هكذا ثار الهنود على شركة جسدت العنف الرأسمالي لإخضاع الشعب

الهند

هكذا ثار الهنود على شركة جسدت العنف الرأسمالي لإخضاع الشعب


19/12/2019

في العاشر من أيار (مايو) 1857، اندلعت احتجاجات عنيفة ضد جنود شركة الهند الشرقية التي حكمت شبه القارة الهندية بالسلاح المادي والمعنوي، وفرضت نفوذها على السكان الأصليين، ونهبت مواردهم، كونها استحقاقاً لطبقة النبلاء الإنجليز، ولم تكن تلك أولى ثورات الهنود ضدّ الشركة، لكنّها كانت الأعنف بالنسبة إلى التي سبقتها.

اقرأ أيضاً: "الهنود الحمر": ما قصة التمييز الذي يعانيه سكان كندا الأصليون؟
قبل الثورة بأعوام قليلة، وتحديداً في الحادي عشر من حزيران (يونيو) 1853، نشرت جريدة "نيويورك دايلي تريبون"، مقالاً بعنوان "شركة الهند الشرقية - تاريخها ونتائجها"، للفيلسوف الألماني كارل ماركس، الذي استعرض فيه تاريخ الشركة الذي يعود لعام 1702، التي ليست سوى اتحاد المجتمعات المتخلفة التي تدّعي احتكار تجارة شرق الهند، ومنذ ذلك الوقت وهي تتعرض لمخاطر تجارية كبيرة، ولكن بفضل فساد النظام السياسي، ورشوة الحكومة، وبنك إنجلترا الفتيّ وقتها، استطاعت الاستمرار والتوسع بفضل المزيد من الرشاوى.

شركة الهند الشرقية حكمت شبه القارة الهندية بالسلاح المادي والمعنوي
وبفضل تلك الأموال، والمقاومة المسلحة من المتمردين الهنود، تحوّلت الشركة إلى قوة عسكرية وإقليمية، مستقلة عن التاج البريطاني، وهنا ظهر وزراء متنافسون على نفوذ الشركة؛ إذ أقاموا الرأي العام الإنجليزي ضدّها بقولهم إنّ أراضي الشركة تمّ غزوها بمساعدة الجيش البريطاني وأساطيله الحربية المنيعة، فلا يجوز للشركة أن تستقلّ بثروات الهند عن التاج البريطاني، وعليه حاولت الشركة إنقاذ نفوذها، بإبرام اتفاقية عام 1767، تلزمها بدفع 400 ألف جنيه إسترليني سنوياً للخزانة العامة للمملكة المتحدة، لكنّ الشركة نقضت وعودها.

أستاذ فلسفة التاريخ بجامعة نيودلهي، فيفيك كومار، لـ "حفريات": النتيجة المهمة والحقيقية للتمرد هي بداية سياسة التشاور مع الهنود

فبدلاً من الدفع للدولة، طالبت الشركة البرلمان بمساعدات مالية بزعم أنّها تتعرض لخسائر، وفي عام 2019، جاء كتاب "الفوضى: شركة الهند الشرقية، عنف الشركات، وسلب إمبراطورية"، الذي قدّمه المؤرخ الإسكتلندي، وليام دالريمبل، كأحدث نسخة من قصة النهب والعنف الممنهج الذي ارتكبته شركة الهند الشرقية بحق الشعوب الآسيوية، مشيراً إلى القوة الهائلة للهند رائدة صناعة المنسوجات في العالم آنذاك، ففي الثامن والعشرين من آب (أغسطس) لعام 1608، رست سفينة البحّار البريطاني، ويليام هوكينز، على الساحل الغربي لشبه القارة الهندية، التي لا يتجاوز تعداد سكانها 150 مليون نسمة؛ إذ كانت تحت حكم المغول لقرون، وفي غضون مئتي عام من وصول هوكينز إلى الهند، أصبح إمبراطور المغول تابعاً فعالاً ليس للتاج البريطاني، ولكن لشركة خاصة تهدف إلى الربح، مقرّها الرئيس لندن، وامتلكت وحدها جيشاً من 150 ألف رجل مسلح، كما اشترت معظم أعضاء البرلمان الإنجليزي؛ إذ يصف العنف الذي ارتكبته تلك الشركة بقوله: "إنّه العنف الأكثر وحشية الذي ارتكبته تلك الشركة بحقّ ملايين البشر كما لم يكن قبلها ولا بعدها".

كتاب "الفوضى: شركة الهند الشرقية، عنف الشركات، وسلب إمبراطورية"

العنف الممنهج
في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2019؛ كتب مدير تحرير جريدة "فايننشال تايمز" البريطانية، آندرو هيل، مقالاً بعنوان "شركة الهند الشرقية: الدروس المستفادة من العنف الدموي"، مبيناً كيف استهلّـت تلك الشركة العنف الرأسمالي في أبهى صوره لإخضاع الشعب، واستفادت منها لاحقاً الشركات المتعددة الجنسيات، التي درست وبعناية فائقة تاريخ تلك الإمبراطورية التجارية التي لم تتكرر، ومذيلاً مقالته بخاتمة "لا توجد شركة اليوم قادرة على ارتكاب عنف الشركات على نطاق عنف تلك الشركة الأسطورية"، وبحسب ما يذكر دالريمبل في أطروحته، عن ذاك العنف، فقد استخدمت الشركة جيشها، للقيام بأعمال عنف واغتصاب الآلاف من الهنديات، في هجمات تشنها على القرى التي لم تبدِ أيّ وجه من الاعتراض على ظلم الإدارة، ولم تتورع عن حرق المعارضين أحياءً أمام ذويهم وأطفالهم، كما تمّ اختطاف الأطفال وإرغامهم على العمل في المناجم، ولم تكف تلك القوات عن سرقة مؤن المواطنين، وتكلّل عنف الشركة في مجاعة البنغال الشهيرة، والتي تعدّ أكبر مجاعة في التاريخ الحديث؛ إذ أودت بحياة أكثر من ثلث سكان المنطقة؛ أي ما يزيد عن 10 ملايين نسمة.

اقرأ أيضاً: كيف يغيّر الهنود الحالمون العالم؟

كان التجويع دائماً وسيلة التاج البريطاني برعاية شركة الهند الشرقية لإخضاع الهنود، فبينما تتزين نساء البرجوازية الإنجليزية بالحرير الهندي، يأكل الشعب الجائع لحوم بعضه، ورغم التحذيرات والاستغاثات التي أطلقت لحلّ أزمة الجفاف، تجاهلت الشركة معاناة الشعب الفقير، وتركت إقليم البنغال كاملاً تحت وطأة المجاعة التي امتدت إلى مناطق أخرى، واستكمالاً للإجرام، اتخذت الشركة من هذا الحادث ذريعة لاحتكار تجارة الحبوب، التي حققت منها أرباحاً هائلة، انتهت المجاعة الكبرى، عام 1773، بعد أربعة أعوام من الجوع القاتل، وبدأت التمردات الهندية في الظهور، كما استطاع المتمردون تنظيم أنفسهم، للمرة الأولى، بفضل تلك المجاعة، وكانت ثورة عام 1857 هي الأكثر عنفاً تجاه المحتل كما يصفها دالريمبل؛ إذ إنّ جيش المتمردين كان قوامه من مجندي البنغال الذين جندتهم الشركة قسرياً للدفاع عن ممتلكاتها المغتصبة، كان السبب الرئيس للاستياء الذي نشأ قبل عشرة أشهر من اندلاع التمرد، هو قانون تجنيد فئة الخدمات العامة، المؤرخ 25 تموز (يوليو) 1856؛ إذ تمّ إعفاء رجال من جيش البنغال من الخدمة في الخارج، ثمّ تمّ تجنيدهم فقط للخدمة في المناطق التي يمكنهم المسير إليها.

اقرأ أيضاً: الهنود الحمر: طقوس تتماهى مع الطبيعة
ورأى الحاكم العام، اللورد دالهوسي، هذا الأمر غريباً؛ حيث إنّ جميع جنود الجيش في مدرستي وبومباي وكتائب "الخدمة العامة" الست في جيش البنغال قبلوا التزاماً بالخدمة في الخارج، إذا لزم الأمر، ونتيجة لذلك؛ فإنّ عبء توفير الوحدات للخدمة الفعلية في بورما، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق البحر كان للمجندين الأضعف، وهو ما أثار حفيظة العديد من المجندين البنغال. وفي أواخر آذار (مارس) 1857، هاجم هندي يدعى مانجال باندي الضباط البريطانيين في الحامية العسكرية في باراكبور، وتم اعتقاله وإعدامه من قبل البريطانيين، في أوائل نيسان (أبريل)، في وقت لاحق من الشهر نفسه؛ رفض جنود باندي في ميروت استخدام خراطيش إنفيلد، وكعقوبة، صدرت ضدّهم أحكام بالسجن لفترات طويلة، وتم تقييدهم ووضعهم في السجن، أثارت هذه العقوبة غضب رفاقهم، الذين تمردوا، في 10 أيار (مايو)، على ضباطهم البريطانيين، وساروا إلى دلهي، حيث لم تكن هناك قوات أوروبية.
كان التجويع دائماً وسيلة التاج البريطاني برعاية شركة الهند الشرقية لإخضاع الهنود

