ضباط الحرس الثوري، وشبكة الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، وشبكة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.
وتنعكس أزمة النظام الداخلية، وحالة الصراع بين تياري الدولة والثورة، على السياسة الخارجية التي تتسم بالتناقض والتعقيد؛ ففي السنوات الأخيرة تراجع دور وزارة الخارجية في صنع هذه السياسة، وعلاوة على الدور التقليدي لمؤسسة "ولاية الفقيه" في توجيه السياسة الخارجية، دخل الحرس الثوري كطرف فاعل ثالث في مختلف ملفات السياسة الخارجية، بل إنّه فرض هيمنة مطلقة على ملفات سياسية خارجية بعينها كالعراق وسوريا ولبنان واليمن.

اقرأ أيضاً: استطلاع: 67% من الشباب العرب يرون إيران عدواً
واليوم هناك مصطلحات يجري تداولها على نطاق واسع في إيران، تصف نوافذ العلاقات الإيرانية بالعالم، بأنّها تمضي عبر ثلاثة مسارات؛ دبلوماسية الموظفين (والتي يديرها الجهاز الحكومي، عبر أجهزة وزارة الخارجية، ورئاسة الجمهورية)، ودبلوماسية الملالي (والتي يديرها مكتب الولي الفقيه خامنئي، عبر أجهزة مؤسسة "بيت القائد")، ودبلوماسية الأركان (والتي يديرها الحرس الثوري عبر هيئة الأركان المشتركة، وأذرع الحرس الخارجية).
وكان من تداعيات تعدد المرجعيات في القرار السياسي الخارجي التائه بين مؤسسات الثورة والدولة، غياب ثقة الدول بالحوارات والتفاهمات والاتفاقيات التي تعقد مع الحكومة الإيرانية، وإعلان كثير من الدول في العالم عدم اعتقادها بجدوى التفاوض من الأجهزة الرسمية الحكومية، وتعبير بعض الدول عن رغبتها بالتفاوض مع "صانع القرار الحقيقي" في إيران، كما حصل في الحالة الأمريكية.

جاء دخول ظاهرة "الشبكات السياسية-الاقتصادية" إلى المشهد الداخلي ليزيده تعقيداً

وثمة أسباب موضوعية عدة، يمكن سوقها لتفسير استمرار النظام الإيراني في ظل تفاقم أزماته الداخلية والخارجية؛ أهمها وجود إرادة هائلة لدى النظام للقمع، وتطوير قدراته على ممارسة هذا القمع، وهو ما يرفع الكلفة بشكل كبير على الأطراف التي ترغب في إحداث التغيير. هذا بالإضافة إلى عدم وجود انشقاقات جذرية داخل طبقة الحكم، فضلاً عن غياب الدعم الخارجي الكافي لأي تغيير داخلي.
وهناك مسألة في غاية الأهمية تتعلق بقدرة النظام على الاستفادة من حالة القطيعة السوسيولوجية القائمة بين مختلف مكونات المجتمع الإيراني؛ فالنظام الإيراني أحسن استغلال الانقسامات الطبقية والعرقية والديموغرافية في البلاد لتعزيز القبضة الداخلية، ووظّف هواجس الجميع ضد الجميع، وهكذا ظلت الاحتجاجات الاجتماعية محصورة داخل ذات الطبقة أو الفئة أو القومية التي تنطلق منها، ولم تتحول إلى حالة احتجاج عامة، وجرى توظيف هواجس الطبقات والقوميات الأخرى في قمع الطبقة أو القومية المحتجة، والعكس بالعكس.

اقرأ أيضاً: ماذا تخفي قاعدة الإمام علي التي أقامتها إيران شرق سوريا؟
وتزايدت سطوة التحالف الحاكم المكون من مؤسستي بيت القائد-الحرس الثوري طرديّاً مع سيطرته على كل مفاصل البلاد العسكرية والاقتصادية والمالية والإعلامية، فضلاً عن حالة التمدد الإقليمي للنظام.
وثمة من يعتقد أنّ التدخلات الخارجية المحدودة، والخجولة التي تمت خلال العقود الأربعة لدعم المعارضة الإيرانية الداخلية، أو الأقليات القومية، لم تؤدِّ -كما كان متوقعاً- إلى إضعاف النظام، بل إنّها عملت على العكس من ذلك، إلى إضفاءِ شرعيّةٍ على سردية المؤامرة الخارجية التي يتذرع بها النظام لتعزيز قبضته الداخلية.

دخل الحرس الثوري كطرف فاعل آخر في مختلف ملفات السياسة الخارجية

وبطبيعة الحال تضخم الآلة الإعلامية للنظام الإيراني بشكل كبير، ومتعمّد من حجم الدور الخارجي في دعم التحركات الداخلية للفئات المعترضة لإبعاد الأنظار على حقيقة الأزمات الداخلية للنظام. وعلى سبيل المثال، اعتبر النظام كل ما جرى قبل، وبعد، وخلال احتجاجات العام 2009 بأنه كان مؤامرة خارجية. لكن الحقيقة تتمثل في أنّ المعارضة الإيرانية لم تتلقّ يوماً، أي دعمٍ دولي يمكِّنُها من إسقاط النظام الإيراني، أو تحريك احتجاجات واسعة ضده.
وعلى الرغم من أنّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتقدت تقاعس إدارة الرئيس أوباما عن دعم الحركة الخضراء العام 2009، إلّا أن دور ترامب في الاحتجاجات الأخيرة التي عصفت في إيران في أواخر العام 2018، اقتصر على إطلاق التغريدات فقط.
اليوم، وبصرف النظر عن مآلات المواجهة الإيرانية-الأمريكية الجارية، يقف النظام الإيراني على عتبه انتقال سياسي كبير، ويبدو أن "الحرس الثوري" سيكون هو الخليفة الفعلي لخامنئي؛ فالحرس يواصل تمدّده في الداخل بشكل منهجي بعد أن نجح في إخضاع الجيش، وتحييده، وهو يبسط سيطرته على مختلف مراكز القوة في البلاد.

اقرأ أيضاً: إيران في اليمن: كيف وصل البلد "السعيد" لكل هذا الدمار؟
ومما يبعث على التشاؤم من حدوث أي تحول إيجابي نتيجة لهذا الانتقال، أنّ أياً من المرشحين المعروفين لخلافة خامنئي ليس أقل تشدداً من خامنئي نفسه، بشأن السياسات الداخلية أو الخارجية.
وفيما يتعلق بالأنشطة الإقليمية الإيرانية، فالواقع يقول إنّه من غير المرجح أن يعمل النظام الإيراني على تغيير نهجه، في ظل الشعور العالي بالاستقواء على دول الجوار، والاعتقاد بنجاعة الأساليب التصعيدية، وغياب إرادة دولية أو إجماع دولي على "ردع" النظام الإيراني. والمرجح أن تبقى طهران قادرة على كسر الإجماع الدولي، حيال أنشطتها الداعمة للإرهاب، والمزعزعة للاستقرار.
وتتوافر اليوم كثير من المؤشرات التي تدعم سيناريو ذهاب إيران إلى تكرار النموذج الكوري الشمالي، من خلال استئناف البرنامج النووي العسكري، واستكمال سيطرة الحرس الثوري على مفاصل السلطة في البلاد، والتكيّف مع عقوبات وحصار طويل الأمد على غرار الحصار المفروض على كوريا الشمالية. وهو سيناريو يتناقض مع طبيعة المجتمع الإيراني، وتنوُّع تجاربه التاريخية. ولذلك يُجِدّ التحالف الحاكم في تنفيذ هندسة اجتماعية وثقافية تقوم على مفارقات اقتصادية واجتماعية، تعاكس اللحظة الحضارية السائدة؛ وهو ما سيجعل اللعبة تتحول تدريجيّاً إلى لعبة صفرية مع شريحة واسعة من المجتمع الإيراني.

تعدد مرجعيات القرار الإيراني غيّب ثقة الدول بالحوارات والتفاهمات والاتفاقيات التي تعقد مع حكومة طهران

وخلاصة القول، لا يوجد ما يشير إلى أنّ هناك حلولاً تنتظر معظم الأزمات التي يواجهها النظام الإيراني، بل إنّ المسارات الحالية تفيد بأنّ هذه الأزمات سوف تتناسل وتتفاقم، بحيث يصبح حاصل التفاعلات الاجتماعية والاثنية والبيئية مهدِّداً جوهرياً لبقاء التحالف الحاكم. وبشكل خاص يتوقع أن يستمر إخفاق التحالف الحاكم في إدارة الأزمة الاقتصادية؛ وهو ما يعني تفاقم الأوضاع الداخلية، بما لا يمكن السيطرة عليها، إلا بعسكرة مطلقة للداخل الإيراني.
ولعل ذلك يفسر إلى حدّ كبير تغاضي مؤسسة الولي الفقيه عن تمدّد الحرس الثوري، وتوسيع صلاحياته وسلطاته على حساب مختلف مراكز القوة الأخرى.
وكلما شعر النظام الإيراني بأنّ الأزمة الاقتصادية باتت تؤثر على استمراره، وبقائه، سيلجأ إلى التفكير في سلسلة من التنازلات التكتيكية أمام المجتمع الدولي، بين فينة وأخرى، لكسب امتيازات اقتصادية قبل كل شيء، والحؤول دون إفلاس أو انهيار النظام. لكن الافتقار إلى نموذج اقتصادي واضح المعالم في إيران، سيبقى عاملاً حاسماً في اضطراب السياسات الاقتصادية، وتناقضها في كثير من الأحيان.
وسوف يتعين على النظام الإيراني خلال السنوات القليلة القادمة الاختيار بين أمرين: إما مواصلة الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية المؤلمة، والخضوع لما تتطلّبه الإصلاحات من انفتاح في الفضاء السياسي، أو الإقدام على تطبيق تلك الإصلاحات دون أي انفتاح سياسي، والاستناد بدلاً من ذلك إلى تشديد القبضة الأمنية. وهو ما قد يعرّض الدولة والمجتمع في إيران إلى الانفجار من الداخل.
إنّ استمرار النظام الإيراني، وبقاءه –حتى الآن- صامداً في وجه كل هذه الضغوط والأزمات، لا يعني مطلقاً أنّ إيران أضحت قوية أو منيعة تحت حكم الولي الفقيه، أو أنّه يمكن الرهان على مستقبل النظام الإيراني؛ ففي هذا النوع من الأنظمة الشمولية تكون الانهيارات عادة مُفاجِئة، ودراماتيكية.. فكل شيء كان يبدو طبيعياً قبل سقوط "الاتحاد السوفياتي" ببضعة أشهر!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية