عقد من الزمن مضى على تفجرّ موجة الاحتجاجات التي اجتاحت عدداً من البلاد العربيّة، عندما أقدم الشاب التونسيّ، محمد البوعزيزي، على إضرام النار في نفسه، في أواخر عام 2010، احتجاجاً على سوء معاملة الشرطة، لتندلع عقب ذلك مظاهرات عارمة في تونس، أطاحت بنظام بن علي، الذي فرّ إلى السعودية، في 14 كانون الثاني (يناير) 2011.
وانتقلت الاحتجاجات من تونس إلى مصر، ثم ليبيا وسوريا واليمن والمغرب والأردن، وغيرهم من البلاد العربية، واختلف مسارها من دولة إلى أخرى، وكذلك النتائج المترتبة عليها، ومنها ما ظلّ على سلميّته، وأخرى جرى عسكرتها، وثالثة خمدت، سواء قمعاً، أو بتنازلات من السلطة، أو فقدت زخمها.
يمكن توصيف الربيع العربي، بأنّه موجة احتجاجات على تردّي الأحوال المعيشية وعنف أجهزة الدولة في الأساس، تلاقت مع أحلام الحرية والديمقراطية لدى الشباب
وأعادت هذه الموجة، التي تعرف باسم "الربيع العربيّ"، ترتيب وتشكيل العلاقات الإقليمية بين دول المنطقة، وظهرت إثرها محاور سياسية متصارعة، لكلّ منها رؤى سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة متباينة، وتوالت الموجات الاحتجاجيّة، بأشكالها السلميّة والعسكريّة، حتى استنفذت طاقتها، ولم يبقَ منها سوى الواضع الراهن.
صعود الإسلام السياسيّ
لا شكّ في أنّ موجة الاحتجاجات كانت عفوية في البداية، وحدث ما لم يكن متوقعاً بشكل كامل، ومنذ اندلاعها اختلفت الآراء حولها؛ بين مؤيّد ومعارض، ومؤمن بالثورة ومن يراها مؤامرة، دون أن يعني ذلك أنّها كانت عرضة للتوظيف منذ لحظتها الأولى.
وبعد عقد من الزمن، يمكن توصيف الربيع العربي، بأنّه موجة احتجاجات على تردّي الأحوال المعيشية وعنف أجهزة الدولة في الأساس، تلاقت مع أحلام الحرّية والديمقراطية لدى الشباب، خاصّة من كانت لهم صلات وعلاقات بحركات حقوق الإنسان، ونشاط في العمل المدني.
ولا يمكن استبعاد الفرضيات التي تربط جهات خارجية بانطلاق الاحتجاجات، ومهما يكن حجم هذا الدور، فقد كان الربيع العربي في بدايته معبّراً صادقاً عن تطلعات ومطالب جماهير واسعة، حتى وإنّ كانت معظم هذه الجماهير تفتقر للحنكة السياسية، ووقعت عرضة التوظيف، خاصة من الإسلام السياسي.
ومنحت هذه الاحتجاجات فرصة ذهبية لإدارة أوباما الأمريكية، وحزبه الديمقراطيّ، لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفق مخطط يقوم على استبدال جماعة الإخوان المسلمين بالأنظمة العربية التي تستمدّ شرعيتها من مرحلة التحرّر الوطنيّ، التي تعود إلى منتصف القرن الماضي.
اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي.. وتمثيلات خطاب الهوية
ووجدت القوى الإقليمية، التي تنتمي كلياً أو جزئياً إلى أفكار الإسلام السياسيّ، سواء السنّي مع تركيا، أو الشيعيّ مع إيران، فرصةً للسيادة الإقليمية على المنطقة، عبر توظيف علاقاتها مع قوى الإسلام السياسي العربية، والتي صارت في واجهة المشهد، عقب الصدمة التي تلقتها الأنظمة الحاكمة.
وبإضافة ردّ فعل الأنظمة الحاكمة، والقوى الاجتماعية ومجموعات المصالح، إلى العوامل السابقة، من احتجاجات عفوية، وإسلام سياسيّ، اشتبك مع الاحتجاجات، وقوى دوليّة وإقليميّة، خلّصت المنطقة إلى المشهد الحالي، الذي اختلف من دولة إلى أخرى.
ويمكن القول؛ إنّ أهمّ الظواهر التي نتجت عن هذه التفاعلات، ظاهرة صعود الإسلام السياسي إلى المشهد السياسي، ووصوله إلى السلطة، سواء لوقت محدّد، أو حتى اليوم.
محاور إقليميّة متصارعة
والظاهرة الثانية؛ تشكل عدّة محاور في المنطقة، أهمها؛ حلف الإسلام السياسيّ، ويتكوّن من؛ الإخوان (التنظيم الدولي وفروع الجماعة)، وتركيا وقطر، وهو الحلف الذي غذّى جماعات الإرهاب، واستثمر في الميليشيات المسلحة، ونشر الفوضى ضدّ الدول الوطنية.
والمحور الثاني؛ هو الدولة الوطنية، ويضمّ مصر والإمارات والسعودية والبحرين والجيش الوطني الليبي والانتقالي الجنوبي في اليمن، وغيرهم.
وهناك محور ثالث قديم، اكتسب مناطق نفوذ جديدة، وهو الحلف الإيراني، الذي توسع في اليمن مع الحوثيين، وفي سوريا، وداخل كلّ حلف هناك مساحات مرنة من الحركة المستقلة.
الدولة الوطنية في مواجهة الإخوان
ويُعدّ صراع الإسلام السياسي مع الدولة الوطنيّة هو أهمّ ما شهده العقد المنقضي، خاصّة بعد خمول ظاهرة الاحتجاجات في السنوات الثلاث الأولى، وتجدّد حيوية الدولة الوطنية، التي استوعبت جزئياً الربيع العربي، وتفاعلت معه.
وواقع الحال؛ أنّ الدولة الوطنية انتصرت على الإسلام السياسي في مصر، بالإطاحة بحكم الإخوان، في انتفاضة 30 يونيو الشعبية، التي دعمها الجيش، وتكاتف معها حلف الدولة الوطنية، بينما تشهد عدّة دول صراعاً بين الإخوان المسلمين، المعبّر الأكبر عن الإسلام السياسي، والقوى التي تدور في فلك الدولة الوطنية.
اقرأ أيضاً: الإسلام السياسي في تشكلاته وتحولاته.. هل هو سياق تاريخي أم أزمة؟
وعلى الرغم من المثالب التي رافقت تجربة الدولة الوطنية في معظم الأقطار العربية، إلا أنّها ضمنت الاستقرار والأمن بمعناه السياسيّ، دون الاجتماعيّ، لكنّها تخلّت عن قيم الدولة الحديثة، وتركت الباب للانتشار الشعبيّ أمام الإسلام السياسيّ والفكر الدينيّ السلفيّ، فاستغلّ هؤلاء هذه المساحات لمحاربة الدولة ذاتها، وتفكيك مؤسساتها وقيمها.
وحول ذلك، يقول أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، أنور مغيث: "في العقد الماضي، حاول الإسلام السياسيّ طرح نفسه كبديل لإنجاز مهام الدولة الوطنية، ووجد قبولاً شعبياً في البداية لدى كثيرين، ما مثّل مصدر قوتهم كبديل أكثر تنظيماً، وله شعبية، لكن حين صعد الإخوان، كممثّل عن هذا التيار، إلى الحكم، واختُبرت رؤيتهم للدولة، فقدوا جزءاً كبيراً من شعبيتهم، وثار الناس عليهم".
ويردف مغيث، في حديثه لـ "حفريات": "الشعوب هي من أطاحت الإسلام السياسيّ، لأنّها اكتشفت أنّه يعارض تطلعاتها التي ثارت في المقام الأول من أجلها، خاصة تطلعات الحرية والمساواة، ولو تُرك الأمر للدولة الوطنية وحدها لربما خاضت لعبة التوازنات، التي درجت عليها لعقود ماضية".
إفلاس نموذج أردوغان
وحين اندلعت ثورات الربيع العربيّ، وتصدّر الإخوان المسلمون المشهد، في غياب قوى علمانية، أو قوى سياسيّة منظمة، وتفكّك الشباب الذي أشعل الثورات، وانزواء الدولة العميقة بتأثير صدمة الإطاحة برؤوس الأنظمة السياسيّة، بدأ الإخوان في ترويج مشروعهم السياسيّ، عبر نموذج أردوغان في تركيا.
وحتى عام 2011؛ كانت تركيا قد حققت نجاحات اقتصاديّة واجتماعيّة كبيرة، في ظلّ سياسة مجموعة حاكمة لم تنخرط في صراعات إقليمية، مستفيدة من وضع تركيا المميّز، وعلاقاتها الوطيدة بالغرب.
وعقب 2011؛ التقت تطلعات الإخوان بتطلعات العثمانيين الجدد، بزعامة أردوغان، وقبل الإخوان بالعمل المرحلي معه، كونه يشاركهم أيديولوجيتهم جزئياً، رغم تمايزه بتبنّي استعادة ميراث الدولة العثمانية كرافعة لتحقيق أطماعه.
