سلّط عدد من وسائل الإعلام الفرنسية الضوء على محاولات تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان للتأثير على المجتمع الفرنسي، ونشر التطرف والفوضى وزرع النزعات الانفصالية بصورة "لا تتوافق مع قيم الجمهورية".
وكشف تحقيق استقصائي، بثته القناة الفرنسية الثانية الممولة من الحكومة، ضمن برنامج التحقيقات الشهير "مزيد من التحقيق"، كشف ما سمّاه "استعمال المجتمع التركي في فرنسا من طرف أردوغان لنشر أفكاره التي تجمع بين التطرف القومي والديني"، وفق ترجمة شبكة "سكاي نيوز".
اقرأ أيضاً: الرئيس المصري يتحدث عن الإخوان وتركيا من فرنسا... ماذا قال؟
وأشار التحقيق إلى أنّ أردوغان "يحاول ممارسة نفوذه على الشتات التركي في أوروبا من خلال شبكات قوية، سياسية وتعليمية ودينية"، خصوصاً أنّ فرنسا تحتضن على أراضيها نحو 700 ألف ما بين مقيم تركي أو فرنسي من أصل تركي.
وأشار التحقيق الفرنسي إلى أنّ الحرب الكلامية التي اندلعت بين ماكرون وأردوغان في أعقاب الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها فرنسا في تشرين الثاني (أكتوبر) الماضي، جعلت أنقرة تتحرك على الأرض الفرنسية من خلال جماعة "الذئاب الرمادية" المتطرفة.
وكشف عن تزامن المظاهرات العنيفة التي قامت بها عناصر الجماعة ضد الجاليات الأرمنية مع حرب التصريحات بين الرئيسين، ومع استنفار قوات الأمن الفرنسية لتطويق الحوادث الإرهابية.
تحقيق استقصائي: تركيا ورئيسها أردوغان يحاولان التأثير على المجتمع الفرنسي، ونشر التطرف والفوضى
وكشف الوثائقي الفرنسي عن شخصية غامضة تقف خلف قيادة المجموعة التركية المتطرفة، تدعى "أحمد جيتين"، وهو فرنسي من أصل تركي عمره 23 عاماً، كان يشتغل عامل صيانة وتحوّل سريعاً إلى أحد رموز "الذئاب الرمادية" وأحد داعمي أردوغان المتحمسين في فرنسا.
وأشار التحقيق إلى أنّ جيتين قد حُكم عليه سابقاً بالسجن مع وقف التنفيذ في قضية تتعلق بنشر الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي، وصرّح بأنه يطلب من الحكومة التركية "راتباً وسلاحاً ليقوم بما يجب القيام به في فرنسا".
اقرأ أيضاً: ما الذي يجعل زيارة السيسي لفرنسا ذات أهمية استثنائية؟
ونقل التحقيق على لسان المستشار البلدي في مدينة أويونا في إقليم الأين شرقي فرنسا جوليان مارتيناز قوله: إنّ "أحمد جيتين معروف في الأوساط السياسية المحلية، فقد سبق له أن ترشح للانتخابات التشريعية عام 2017 والانتخابات البلدية في 2020 في المدينة، ودعا بوضوح إلى التصويت على أساس العرق والدين، مطالباً الأتراك والمسلمين بالتصويت له".
وقال معدّو التحقيق: إنّ جيتين ترشح على قائمة حزب صغير يُسمّى العدالة والتنمية، ويُعتبر الذراع الفرنسي لحزب أردوغان الحاكم، ويتوجه أساساً للجاليات التركية والمسلمة، وضمن برنامجه السياسي يطالب بضمّ تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ممّا يشكل بوضوح اختراقاً تركياً سياسياً.
وعرّج تحقيق القناة الفرنسية الثانية على السيطرة التركية على مئات المساجد في فرنسا، لا سيّما عن طريق الرواتب التي تدفعها أنقرة لأئمة 150 مسجداً، كما أنها تدربهم على أراضيها، مشيراً إلى أنّ "الهدف من ذلك ليس فقط التأثير على الداخل الفرنسي، بل السيطرة على الشتات التركي ومناهضة معارضي الحكومة".
اقرأ أيضاً: تفاصيل المشروع السري للإخوان بفرنسا.. وما حقيقة الدعم القطري؟
وقال التحقيق: إنّ أنقرة ترسل أيضاً مدرسين أتراكاً إلى المدارس العامة الفرنسية، كجزء من نظام يُسمّى "إليكو" بالاتفاق مع باريس، ممّا يتيح لها تعليم اللغة التركية في المدارس الرسمية، ويستهدف حوالي 14 ألف تلميذ في المرحلة الابتدائية، لكنّ فرنسا عبّرت في الفترة الأخيرة عن انزعاجها من دورات اللغة التركية التي استغلتها أنقرة بتحويلها إلى دروس دينية وفقاً لفهم معيّن للإسلام يخدم مصالحها.
أردوغان يحاول ممارسة نفوذه على الشتات التركي في أوروبا من خلال شبكات سياسية وتعليمية ودينية
وفي 5 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، قرّرت باريس حل حركة "الذئاب الرمادية" على خلفية ترويجها للكراهية وارتكاب أعمال عنف على التراب الفرنسي.
ونشر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان نصّ قرار الحل على حسابه بموقع "تويتر"، مشيراً إلى أنّ القرار "اتخذه مجلس الوزراء بناء على تعليمات من رئيس الجمهورية، باعتبار الحركة تحرّض على التمييز والكراهية وتورطت في أعمال عنف".
اقرأ أيضاً: فرنسا العلمانية أمام تحدي التطرف و"الانعزالية الإسلامية"
ويأتي القرار بعد أيام قليلة من نزول نحو 250 شخصاً إلى الشوارع، يُعتقد أنّ أغلبهم ينتمي لحركة الذئاب الرمادية في مدينة ديسين-شاربيو قرب ليون شرقي البلاد، حيث هاجموا مواطنين يعتقدون أنهم من أصول أرمنية، بسبب النزاع في إقليم ناغورني كراباخ بين أرمينيا وأذربيجان التي تدعمها أنقرة، ممّا أدى إلى إصابة 4 أشخاص، أحدهم كانت حالته خطرة.
أحمد جيتين فرنسي من أصل تركي عمره 23 عاماً، وهو أحد رموز "الذئاب الرمادية" وأحد داعمي أردوغان المتحمسين في فرنسا
كما كُتبت عبارة "الذئاب الرمادية" على نصب تكريمي لضحايا الإبادة الأرمنية والمركز الوطني للذاكرة الأرمنية.
وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد قال في شباط (فبراير) 2020، خلال زيارة لإقليم الألزاس شمال شرقي فرنسا حيث تتمركز الجاليات التركية بكثافة: "إنّ بلاده لن تسمح بتطبيق القوانين التركية على الأراضي الفرنسية".
وفي السياق، يُسابق الرئيس الفرنسي الزمن لتحجيم نشاط جماعات الإسلام السياسي ودعاة الانعزالية التي تؤسس للطائفية الإسلاموية، في وقت تتوقع فيه مراكز بحوث ودراسات أن يصل عدد المسلمين في فرنسا إلى ما يزيد عن 12 مليون شخص بحلول عام 2025.
وتشمل إجراءات ماكرون متابعة التمويل الذي تحصل عليه المؤسسات الدينية بصفة عامة، والمساجد بصفة خاصة، ومنع استقدام الأئمة من دول أجنبية، كي يتمّ تحرير خطابهم الديني من أي أهداف سياسية وإيديولوجية، وكذلك حظر الترويج لسياسات الحكومات التي تقدّم لهم الدعم المالي، لا سيّما تركيا.
وحول ذلك، تحدثت صحيفة "لوفيغارو" عن الحذر الذي يتبناه الساسة الفرنسيون نحو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد البرود الذي أصاب العلاقات بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة، خاصة بعد الحرب الكلامية التي شنّها الرئيس التركي على نظيره الفرنسي.
أردوغان يحاول الاعتماد على الحادثة الكروية التي أدانها الجميع، لاعبين وحكومات، ومحاولة تسييسها للتجييش ضد نظيره الفرنسي
ويقول الكاتب في الصحيفة الفرنسية جان شيشزولا: مع فرض عقوبات أوروبية أوّلية على تركيا تعمل باريس على وضع حدّ لتدخل أنقرة في الشأن الداخلي الفرنسي عبر منع التمويل التركي للمساجد وبعض الجمعيات وإنهاء عملية تكوين الأئمة الفرنسيين في تركيا أو عن طريق تمويل تركي.
وبالتزامن مع إعلان زعماء الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على المزيد من الأتراك والشركات التركية، وجد أردوغان في حادثة العنصرية التي تعرّض لها مساعد مدرب فريق باشاك شهير التركي خلال مباراته مع باريس سان جرمان في دوري أبطال أوروبا، فرصة جديدة لمواصلة استعداء فرنسا وتصفية حساباته الشخصية مع رئيسها الذي يقود جبهة أوروبية للتصدي للأجندات التوسعية التركية في عدّة ملفات.
اقرأ أيضاً: فرنسا تحل منظمة مقربة من الإخوان المسلمين.. تفاصيل
ولم يستغرب مراقبون، وفقاً لما ذكرته صحيفة "العرب" اللندنية، استغلال أردوغان الحادثة الكروية التي أدانها الجميع، لاعبين وحكومات، ومحاولة تسييسها للتجييش ضد نظيره الفرنسي الذي لا صلة له وللاعبي الفريق الفرنسي بالحادثة التي ارتكبها حكم المباراة الرابع الروماني.
وقد أجهضت اللُّحمة التي أبداها لاعبو الفريقين، والانتقادات الفرنسية والدولية للحادثة، مساعي أردوغان للنفخ فيها وتحويل وجهتها، مثلما فعل مع تصريحات نظيره الفرنسي بشأن مكافحة نشطاء الإسلام السياسي والمتطرفين الإسلاميين في بلاده، التي أخرجها الرئيس التركي عن سياقها وصوّرها أنها استهداف للمسلمين كافة.
اقرأ أيضاً: لبنان بين فرنسا "المنقذة" وتسلّط "حزب الله"
بالمقابل، وفي إطار حملته التحريضية المستمرة ضد فرنسا ورئيسها، وجّه الرئيس التركي الأربعاء الماضي انتقادات لاذعة إلى فرنسا قائلاً: إنّ باريس "باتت مكاناً تنتشر فيه العنصرية بكثافة في الآونة الأخيرة"، فيما صنّف متابعون تصريحات أردوغان ضمن خانة التوظيف السياسي والتجييش المكشوف ضد خصومه الأوروبيين، لا سيّما فرنسا الحازمة في التصدي لأطماعه التوسعية.
ويرى شيشزولا أنّ هذه الإجراءات والقوانين الأوروبية ضدّ أنقرة سوف تنعكس حتماً على الجالية التركية في فرنسا التي تُقارب المليون شخص، جالية يعمل بعضها في مهن مختلفة وتنشط في الدين والثقافة والسياسة.
وقال الكاتب: إنّ من أهم المؤسسات الفاعلة مؤسسة ديتيب المرتبطة باتحاد الشؤون الدينية التركية الإسلامية، والتي تضم لجنة التنسيق للمسلمين الأتراك في فرنسا.
اقرأ أيضاً: فرنسا.. منظمة مرتبطة بالإخوان تتفادى "الحل" بمغادرة البلاد
ونقلت "لوفيغارو" عن مصدر في المخابرات الفرنسية أنّ بعض الأئمة الذين جاؤوا إلى فرنسا عبر هذه المؤسسة يعملون على تشويه صورة فرنسا لدى أبناء الجالية التركية، موضحاً أنّ بعض رجال الدين يشددون على تلقين الأطفال الصغار أنّ رئيسهم هو رجب طيب أردوغان وليس إيمانويل ماكرون.
شيشزولا: الإجراءات والقوانين الأوروبية ضدّ أنقرة سوف تنعكس حتماً على الجالية التركية في فرنسا التي تُقارب المليون شخص
ووفقاً لاستطلاع رأي أجراه مؤخراً "المعهد الفرنسي للرأي العام"، فإنّ 74% من الفرنسيين المسلمين ممّن تقلّ أعمارهم عن 25 عاماً يضعون قناعاتهم الدينية الإسلامية فوق قوانين الجمهورية، وفق ما أوردت صحيفة "أحوال تركية".
ويرى متابعون أنّ فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على تركيا يمثل انتصاراً دبلوماسياً لفرنسا، التي تقود ضغوطاً كبيرة لمحاصرة الأجندات التركية التوسعية على أكثر من جبهة، بدءاً من شرق المتوسط وسوريا، وصولاً إلى ليبيا وناغورني قره باغ.
ودفعت التصريحات العشوائية غير المسؤولة للرئيس التركي خلال الأشهر الأخيرة، فيما يتعلق بأزمة الرسوم المسيئة للإسلام، والتي سعى لاستثمارها سياسياً، إلى توليد عدّة حوادث ضدّ أتراك موالين له مقيمين في بعض دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا وألمانيا.
اقرأ أيضاً: كيف تختلف فرنسا عن النمسا في الرد على الهجمات الإرهابية؟
ويرى مراقبون أنّ هذه التهديدات للمسلمين تعكس حجم التأثير السلبي للمنظمات الإسلامية ذات الطابع المتشدد والفكر الإخواني في تلك الدول.
ويقول خبراء في الإسلام السياسي: إنّ تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا يعكس حجم التأثير السلبي للمنظمات الإسلامية ذات الطابع المُتشدد والفكر الإخواني، كالاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، المُتهم بالسعي لعزل المسلمين عن مجتمعاتهم.
ويبدو أنّ تطورات الأزمات المُتصاعدة بين باريس وأنقرة سوف يكون لها وقع ملموس على مسار سنّ "قانون الانفصاليين" مطلع 2021 كما تمّ تعريفه رسمياً، وهو حسب الحكومة الفرنسية، قانون يهدف إلى إعادة بسط سلطة الدولة في كافة المناطق الفرنسية من المدن وضواحيها، والتي تتحكم فيها جمعيات وتنظيمات إسلامية ترفض الخضوع لقوانين ومبادئ الجمهورية وتروّج لفكرة تطبيق الشريعة الإسلامية على المواطنين الفرنسيين المسلمين خارج نطاق القانون الفرنسي.
اقرأ أيضاً: فرنسا تكافح التطرف الإلكتروني بـ"الخطاب الجمهوري المضاد"
وفي هذا الصدد، وردّاً على مواصلة أردوغان تجييش الإسلام السياسي ضدّ باريس، شدّد رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستكس، في مقابلة مع صحيفة "لوموند"، على أنّ العدو الذي يهدد فرنسا اليوم يهدف إلى تقسيم الفرنسيين فيما بينهم، موضحاً أنّ مشروع قانون تعزيز المبادئ الجمهورية ومكافحة الانفصالية يسعى إلى محاربة الإسلاميين الراديكاليين وليس المسلمين على أرض فرنسا.
وفي سؤال حول المستهدفين من هذا القانون يقول رئيس الوزراء الفرنسي: إنه يستهدف جميع من يحاول معارضة القيم والمبادئ الفرنسية، بما في ذلك بعض الممارسات الدخيلة على المجتمع الفرنسي، مثل شهادات العذرية والزواج القسري.
اقرأ أيضاً: فرنسا تعاقب أردوغان بالسلاح الاقتصادي: العين بالعين
وكان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قد أكد الخميس الماضي أنّ بلاده تكنّ احتراماً عميقاً للإسلام والمسلمين، وأنّ بعض التصريحات تمّ تحريفها للإساءة إلى فرنسا، في إشارة معروفة إلى تيارات الإسلام السياسي الموالية لأردوغان في الشرق الأوسط، وفق وكالة "فرانس برس".
وكان ماكرون قد استقبل، رفقة وزير داخليته جيرالد دارمانين بقصر الإيليزيه بباريس، في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، شخصيات بارزة من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (رسمي)، عرضوا عليه، بناء على طلبه، الخطوط العريضة لتشكيل "مجلس وطني للأئمة".
واشترط ماكرون، بحسب ما أوردت وكالة الأناضول، أن يتضمّن الميثاق تأكيداً على الاعتراف بقيم الجمهورية، وأن يحدد أنّ الإسلام في فرنسا دين وليس حركة سياسية، وأن ينصّ على إنهاء التدخل أو الانتماء لدول أجنبية.
وستمنح الحكومة لمجلس الديانة الإسلامية صلاحية تحديد معايير الأهلية ليصبح المسلم إماماً، ويصدر بطاقات رسمية لأولئك المعيّنين، وإلغاء بطاقة الإمام في حالة المخالفات، بالإضافة إلى تدريبهم على محاربة التطرف وصياغة ميثاق يجب على جميع الأئمة التوقيع عليه، من أجل إثبات تمسّكهم بالقيم الجمهورية.
ويأمل ماكرون أن يتمكّن المجلس الوطني للأئمة، في غضون 4 أعوام، أن ينهي وجود 300 إمام أجنبي في فرنسا "مبتعثين" من تركيا والجزائر والمغرب.