هل بدأ عصر ما بعد حزب الله؟

هل بدأ عصر ما بعد حزب الله؟

هل بدأ عصر ما بعد حزب الله؟


09/06/2025

عبدالكريم العرجان

في مشهد يبدو غير مألوف في التاريخ السياسي اللبناني الحديث، اختارت إيران أن تُعلن من بيروت نيتها “فتح صفحة جديدة” مع الدولة اللبنانية. لم تتحدث طهران هذه المرة عن “المقاومة”، ولم تأتِ على ذكر “المعادلات الردعية”، بل جاءت الرسالة مباشرة، إيران لا تسعى لفرض نموذجها، بل مستعدة لإعادة تموضعها في الساحة اللبنانية على أساس “الاحترام المتبادل وعدم التدخل”. هذا التحول يأتي في أعقاب انتخاب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية، وتشكيل حكومة نواف سلام، وسط تراجع ملموس في نفوذ حزب الله بعد خسائر فادحة في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، ومقتل أمينه العام حسن نصرالله في ضربة كانت لها ارتدادات نفسية وأمنية عميقة.

في ظل حالة الاختناق السياسي والأمني التي يعاني منها لبنان، وانسداد آفاق الحلول التقليدية، تبدو زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لبيروت أكثر من مجرد جولة دبلوماسية روتينية. إنها محاولة لالتقاط الأنفاس، وتجنب التبعثر الكامل لحزب الله، في وقت بات فيه النفوذ الإيراني وحزب الله أمام تحديات غير مسبوقة. زيارة عراقجي ليست إعلانا لنقض حزب الله، بل هي محاولة لإعادة التموضع والحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، في ظل ضغط داخلي وخارجي يهدد بإحداث فراغ مدمر.

زيارة عراقجي لم تكن بروتوكولية، بل جاءت كإعلان ضمني عن تغير في العقيدة السياسية الإيرانية في لبنان. فمع اشتداد التحديات الداخلية في إيران، وتزايد الكلفة السياسية لدعم وكلاء مسلحين خارج حدودها، بات من الضروري لطهران أن تعيد ترتيب أوراقها بطريقة لا تجعلها أسيرة صراعات مفتوحة أو مكلفة، خاصة في بلد هش كلبنان. لذلك بدا عراقجي أكثر ميلا للغة الدولة، وأكثر حذرا في إشاراته إلى “الشراكة الرسمية”، بدلا من “التحالف الميداني” كما كانت الحال في العقدين الماضيين.

ما بعد مقتل نصرالله ليس كما قبله. حزب الله الذي اعتاد فرض إيقاعه على الدولة، يجد نفسه الآن أمام واقع جديد، فقدان زعيمه التاريخي، تراجع في شعبيته داخل بيئته، وتزايد الضغط الخارجي لتقليص نفوذه العسكري، مقابل السماح له بالاندماج السياسي وفق أطر الدولة. ربما تكون إيران قد أدركت أن استدامة نفوذها في لبنان يتطلب مقاربة أكثر “تهذيبا” للحزب، عبر تحويله من ذراع عسكرية إلى ذراع سياسية – اقتصادية، تحافظ على نفوذها دون إثارة ردود فعل دولية عنيفة أو تهديدات وجودية داخلية.

انتخاب العماد جوزيف عون، ثم تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة، يعكسان لحظة “تقاطعات اضطرارية” بين الغرب، الخليج، وإيران. هذه الحكومة ليست بالضرورة حكومة وحدة وطنية، لكنها محاولة لتثبيت ما يمكن تثبيته من مؤسسات الدولة، في لحظة إقليمية مرتبكة، وعشية تحولات عميقة في المشهد السوري والفلسطيني. المعادلة بسيطة، الدولة بحاجة إلى دعم دولي، والدعم مشروط بحصر السلاح بيد الدولة، وبإصلاحات عميقة تطال القضاء والقطاع المالي، ومنظومة التوظيف السياسي.

 ورغم التوترات العلنية بين واشنطن وطهران، فإن لبنان قد يصبح ساحة غير معلنة لـ”صفقة هشة” بين الطرفين. فإيران، التي تواجه عقوبات خانقة وأزمات داخلية، قد تتنازل عن جزء من نفوذ حزب الله العسكري في لبنان مقابل تخفيف الضغوط الاقتصادية أو تسهيلات في الملف النووي. من جهتها، تريد الولايات المتحدة تجنب انهيار كامل في لبنان قد يفتح الباب لنفوذ صيني أو روسي، أو يزيد موجات الهجرة نحو أوروبا. هذا التفاهم الضمني قد يفسّر لماذا تتبنّى إيران فجأةً خطاب “سيادة لبنان”، ولماذا تتسامح واشنطن مع حكومة سلام رغم وجود حزب الله ضمن تحالفاتها. لكن هذه اللعبة خطرة، فطهران لن تتخلى عن كل أوراقها، وواشنطن لن توقف ضغوطها دون ضمانات ملموسة.

باريس تراقب الملف اللبناني عن كثب، وتدرك أن أي تمويل دون إصلاح سيعيد إنتاج الكارثة. أما الرياض وأبوظبي، فتضعان شرطا واضحا، لا مال دون إعادة تعريف دور “حزب الله” وضمان توازن سياسي فعلي لا تقوم فيه دولة بظل دويلة. لبنان اليوم أمام فرصة محدودة، إما أن يتحول إلى “دولة ما بعد الطائف” فعلا، أو يواصل انحداره كدولة عاجزة تُدار بتوافقات خارجية وموازنات داخلية هشة.

لبنان لا يزال في عين العاصفة، لكن هذه العاصفة تتغير. ما يجري ليس فقط إعادة ترتيب داخلي، بل انعكاس لتحول أكبر في بنية النظام الإقليمي. وللمفارقة، فإن “الاستقرار المحتمل” في لبنان لن يكون نتاج انتصار طرف على آخر، بل ثمرة إجماع اضطراري على ضرورة تأجيل الانفجار، إلى حين. لكن، كما هي العادة في بيروت، كل هدنة مؤقتة تُكتب على حافة السكين.

في هذا المشهد السريالي الذي يعيشه لبنان، يطفو سؤال وجودي يخترق الضمير العالمي، هل نرى مشهد غرق “فينيسيا الشرق” ببطء أمام أعيننا، أم نشهد ولادة جديدة لطائر الفينيق الذي ينهض من بين الركام؟

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية