يعكس الهجوم الكبير من جانب عناصر تنظيم الإخوان على القيادي حلمي الجزار رئيس ما يُعرف بالمكتب السياسي للجماعة وأحد القيادات البارزة داخل جبهة لندن، على خلفية تصريحاته حول آلية عمل جماعة الإخوان وسياستها، أثناء لقائه الأسبوع الماضي على قناة (BBC)، يعكس بشكل واضح تعمق حالة الانقسامات الداخلية التي تعيشها الجماعة، وتناقض الرؤى حول مستقبل التنظيم الذي يعاني على مدار أعوام جراء أزمات هيكلية وبنيوية حادة.
أسباب الخلاف
جاء الهجوم على الجزار بعد تصريحاته التي أثارت جدلاً في برنامج "بلا قيود" على قناة (BBC)، فقد تسببت تلك التصريحات في تصاعد الخلافات داخل الجماعة باعتبارها لم تكن مجرد رأي فردي، بل كانت محاولة لتوجيه رسالة داخلية وخارجية حول أهمية إجراء مراجعات فكرية واستراتيجية لسياسات الجماعة، وهو ما أثار استياء العديد من العناصر داخل التنظيم، خصوصاً أولئك الذين يتبنّون مواقف أكثر تشدداً، ويعتبرون أنّ أيّ نقد ذاتي أو مراجعة، مثابة تهديد للوحدة الداخلية للجماعة.
في المقابلة التلفزيونية أشار حلمي الجزار إلى مجموعة من النقاط المهمة التي اعتبرها ضرورية لمستقبل الجماعة، حين قال: إنّ الإخوان المسلمين بحاجة إلى وقفة جادة لإعادة النظر في بعض السياسات التي تم اتباعها، خاصة بعد الإطاحة بحكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وأكد الجزار أنّ الجماعة ارتكبت أخطاء في تعاملها مع الوضع السياسي بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، ومن ضمن هذه الأخطاء إدارة العلاقة مع الدولة ومؤسساتها. وهي تصريحات فتحت الباب واسعاً للنقاش حول مدى صحة هذه الرؤية، في وقت تعاني فيه الجماعة من انقسامات داخلية واضحة.
الجزار لم يكتفِ بنقد التجربة السابقة، بل دعا إلى إجراء مراجعات جذرية في طريقة تفكير الجماعة وأسلوب تعاملها مع الأحداث السياسية، وأكد على ضرورة فتح حوار داخلي بين الأعضاء، وكذلك حوار خارجي مع القوى السياسية المختلفة، بما في ذلك القيادة السياسية الحالية داخل مصر، وشدد على أنّ الحلول للأزمات الحالية لن تأتي إلا من خلال الحوار والتفاوض، وليس من خلال التصعيد المستمر الذي اعتبر أنّه قد يؤدي إلى مزيد من العزلة السياسية للجماعة. هذه التصريحات جاءت بمثابة دعوة لإعادة التفكير في استراتيجية الجماعة، وفتح قنوات للتواصل مع الدولة؛ وهو ما رآه البعض داخل الجماعة بمثابة خيانة للمبادئ التي تمسكت بها الجماعة منذ أعوام.
هجوم شرس واتهامات بالخيانة
الهجوم على الجزار لم يكن مقتصراً على الأروقة الداخلية للجماعة، بل انتقل إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فقد شهدت صفحات مرتبطة بالجماعة موجة واسعة من الانتقادات ضدّه، واتهمه البعض بالتفريط في "دماء الشهداء"، والتخلي عن "ثوابت الجماعة"، التي تقف موقف العداء التام مع الدولة المصرية، وجاءت هذه الانتقادات في معظمها من تيار داخل الإخوان، يقوده بحسب مراقبين إخوان مصر الذين يقيمون في تركيا بقيادة محمود حسين، وهو يرفض أيّ نوع من التراجع أو تقديم تنازلات سياسية، ويعتبر أنّ الحل الوحيد يكمن في الاستمرار في مواجهة الدولة ورفض الحوار.
كذلك ظهرت بعض البيانات غير الرسمية التي تداولها أعضاء الجماعة، التي هاجمت تصريحاته بشدة، واعتبرت أنّ مناداته بالحوار مع الدولة المصرية يُعدّ تخلياً عن المشروع الذي دافعت عنه الجماعة منذ الإطاحة بمرسي، وهو المشروع الذي يعتبر أنّ استعادة السلطة هي الطريق الوحيد لإعادة "الشرعية"، واستعادة مكانة الإخوان كقوة سياسية رئيسية في مصر، هذه الهجمات كشفت عن مدى الانقسام الذي يعيشه التنظيم في هذه الفترة، حيث إنّ الجزار يمثل تياراً يطلق على نفسه التيار الإصلاحي داخل الجماعة، بينما تقف ضده تيارات أخرى تتبنّى مواقف أكثر تصلباً.
ودفاعاً عن الجزار أمام الهجمة الشرسة التي تعرض لها، كتب القيادي الإخواني مراد علي عبر صفحته على موقع (فيسبوك): "الدكتور حلمي الجزار من الشخصيات المهذبة ذات التاريخ الوطني العريق، منذ أن كان في صفوف القيادات الطلابية في أوائل السبعينات، مرّ الرجل بتجارب قاسية وابتلاءات متعددة خلال مسيرته، إلا أنّه ظل محافظاً على خطه الوطني وأخلاقه الرفيعة".