احتدام التمرد
انضمت حامية ماندي المحلية إلى رجال ميروت، وبحلول الليل، تمّت استعادة إمبراطور المغول المسنّ، باهدر شاه الثاني، إلى السلطة، من قبل المتمردين؛ إذ أسّس الاستيلاء على دلهي نقطة تركيز، وحدّد نمط التمرد كله، الذي انتشر بعد ذلك في جميع أنحاء شمال الهند، باستثناء الإمبراطور المغولي وأبنائه ونانا صاحب، ابن بالتبني لمارثا بيشاوا المخلوع، ولم ينضم أيّ من الأمراء الهنود المهمين إلى المتمردين.

اقرأ أيضاً: من شبه معبود لدى ملايين الهنود إلى مدان بالاغتصاب وغيره
منذ استيلاء المتمردين على دلهي، تم تقسيم العمليات البريطانية لقمع التمرد إلى ثلاثة أجزاء؛ أولاً جاءت النضالات اليائسة في دلهي، وكانبور، لكن خلال فصل الصيف، ثمّ العمليات حول لكناو في شتاء 1857-1858، من إخراج السير كولين كامبل؛ وأخيراً حملات "التطهير" التي قام بها السير هيو روز، في أوائل عام 1858، أعلن السلام رسمياً في 8 تموز (يوليو) 1859، وبقدر الغضب الذي عبر عنه الهنود تجاه الإنجليز، كان الانتقام أكثر دموية من قبل ضباط الاحتلال، الذين مارسوا إبادات جماعية بحقّ الثوار، ولم يكن من هذا التمرد سوى المكسب الأهم، وهو إلغاء الحكم المباشر للشركة على الهنود، من قبل الحكومة البريطانية، كما أنّ هذا التمرد الذي أدّى إلى أزمة مالية كبيرة للشركة، عمل على إعادة تنظيم الإدارة الهندية، وأيضاً أعاد هيكلة الجيش الهندي على نطاق واسع.

نشر كارل ماركس مقالاً عن تاريخ شركة الهند الشرقية وبأنها ليست سوى اتحاد المجتمعات المتخلفة التي تدّعي احتكار التجارة


وفي هذا الصدد، يطرح أستاذ فلسفة التاريخ بجامعة نيودلهي، فيفيك كومار، نتائج أخرى في حديثه مع "حفريات" حيث "كانت النتيجة المهمة والحقيقية، للتمرد هي بداية سياسة التشاور مع الهنود، كان المجلس التشريعي لعام 1853 يضم الأوروبيين فقط، وكان يتصرف بغطرسة كما لو كان برلماناً كاملاً، وكان هناك شعور واسع النطاق بأنّ قلة التواصل مع الرأي الهندي ساعدت في التعجيل بالأزمة، وعليه تمّ منح المجلس الجديد لعام 1861 عنصراً ترشحه الهند، كما استمرت برامج الأشغال التعليمية والعامة (الطرق والسكك الحديدية والتلغراف والري) دون انقطاع يذكر؛ وكان هناك تأثير للتمرد على شعب الهند نفسه، كان المجتمع التقليدي قد قام باحتجاجه على التأثيرات الغريبة القادمة، وفشل، كان الأمراء وغيرهم من القادة الطبيعيين؛ إما بعيدين عن التمرد، أو قد أثبتوا، في معظم الأحيان، عدم الكفاءة. ومنذ ذلك الوقت تضاءل كلّ الأمل الجاد في إحياء الماضي أو استبعاد الغرب، وبدأ الهيكل التقليدي للمجتمع الهندي في الانهيار، وحلّ محلّه في نهاية المطاف نظام طبقي غربي، ظهرت منه طبقة وسطى قوية مع إحساس متزايد بالقومية الهندية".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية