هاجس الخلافة والحلم ببعث حضارة المسلمين

الإسلام السياسي

هاجس الخلافة والحلم ببعث حضارة المسلمين


04/01/2018

في حوار تلفزيوني للداعية الإسلامي وجدي غنيم، وصف العالم المصري دكتور أحمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، بعد وفاته بأيام، قائلاً: "هلك هذا المجرم الكافر الخائن؛ مؤيد عبد الفتاح السيسي المنقلب على الرئيس الشرعي محمد مرسي".

تكفير غنيم لزويل غير منبتّ الصلة عن ماض قريب، سعت فيه الجماعات الجهادية لقتل أدباء ومفكرين عرب، بحجة أنّهم كفار، خالفوا القرآن الكريم والسنة النبوية، بداية من الروائي المصري نجيب محفوظ، الحاصل على نوبل في الأدب، حين حاولوا قتله عام 1995، بسكين غادر، وجد طريقه لرقبة محفوظ، ثم قبل ذلك الحادث بثلاثة أعوام، كان أبو العلا عبد ربه، عضو الجماعة الإسلامية، يجهز سلاحه مساء الثامن من حزيران (يونيو) عام 1992، في انتظار خروج المفكر فرج فودة من مكتبه بمدينة نصر، معتمداً على فتوى ما سمّي وقتها بجبهة علماء الأزهر برئاسة عبد الغفار عزيز، والتي قالت بكفر فرج فودة، ونشرت بياناً بذلك في مجلة "النور"، واعتمد القاتل أيضاً على فتوى من شيوخ جماعة الجهاد، وعلى رأسهم الشيخ عمر عبد الرحمن. واللافت للانتباه في قتل فودة أنّه بعد عقدين من السجن، خرج قاتله دون أن تتبدل قناعاته، ليقرر الانضمام إلى صفوف مقاتلي داعش، ويموت هناك في  آذار (مارس) 2017.

حديث الصحوة الإسلامية

تكفير علماء وفلاسفة، والتصريح بقتلهم، في السنوات التي أعقبت ما أصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية، والتي بدأت خيوطها منتصف السبعينيات من القرن العشرين، أصبح مسألة حتمية في أدبيات الجماعات المتطرفة.

من جانب آخر، يناقض حالة التكفير تلك، وفي سبيل إحياء دولة الخلافة، الهاجس الأكبر  للجماعات المتطرفة، ما يحدث من استمالة جماعات الإسلام السياسي لنفوس المسلمين في كل مكان، بحجة أنهم كانوا الأقوى، وقت أن كانت هناك خلافة إسلامية، مفاخرين بالحديث عن علوم العرب وعلمائهم، وكيف أثروا الحصيلة العلمية في العالم، علماً بأن الدولة العلمية تتعارض مع السلطوية الدينية، التي تقدم النقل في المطلق على العقل، فالحديث عن حضارة في ظل سلطوية كهنة الدين، أمر يحمل في طياته ثنياً للحقيقة، ووضعها في غير موضعها.

الصراع بين العلم والدين ليس حبيس القرون الوسطى، فهو مستمر حتى اللحظة في ظل عقليات فارقت التفكير المنطقي

وتشير الشواهد التاريخية إلى أنّ حضارة المسلمين، والتي أثمرت بذرتها نهايات القرن الأول الهجري، قامت في ظل سيطرة لمذهب فكري وديني، تكفره عقيدة أهل السنة والجماعة، والتي يأتمر بها أنصار جماعات الإسلام السياسي اليوم؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة، ترى أنّ المذهب المعتزلي، الذي سيطر على الدولة في القرن الثاني الهجري، كفر بواح، معتنقه خارج عن الملة، ويسردون في محاضراتهم كافة، قوة وثبات أحمد بن حنبل لسنوات، مسجوناً، بعد رفضه الانصياع لمطالبات الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، والتي فرضت عليه الاعتراف ببعض تصورات المعتزلة عن الدين، والتي رأى ابن حنبل أنها مخالفة لما جاء في القرآن والسنة، وهي المحنة التي يعنون لها أهل السنة والجماعة، بمحنة خلق القرآن.

بين التفكير والتكفير

بدأت بوادر تلك الحضارة العلمية، مع عصر جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري، إبّان حكم الخليفة المأمون الذي اهتمّ بجمع تراث الحضارات القديمة، وأرسل بعثات من العلماء إلى القسطنطينية وقبرص؛ للبحث عن ذخائر الكتب اليونانية، ونقلها إلى بيت الحكمة في بغداد، كذلك شجع المناظرات الكلامية، والبحث العقلي في المسائل الدينية، كوسيلة لنشر العلم وإزالة الخلاف بين العلماء، مما أدى إلى قوة نفوذ العلماء في الدولة، وكان من أشهرهم أبو عثمان الجاحظ.