وتابع متسائلاً: "هل يليق أن يتطاول عليه البعض لمجرد الاختلاف في الرأي؟ أليس من الممكن أن نختلف معه بكل أدب واحترام، وخاصةً أنّه لم يتجاوز قط في حواراته، بل يقدر الاختلاف ويقبله؟"
وأضاف: "إنني أعتذر للدكتور حلمي عن كل إساءة طالته في الأيام الأخيرة، وأجدد له احترامي العميق لشخصه، وثقتي الكاملة في صدق نيته وصلاح سريرته، وإن كنت أحتفظ بحقي الكامل في الاختلاف معه في بعض آرائه وأطروحاته".
جذور التصدعات داخل الإخوان
تتعدد الأسباب التي أدت إلى تعمق الخلافات والصراعات الداخلية بين جماعة الإخوان، وإذا كان الحديث عنها يرتبط بالصراع حول قيادة التنظيم والانفراد بمراكز التمويل والإدارة، إلا أنّ جزءاً لا يستهان به يعود تاريخياً إلى التناقض بين الأهداف المعلنة للجماعة وأفعالها الحقيقية، فالجماعة تدّعي العمل من أجل الإصلاح الاجتماعي والسياسي، لكنّها في الواقع تعتمد على أجندة سرّية تتسم بالعنف والتطرف، هذا التناقض أوجد انقسامات داخلية بين الأعضاء الذين يؤمنون بالعمل السياسي العلني، أو من أطلقوا على أنفسهم أنّهم (إصلاحيون)، ومن بينهم حلمي الجزار، وبين الأعضاء الأكثر تطرفاً الذين يرون أنّ العنف هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق أهدافهم.
واليوم، يرى التيار الأكثر تطرفاً داخل الجماعة أنّ القيادة الحالية تخلت عن المبادئ الثورية الأصلية التي تم تأسيس الجماعة عليها؛ ممّا أدى إلى حدوث انقسامات بين من يسعون للانخراط في العمل السياسي، وبين من يرغبون في الاستمرار في نهج التصعيد والعداء للدولة، هذا الصراع يعكس أيضاً غياب الشفافية داخل التنظيم الذي يعتمد على الأجندة السرّية والتنظيمات الخاصة المسلحة.
السبب الثاني للصراعات الداخلية يمكن ربطه بالتنافس على السلطة والنفوذ داخل الجماعة، وباعتبار الجماعة تنظيماً هرمياً وسرّياً، فإنّ الوصول إلى مراكز القيادة ليس عملية ديمقراطية، بل يعتمد على الولاء للتيار المسيطر والقدرة على التحكم في الشبكات التنظيمية.
عادة في الفترات التي تعاني فيها الجماعة من أزمات خارجية، مثل ما حدث بعد الإطاحة بحكم محمد مرسي في مصر جراء الثورة، تظهر الخلافات الداخلية بوضوح نتيجة الصراع على السلطة بين القيادات العليا وبين الأجنحة التي تسعى للسيطرة على القرار، هذا التنافس يؤدي إلى حالة من الانقسامات العميقة بين الأعضاء، حيث تتصارع كل فئة من أجل فرض رؤيتها الخاصة حول مستقبل التنظيم، ممّا يعمق الانشقاقات الداخلية ويضعف قدرتها على مواجهة الضغوط الخارجية.
السبب الثالث يكمن في الفشل الاستراتيجي للجماعة في التكيف مع المتغيرات السياسية التي واجهتها بعد سقوط حكمها في مصر وتعرضها لضغوط أمنية ودولية كبيرة، وقد جاء هذا الفشل نتيجة مباشرة لاعتماد الجماعة على العنف والتآمر بدلاً من بناء علاقات سياسية مشروعة، هذا الفشل الاستراتيجي أوجد خلافات بين التيارات التي تدعو إلى إعادة تقييم موقف الجماعة والبحث عن طرق جديدة للمواجهة، وبين التيارات الأكثر تطرفاً التي تعتقد أنّ العنف هو السبيل الوحيد لاستعادة النفوذ، ولا شك أنّ هذه الخلافات حول الاستراتيجية الأنسب لمواجهة الأنظمة الحاكمة تزيد من تعميق الأزمة الداخلية، وتكشف عن ضعف التنسيق والانقسام بين الأعضاء.
ولا تنفصل التوترات الراهنة داخل جماعة الإخوان بطبيعة الحال عن حالة الصراع المحتدمة منذ أعوام بين جبهتي لندن بقيادة إبراهيم منير، ومن بعده صلاح عبد الحق، وجبهة إسطنبول بقيادة محمود حسين ورفاقه من إخوان مصر المقيمين بتركيا، ويرى مراقبون أنّ جبهة إسطنبول تتبنّى موقفاً أكثر تشدداً يدعو إلى الاستمرار في رفض أيّ تفاوض مع القوى السياسية في مصر، وترى أنّ العمل السرّي والضغط الخارجي هما السبيل لإعادة الجماعة إلى السلطة، في المقابل، تدعو جبهة لندن إلى العمل السياسي السلمي والمشاركة في الحوارات الدولية لحل الأزمة، ممّا يعكس نهجاً براغماتياً يختلف عن موقف جبهة إسطنبول الأكثر تصلباً.
ويمكن القول إنّ الهجوم على حلمي الجزار يمثل مجرد حلقة في سلسلة من الخلافات والصراعات التي تعصف بجماعة الإخوان المسلمين في هذه المرحلة الحرجة، فالجماعة تقف اليوم عند مفترق طرق، وتواجه تحديات داخلية وخارجية كبيرة تفرض عليها إعادة التفكير في سياساتها واستراتيجياتها، وبينما يدعو البعض إلى مراجعات داخلية وإصلاحات سياسية، يرفض آخرون أيّ نوع من التغيير، معتبرين أنّ الحفاظ على النهج الحالي هو السبيل الوحيد للحفاظ على هوية الجماعة ومستقبلها.