يدل مصطلح "اختبار كشف الكذب" على اختبار يستخدم لكشف ما إذا كان شخص ما يقول الحقيقة أم لا، ويحدث ذلك عبر رصد استجابات فسيولوجية قد تطرأ مع توجيه أسئلة للخاضع للاختبار، كأن يشهد ضغط دمه ارتفاعاً.
وكثيراً ما يستعان باختبارات كشف الكذب في الولايات المتحدة في التحقيقات الجنائية، أو في إطار تحريات الشرطة، أو تلك التي تقوم بها هيئات حكومية أخرى.
وتحظر كثير من البلدان اللجوء لاختبارات كشف الكذب في إطار التقدم لوظيفة، وفي سياقات أخرى، لكن مع انتشار ظاهرة تتبّع بيانات الأفراد والتدقيق في شؤون الموظفين.
تحظر كثير من البلدان اللجوء لاختبارات كشف الكذب في إطار التقدم لوظيفة وفي سياقات أخرى
لكن ماذا لو أصبحت الشركات تطلب من موظفيها الخضوع لاختبار كشف الكذب؟!
قانونية الاختبار
تتوقف قانونية الاختبار من عدمه على بلد الموظف والإطار التشريعي الذي يخضع له.
ففي الولايات الأمريكية، مثلاً، يحظر قانون "حماية الموظف من اختبارات كشف الكذب"، الذي صدر فيها عام 1988، اللجوء لتلك الاختبارات (مع وجود استثناءات تتعلق بوظائف تخدم قطاعات حكومية وأمنية واستخباراتية محددة).
لكنّ بلداناً أخرى، ومنها جنوب إفريقيا، لم تقر قوانين لحماية الموظف من الخضوع لاختبارات كشف الكذب.
في المقابل، أغلب الولايات الأسترالية تسمح باختبار كشف الكذب في أماكن العمل شريطة موافقة الموظف.
ويعود تاريخ اختبارات كشف الكذب إلى عام 1921، وما تزال شائعة في عالمنا اليوم.
عدم نجاح مرشح في اختبار كهذا لن يؤدي بالضرورة إلى رفض ترشيحه بل سيؤكد الحاجة إلى مزيد من النظر في الأمر
يقول الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة واشنطن بسياتل، جيفري فيلدمان: "تلك الاختبارات قد تكون مفيدة للغاية في الكشف عن أمور يلزم متابعتها، أو تتطلب مزيداً من التحقيق، فعدم نجاح مرشح في اختبار كهذا لن يؤدي بالضرورة إلى رفض ترشيحه، بل سيؤكد الحاجة إلى مزيد من النظر في الأمر".
ويوضح أستاذ السلوك الوظيفي بكلية "كاس" للأعمال في جامعة "سيتي يونيفرسيتي" لندن، أندريه سبايسر: "مجرد إخضاع الموظف لاختبار كشف كذب سيجعله يعتقد أن صاحب العمل يشكّ فيه، ومن ثم يفقد المتقدم للوظيفة شعوره بالكرامة والثقة بالعمل".
كما يؤكّد الشرطي السابق والمؤهل لإجراء اختبارات كشف الكذب في الولايات المتحدة، داغ ويليامز: أنه أجرى أكثر من ستة آلاف من تلك الاختبارات، وقد ألف كتاباً، ودرَّس حول كيفية خداع اختبار كشف الكذب، بل وأمضى عامين بالسجن، بعد اكتشاف مساعدته عملاء سريين في خداع تلك الاختبارات.
موضحاً أنّ ما حدا به لتحدي اختبار كشف الكذب هو رغبته في معاونة الخاضعين للاختبارات في حماية أنفسهم.
ويضيف: "الأمر عبارة عن عملية نصب تتكلف مليارات الدولارات، وتدمّر حياة ملايين البشر، والوثوق بنتائجها غير الدقيقة كالوثوق بأيّ وجه تسقط عليه عُملة يتم دفعها في الهواء على سبيل الحظّ".
ويستخلص ويليامز من عقود أمضاها في اختبار الأشخاص وتحليل نتائجهم؛ أنّ "جهاز كشف الكذب ليس إلا وسيلة ترهيب وقد يؤدي لمشكلات بعد انضمام المتقدم لشغْل الوظيفة".
مستدركاً؛ "الجهاز أشبه بهراوة لتخويف الشخص حتى يقر ويعترف؛ إذ يؤدي الخضوع له لشعور بالخوف الشديد، ولن أقبل أبداً العمل في شركة تطلب الخضوع لاختبار الكذب؛ لأنّ البداية غير مبشّرة، وتفترض العداء بين جهة العمل والموظف".
لماذا يستخدمون اختبار كشف الكذب؟
فهل يُستخدم اختبار كشف الكذب كأسلوب لتقييم العامل أكثر من الرغبة في معرفة الحقيقة؟ وهل المقصود منه معرفة ما إذا كان المتقدم قادراً على تحمّل الضغط الرهيب للعمل؟
تقول أستاذة التواصل الإداري بجامعة نيويورك، سوان ستيليك: "اختبارات كشف الكذب في العمل أشبه بـ "اختبار الصلابة" للمتقدمين من الشباب، ممن لاحظتهم أثناء عملي كمستشارة مستقلة لشركة مالية كبرى".
وتضيف: "يوجهون سؤلاً لطالب تحت سمع وبصر خمسة مسؤولين كبار بالغرفة، عن الجذر التربيعي للرقم (563000)، ومنطقهم أنّ المتقدم للعمل في البورصة ينبغي أن يكون متمكناً من التعامل مع الأرقام!".
وتردف: "الخضوع لتحقيق مبهم كهذا لا يدلل واقعاً على قدرة الشخص على أداء الوظيفة".
وتشبّه ستيليك انتشار اختبارات كشف الكذب بالاختبارات الإلزامية للكشف عن تعاطي المخدرات، التي انتشرت على نطاق واسع خلال تفشي الكوكايين في الثمانينيات، وتقول: "على أصحاب العمل أن يسألوا أنفسهم عن الجدوى وراء ما يفعلونه؟ هل لأنّ موظفاً واحداً تسبّب في مشكلة يتحتم إخضاع الجميع لاختبار كهذا؟".
موضحة "الأمر يفاقم أزمة الثقة بين الموظف وصاحب العمل"، وتتساءل عن الخطوة التالية إذا ما أخفق موظف، فهل نخضعه لإعادة التأهيل؟ أم نسرّحه من العمل؟ أم نضربه على يديه؟!
ويقول أستاذ السلوك الوظيفي بكلية لندن للتجارة والأعمال، دان كيبل: إنّ "اختبارات من هذا القبيل قد تعطي المديرين سطوة أكبر على الموظف المقبل لشغل وظيفة".
ويضيف: "الأمر يدعو للشكّ؛ حين نبدأ في توجيه أسئلة للأشخاص عن قرارات اتخذوها في حياتهم دون أن يكون للأمر علاقة بالعمل، فالمتقدم يأتي، ولا يعلم أيّة نوعية من الأسئلة ستوجه له، وهو أشبه بهجوم مباغت، كمن يأتي للقاء والد الفتاة المتقدم لها، ولا يعلم ما قد يصادفه!".
لكنّ مدير الهيئة الأسترالية لاختبارات كشف الكذب، ستيف فان إبيرين، يقول: "الاختبار يفيد الموظف في كثير من الأحيان".
اختبار يحمي الموظف أيضاً
مع أنّ أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن كشف الكذب؛ رغبة صاحب العمل في الكشف عن سلوك جنائي أو لا أخلاقي من جانب الموظف، فالاختبار يمكن أيضاً أن يحمي العامل بمواجهة اتهامات كيدية.
ويقول فان إبيرين إنّه كثيراً ما يتلقى اتصالات من موظفين يقولون إنهم اتهموا كذباً ويرغبون في تبرئة ساحتهم.
وتشير الدراسات إلى أن رفض الكشف عن معلومات شخصية قد يعود على الشخص بالضرر، فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2015 أنه في سبع تجارب عُرِض على المشاركين فيها على الإنترنت إجابات من صديق أو موظف وهمي، كان حكم المشارك أقسى على المجيب حين أخفى معلومات غير مستحبة عن نفسه، مقارنة بمن أقرّ ببعض سلوكياته الخاطئة.
ورجحت الدراسة أن البشر بطبيعتهم يتشككون فيمن يتردد في الكشف عن تفاصيل شخصية مقارنة بمن يبادر بالكشف عن سلوك سيء.
مجرد إخضاع الموظف للاختبار سيجعله يعتقد أن صاحب العمل يشكّ فيه فيفقد المتقدم للوظيفة شعوره بالكرامة
أين خصوصية الموظف اليوم؟!
لقد بتنا نعيش في عالم يمكن فيه لجهة العمل تتبع كافة خطوات الموظف ومراقبة بياناته، والبعض قد يشعر بأنّ ليس لديه ما يخفيه، وقد لا تعنيه الخصوصية، ولا يقلق من الخضوع لاختبار الكذب في سبيل الوظيفة الموعودة.
لكن ينبغي أن نفكر ملياً فيما لو انتشرت اختبارات كشف الكذب أكثر على صعيد العمل.
ويقول نيك بوستروم، أستاذ الأخلاق بجامعة أوكسفورد: "لو أصبح الشائع قبول الموظفين اختبارات كشف الكذب، فسيكون التشكّك أكثر فيمن لا يقبل بها، باعتبار أنّ الرافض لديه ما يخفيه".
ويضيف بوستروم: "اختبارات كشف الكذب موثوق بها إلى حدّ كبير، والدلالة الضعيفة خير من عدم وجود دلالة بالمرة"، بالنسبة إلى بعض أصحاب العمل، لكن ينصح بـاقتران نتائج الاختبار بأدلة أخرى مختلفة، وألا تُمنح نتائجه ثقة عمياء".