أصدر المأمون برنامجاً منهجياً للدراسات الفلكية، في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد ودمشق، لكنه، ومن جانب آخر، سجن ابن حنبل، وسجن معه كل من رفض اعتناق آراء المعتزلة، حتى اضطر بعض علماء أهل السنة الكبار إلى ادعاء إيمانهم بفكر المعتزلة، حتى ينجوا بأنفسهم من السجن، وكان على رأس هؤلاء، إمام أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين.

تشير الشواهد التاريخية إلى أنّ حضارة المسلمين التي أثمرت بذرتها نهايات القرن الأول الهجري قامت بسبب عقل المعتزلة

مات المأمون، فأكمل المعتصم مسيرة سلفه، ورغم أنه ناصر المعتزلة، إلا أنّ أهل السنة أيضا يستدلون بمروءته، حين نصر امرأة نادت "وامعتصماه"، بعد أن غزا الروم موطنها، وجاء الواثق، الذي لم يستمر حكمه طويلاً، لكنه سار على نفس الدرب الذي مهد الطريق لحضارة إسلامية علمية، وصلت إلى أوجها في القرون: الثالث، والرابع، والخامس الهجري، ثم تراجعت مع إحجام الخليفة المتوكل عن فكر المعتزلة، وعودة الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، المسألة التي جاءت بالسلب على العلماء، الذين توهجت علومهم في تلك الفترة؛ مثلما حدث مع يعقوب بن إسحاق الكندي، والذي نال حظوة عند المأمون والمعتصم والواثق، وعلت منزلته عندهم، غير أنه لقى عنتاً من المتوكل؛ بسبب الأخذ بمذهب المعتزلة، فأمر المتوكل بضربه، ومصادرة كتبه.

ويعد الكندي أول الفلاسفة المتجولين المسلمين، كما اشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة، والهلنستية، كما اعتبره باحث عصر النهضة الإيطالي "جيرولامو كاردانو"، واحداً من أعظم العقول الاثني عشر في العصور الوسطى، وهو أول من نفى أثر الأجرام السماوية، وحركاتها، على حياة الإنسان، ومعرفة مستقبله، وهو أول من وضع سلماً موسيقياً للموسيقى العربية، في ضوء السلم الموسيقى لفيثاغورس.

من هؤلاء أيضاً، الجاحظ، كبير أئمة الأدب، قضى الجاحظ أكثر عمره في البصرة، وقصد بغداد بدعوة من المأمون، وعينه في ديوان الرسائل، وجعل له الصدارة فيه، وكان للجاحظ إنتاج وفير، وله من الكتب ما يزيد على المائتي كتاب، واتبع في دراسته الشك المنهجي، فسبق بذلك (ديكارت(. كان الجاحظ يؤمن أنّ القرآن حادث ومخلوق؛ لأنه شيء من الأشياء، وكان يؤيده الخليفة المأمون، ومن مؤلفاته التي توضح ذلك كتاب: "خلق القرآن"، وفي هذا أثار نقمة السنة من أهل الإسلام، الذين نادوا بأنّ القرآن غير مخلوق، وهذا وضعه على قائمة الملاحدة والزنادقة.

لم يسلم أيضاً من الاتهام بالكفر أبو حيان التوحيدي، وكان معتزلياً على مذهب الجاحظ، وقد رُمي بالزندقة، وقال عنه ابن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي والتوحيدي والمعري. ولد في شيراز أو نيسابور، وقضى معظم أيام حياته في بغداد، وتلقى فيها العلوم على شيوخ العصر في: الفقه، والنحو، والمنطق، واللغة. آخرون اتهمهم علماء الدين بالكفر والزندقة والإلحاد، وأحرقت كتبهم، مثل حرق كتابات ابن رشد بعد تكفيره، من قبل أبي حامد الغزالي.

بين العلم والدين

الصراع القائم بين العلم والدين ليس حبيس القرون الوسطى، فهو مستمر حتى اللحظة، فحين حاول الملك عبد العزيز النهوض بدولته الوليدة، اتخذ مستشارين من جميع الوطن العربي، أشاروا عليه بدعم المملكة بالعلوم الحديثة ومنتجاتها، فوقعت صدامات بينه وبين بعض علماء الدين، حول بعض المسائل التي يتشددون فيها؛ إذ رفض علماء الدين المنتجات الحديثة: كالبرقية، واللاسلكي، والتلفون، ورفضوا استخراج ماء زمزم بالآلات الحديثة. الصدامات التي تكررت في العديد من الدول العربية مع بدء ظهور التكنولوجيا الحديثة، حيث تمسك علماء الدين، ولا يزالون، بما ورد عن السلف كما هو، دون نقد أو نقض أو تعديل، يتناسب مع تصورات العصر الحديث، وحين عجزوا عن فرض رؤيتهم على الدول العربية الساعية نحو الحداثة، تلاحمت رغباتهم، فأنبتت جماعات الإسلام السياسي، الساعية للحكم بالقوة، مرددة، كيف كان علماء المسلمين بالأمس ينيرون العالم، حين كانت خلافة إسلامية!

الصفحة الرئيسية