اقرأ أيضاً: جماعات الإسلام السياسي إذ تجعل من الدين عبئاً على الدنيا
ووجد أردوغان في الإخوان وسيلة لتحقيق حلمه باستعادة إرث العثمانيين في الدول العربية، وتحوّل من تصفير المشكلات إلى التدخّل العسكريّ في سوريا، ودعم فروع الإخوان، ثم التدخّل عسكرياً في الصومال وليبيا.
وورّط أردوغان الإخوان في مشروعه السياسيّ، الذي يضمّ جغرافيا سياسيّة لا وجود للإخوان فيها، مثل شرق المتوسّط والقوقاز.
وعقب عقد على اندلاع الربيع العربيّ، تسبّبت سياسات أردوغان في انهيار الصورة الذهنية البرّاقة، التي لطالما روّجها عن نفسه، وردّدها الإخوان، بجهازهم التنظيميّ والإعلاميّ، من خلفه، خاصة بعد أن أطاح بالمجموعة التي صنعت نجاح تركيا معه، واستبدل التنمية بأحلام الهيمنة والتوسّع، عبر دعم الفوضى، عن طريق الإرهاب والمرتزقة.
انتصار الدولة الوطنية المنقوص
ورغم إطاحة الإخوان في مصر والسودان، والتضييق عليهم في اليمن، والمشكلات العديدة التي تواجه فروعهم في ليبيا وتونس والمغرب والأردن وسوريا، وانكشاف تطرّفهم وخطرهم في أوروبا، إلا أنّ انتصار الدولة الوطنيّة ما يزال منقوصاً.
وفي ذلك، يقول أستاذ الفلسفة، أنور مغيث: "عقب الربيع العربي، تبذل الدولة الوطنية في مصر جهداً كبيراً لتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لكن يظلّ ذلك مرهوناً بتحقيق التنمية، التي يلمسها الناس، بتحسّن أوضاعهم المعيشية".
أستاذ الفلسفة، أنور مغيث لـ "حفريات": الشعوب هي من أطاحت الإسلام السياسيّ، لأنّها اكتشفت أنّه يعارض تطلعاتها التي ثارت من أجلها
ويتابع مغيث: "وتقع على عاتقها مهام كثيرة؛ إذ إنّها انتصرت سياسياً فقط على الإسلام السياسيّ، الذي فقد جزءاً كبيراً من شعبيته في الشارع، لكنّها لم تنتصر ثقافياً بعد، خاصّة في التعليم، الذي يعدّ اللبنة الأولى لتخريج مواطن ينتمي للدولة، ويلتزم بالقانون، وحين يتحقق ذلك يكون انتصارها كاملاً ودائماً".
وأمام الدولة الوطنيّة تحدّيات كبيرة؛ فإلى جانب تحسين مستوى المعيشة، على الدّولة أن تشرك الأفراد في المجال السياسيّ، ولا يعني ذلك تكرار تجربة الدّيمقراطية المفرّغة من جوهرها، التي لا ترى سوى الصندوق في النظام الدّيمقراطي، ويتطلّب ذلك تهيئة المجتمع للانخراط في مستويات متعدّدة من صنع القرار، وصولاً إلى وجود قوى سياسيّة حقيقيّة، في الدول التي تتطلب ذلك.
اقرأ أيضاً: لماذا لم ينجح التصوف كبديل لجماعات الإسلام السياسي؟
ويشير أستاذ الفلسفة، أنور مغيث، إلى خطر كامن، ربما ينفجر مكرّراً التجربة نفسها التي ينجح الإسلام السياسيّ في استغلالها، وتسمح لقوى خارجيّة بتوظيفها، وعنها يقول: "معظم الأجيال الشابة تجمع بين نقيضَين؛ الأول تطلّعات لا علاقة لها بالإسلام السياسيّ، مثل الحرّيات والمعيشة الجيدة والمشاركة السياسية، والثانية: الإيمان بمنظومة قيم دينية متطرفة، نتجت عن سيطرة الإسلام السياسيّ والقوى الدينيّة المتطرّفة على التعليم في المقام الأول، وغيرها من المنابر الثقافية، نتيجة تخلّي الدّولة عن دورها في التنشئة والتربية".
ويؤكّد مغيث، لـ "حفريات": "على أنّ دور الدولة ليس الدعاية السياسية في المدارس، بل تنشئة عمادها تربية مواطن يلتزم بالقانون الذي يحمي حقوق الإنسان، والانتماء للدولة".
وأمام الدولة الوطنية في نهضتها الثانية، خاصّة في مصر، وفي كفاحها في دول أخرى تحدّيات كبيرة، كثير منها موروث من عقود سابقة، وهي تحدّيات يزيدها صعوبةً الصراع الدائر مع محور الإسلام السياسي، الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، لكن دون أن يعني وفاته.