عكس الاهتمام اللافت من جانب حلف شمال الأطلسي (الناتو) مؤخراً بدولة موريتانيا التي تقع في شمال غرب أفريقيا، عكس كثيراً من الإشارات حول تحول بوصلة الاهتمام الأوروبي نحو نواكشط، باعتبارها بوابة جديدة لبسط النفوذ والسيطرة الأوروبية، بعيداً عن التوترات والتنافس الغربي الروسي الذي تشهده معظم مناطق الغرب والساحل الأفريقي.
وقد مثلت دعوة "الناتو" لمشاركة موريتانيا في اجتماع الحلف المنعقد في مدريد نهاية حزيران (يونيو) الماضي تحولاً إستراتيجياً مستجداً في خضم التفاعلات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية بصورة عامة، والمساعي لتوسيع دائرة التفاعل البيني وشراكات الحلف العابرة للحدود الأوروبية لتشمل الجناح الجنوبي للحلف متضمناً دول الساحل، وذلك في إطار خطوات استباقية لفرض طوق وحزام آمن لحدود دول الناتو الجنوبية، وفق الباحث بوحدة الدراسات العربية والإقليمية بالمركز المصري للفكر والدراسات عبد المنعم علي.
لماذا غيّر "الناتو" إستراتيجيته؟
يرى الباحث عبد المنعم علي في دراسته المنشورة تحت عنوان: "بديل إستراتيجي: هل تكون موريتانيا مدخلاً جديداً لحلف الناتو إلى الساحل الأفريقي؟"، يرى أنّ "الشراكة مترامية الأطراف التي بات يتبعها "الناتو" ناجمة عن تغير معادلة القوة، والتوسعات التي حققتها روسيا في غرب أفريقيا".
ويتابع الباحث إنّها "بمثابة تصحيح للحسابات الخاصة بالناتو، فيما تمثل إسبانيا حلقة الوصل بين دول غرب أفريقيا وعلى رأسها موريتانيا وبين الحلف، وهو ما فسّرته الزيارات الدبلوماسية والعسكرية المختلفة لمسؤولين إلى مدريد على مدار العام الجاري، لوضع الخطوط العريضة للتفاعل المشترك والدعم العسكري الواجب تقديمه لموريتانيا في سبيل مواجهة التحديات المختلفة، وعلى رأسها ملف الإرهاب والهجرة غير النظامية".
لماذا موريتانيا؟ وما أهداف "الناتو"؟
يقول الباحث: إنّ تحرك حلف الناتو لتعزيز العلاقة مع موريتانيا جاء مدفوعاً بالرغبة في تحقيق عدد من الأهداف التي كان أهمها البحث عن البديل الإستراتيجي، فقد تراجعت مؤخراً بصورة كبيرة وضعية الاعتمادية من قِبل حلف الناتو على كلٍّ من الجزائر والمغرب، في ظل التنافس الجيواستراتيجي بينهما ضمن معادلة القوى الإقليمية في الشمال الأفريقي، وفي ظل وضعية الانشغال بين الدولتين في إطار من حرب باردة مفتوحة بينهما، توجهت أنظار الناتو لخلق شراكات جديدة وبديل حيوي عن هاتين القوتين.
وتتمثل في موريتانيا التي تشهد نجاحات متعددة الجبهات؛ الأولى: في إطار مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة.
الباحث عبد المنعم علي: الشراكة مترامية الأطراف التي بات يتبعها "الناتو" ناجمة عن تغير معادلة القوة، والتوسعات التي حققتها روسيا في غرب أفريقيا
الثانية، حسب الدراسة، انتهاجها سياسة خارجية متوازنة بين القوى الفاعلة إقليمياً وعالمياً، وابتعادها عن سياسة المحاور المختلفة.
الثالثة: في تميز موقعها الجغرافي، حيث تُعدّ بوابة الغرب الأفريقي لدول حلف الناتو من ناحية الجنوب، ومن ثم حائط صد للمخاطر الأمنية العابرة للحدود، مثل الإرهاب والهجرة غير النظامية.
الرابعة: ما باتت تحظى به من اكتشافات للغاز على هامش اكتشاف حقل "آحميم" المشترك مع السنغال، تلك المقومات هيأت المناخ أمام مزيد من التنسيق لدول الحلف مع نواكشوط، والابتعاد بشكل أو بآخر نسبياً عن مساحة المناورة والتنافس والتجاذبات الجزائرية المغربية.
حماية المصالح وتجنب التهديدات
الهدف الثاني الذي يسعى "الناتو" لتحقيقه من خلال التوسع من بوابة نواكشط، بحسب الدراسة، هو حماية المصالح الإستراتيجية، ومعالجة الحدود ومصادر التهديدات الخاصة به، فيما يتعلق بالجناح الجنوبي للحلف ودخول دول جديدة في تلك المعادلة.
وفي إطار المفهوم الإستراتيجي الجديد لـ"الناتو"، وفقاً لما صرّح به الأمين العام للحلف ينس ستولنتبرغ في تموز (يوليو) الماضي، يأتي بصورة رئيسية في نطاق الترتيبات العالمية الخاصة بمعادلة توازن القوى بشكل عام، ومع روسيا والصين على وجه الخصوص في تلك المنطقة.
وأيضاً في ضوء مساعي الدول الغربية للحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية في تلك المنطقة، علاوة على تطلعاتها لضمان وجود وكلاء لهم في المنطقة لتقويض تحركات الجماعات المتطرفة والمسلحة، وعلى رأسها عناصر تنظيم داعش والقاعدة، ومراقبة الحدود لضبط ملف الهجرة غير النظامية.
ومن ثم يمكن القول: إنّ الناتو يرغب في توظيف موريتانيا أمنياً لمواجهة التحركات المضادة لمصالحها من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تكون خط الدفاع الأول للتصدي للمخاطر الأمنية التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء.
خلق مساحة تنافس جيوسياسية مع روسيا
تحت هذا العنوان وضع الباحث المصري الهدف الثالث لتحركات "الناتو"، وقال: إنّ تزايد التفاعل الموجه من جانب الناتو إلى نواكشوط يأتي كذلك في إطار مساعي الدول الغربية لمواجهة الأنشطة المختلفة لروسيا ووكلائها في منطقة غرب أفريقيا، ويأتي على رأسها دولة مالي التي باتت تُمثل جبهة أخرى للتصعيد بين روسيا والدول الغربية في ظل حالة الفراغ الأمني الذي تسببت فيه خطة فرنسا لخفض عدد القوات في منطقة الساحل بصورة عامة وفي مالي على وجه الخصوص منذ شباط (فبراير) الماضي، الأمر الذي مثل مساحة مناورة وحركة للاختراقات الجيوسياسية الروسية للغرب الأفريقي.
علي: من أهداف تحرك الناتو لتعزيز العلاقة مع موريتانيا البحث عن البديل الإستراتيجي، حيث تراجعت مؤخراً بصورة كبيرة وضعية الاعتمادية من قِبل الحلف على كلٍّ من الجزائر والمغرب
ووفق الدراسة، يمثل التفاعل المتبادل في دعم "مالي" لروسيا في إطار حربها العسكرية مع أوكرانيا، وما تبعها من توقيع اتفاقية عسكرية موقعة بين مالي وروسيا تتمثل في نشر وحدات تابعة لمجموعة "فاغنر" الروسية العسكرية إلى جانب صفقة السلاح المقدمة من جانب موسكو لمالي والمتضمنة طائرات هليكوبتر هجومية من طراز "مي -35 إم"، ونظام رادار جوي متقدم، ليس فقط توطيد الشراكات العسكرية مع مالي، بل امتدت لتشمل (بوركينافاسو، تشاد، النيجر)، وهو ما يُعدّ في ضوء أدبيات حلف الناتو بمثابة مهددات لأمنها القومي، وكذلك هو مهدد للأمن الإقليمي على طول خط حدودها الجنوبي.
تعاون على مستوى أعلى
ويتوقع الباحث المصري أن تشهد الفترة المقبلة تعزيزاً عسكرياً، ليس على صعيد مجال الدفاع وصفقات الأسلحة المزمع إبرامها مع نواكشوط فحسب؛ بل سوف يمتد التعاون إلى مجالات الاستخبارات في تأمين مصالح تلك الدول.
وهو الأمر الذي سيستتبعه مزيد من التعاطي عسكرياً من جانب روسيا في تلك المنطقة، وعلى رأسها الجزائر ومالي، وإذا ما كان التعاون العسكري للناتو مع موريتانيا سوف يدفع نحو مواجهة التهديدات المتباينة في منطقة الساحل والصحراء، إلا أنّه سوف يُعزّز من سباق التسلح في إقليم غرب أفريقيا بصورة عامّة.