لطالما كانت الفنون والقوى الناعمة من وسائل مواجهة التطرف الديني، ولهذا واجه الخطاب الراديكالي تلك الأشكال المختلفة من الفنون في الماضي والحاضر.
ما يلفت الانتباه في هذا السياق، على مدار القرن الماضي، هو تطوّر بعض الفتاوى الدينية من موقف النهي التام إلى الإباحة المشروطة، ربما رغبة في التجديد، فما لا يتجدّد يندثر، لكنّ مباركة الفنون لم تكن نابعة من الرغبة في التجديد فقط، بقدر ما كانت محاولة للتماهي مع تعاظم دور الفنون في الوجدان الشعبي.
لطالما كانت الفنون والقوى الناعمة من وسائل مواجهة التطرف الديني
فحين عجزت بعض الفتاوى عن كبح جماح الحركة الفنية المعاصرة في مطلع القرن العشرين، تماشت معها ودعمتها في سياق ديني، فما لا يُمكن مواجهته، يتمّ تبنّيه في إطار إيديولوجي، خاصة بعدما تعايش المجتمع مع ما كانت أجيال سابقة تُحرّمه أو تحتاط منه، وهو ما تجلّى في مسرح الإخوان المسلمين وتطويعه السياسي الدعوي في النصف الأول من القرن العشرين.
لهذا، فإنّ أثر الحراك والتطور الثقافي (حتى إن كان نسبياً) لا يجب إغفال أثره في تجديد الفكر الديني الجماهيري بشكل عام، وليس مجرّد أثره في خطاب المؤسسات الدينية الرسمية أو خطاب الجماعات الدينية التي تتخلى عن مواقفها أحياناً لأسباب براغماتية سياسية وليست فقهية.
اقرأ أيضاً: الفنون إذ تخترق أسيجة الأصولية
وهذا التطور النسبي في مفردات بعض الفتاوى يُشار إليه بسيسولوجيا الفتوى الدينية، أي المؤثرات الاجتماعية التي أثرت فيها وحملتها على التغيير، علماً بأنّ التغيير يختلف عن التطور، فالتطور يهتم بالفكر، وأمّا التغيير، فقد يهتم بالمفردات فحسب.
هل يحتاج الفن إلى مبرر ديني؟
يشمل الفن فروعاً عديدة، تطورت مع تطور المجتمعات، منها ما كان قائماً في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، ومنها ما تمّ استحداثه كالسينما والمسرح، فتمّ تصنيف إباحة الفنون دينياً حسب نوعها.
لهذا شاعت أسئلة على غرار: ما موقف الإسلام من الفنون الجميلة والتشكيلية والموسيقى والغناء والنحت والتماثيل والسينما والمسرح؟ ثمّ تطورت التساؤلات بشكل (جندري) لتسأل عن مدى مشروعية ممارسة النساء لتلك الفنون، ومن ثمّ تطوّرت إلى تساؤلات جندرية بصبغة طائفية، لتسأل عن مدى مشروعية ممارسة النساء المسلمات للفنون، وهي الفتاوى التي سيطرت على الفكر الديني في الـ 100 عام الماضية تحديداً.
حين عجزت فتاوى عن كبح جماح الحركة الفنية المعاصرة تماشت معها ودعمتها في سياق ديني
واختلفت الفتاوى ما بين العودة إلى النصوص التراثية، أو اللجوء إلى القياس في أصول الفقه عند أهل السنّة والجماعة، لأنّ كثيراً من أنماط الفنون المستحدثة لم تكن سائدة في الماضي.
ستكون مغالطة بحثية إن تمّ تصنيف الفتاوى في قالب جامد، أو عقد مقارنة بين فتوى سلفية خالصة بأخرى أشعرية أو شيعية المذهب بدون إدراك الظروف الزمانية والاجتماعية، لكن على الرغم من الفوارق النسبية إلّا أنّ القاسم المشترك في دراسة تلك الفتاوى، هو ربط الممانعة أو الإباحة بالفتوى الدينية.
اقرأ أيضاً: كيف رأى المسلمون الأوائل الفنون؟
وفي هذا الصدد يشير الباحث السوداني، د.حيدر علي إبراهيم، في كتابه الصادر في العام 2010 (سيسيولوجية الفتوى: المرأة والفنون نموذجاً) إلى أنّ الفتاوى كانت تسعى لتبرير وجود الفن في مجتمع مسلم، ورغم الرقابة الدينية تظل الإبداعات مباحة إلى أن يصطدم مضمونها مع المسلّمات الدينية، ويتطرّق الكتاب لأزمة الفتاوى السائدة التي لا ترى مدلولاً منفصلاً للفنون عن الدين.
التدين الشعبي ليس صوفياً فقط وإنّما له وجه أصولي أيضاً
لكنّ ما أشار إليه حيدر إبراهيم ليس قاصراً بالضرورة على فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية أو فتاوى الجماعات الدينية، وإنّما تعدّى الأمر إلى فتاوى تطلقها الجماهير على العمل الفني، ممّا يوحي بانتشار ثقافة تقييم الأعمال الفنية بين الجماهير من منظور عقائدي، وهو ما يُمكن وصفه بـ "سلفنة الثقافة"، فالتدين الشعبي ليس صوفياً فقط، وإنّما له وجه أصولي أيضاً، يخرج أحياناً من وسط أشخاص حداثيين. هنا نجد أنّ الوجدان الشعبي تعاطى مع الفنون، لكنّ الوجدان نفسه قد يُخضع الفنّ لمسلّماته الدينية لتكون هي الرقيب على مضمونه.
فهناك فارق بين الحداثة في استهلاك المنتجات العصرية وبين حداثة الفكر، بل يتزعم بعض الفنانين حملات تكفيرية أخلاقوية ضدّ غيرهم من الفنانين، ممّا يُنبئ بتعرّض الفن لموجات من الأصولية في إطار حداثي المظهر.
نيران صديقة: هل يخرج التعصب من رحم الوعي الفني؟
على الرغم من ذلك، بزغ دور الفنون كوسيلة لزيادة الأفق والوعي وتنمية الحسّ الإنساني، بل تمّ تطويعها في مناهضة رسائل التعصب الديني على اختلاف مصادرها، ويتعاظم دور الفنون بأشكالها المختلفة كلما تزايدت موجات الإرهاب المسلح.
لكنّ هذه الأعمال الفنية لم تخلُ من النيران الصديقة في بعض تفاصيلها الفرعية، ربما أحد المشاهد الملفتة للانتباه، جاء في المسلسل المصري (لن أعيش في جلباب أبي) في العام 1996، المستوحى من رواية الأديب إحسان عبد القدوس، وقد تغير كثيرٌ من أحداثه وشخوصه من أجل الاقتباس التلفزيوني.
رصد بعض أنماط النيران الصديقة لا يعني تهميش دور الفنون في مواجهة التطرّف
وتضمّنت بعض مشاهده استمالة الحركات الجهادية لبطل المسلسل (عبد الوهاب) الذي يرفض الانصياع للمتطرفين ويمطرهم بالآيات القرآنية والأحاديث الدالة على السماحة الدينية، ويرفض ارتداء جلبابهم القصير، لكنه في الوقت ذاته يعود إلى منزله وينهى شقيقاته عن الاستماع للموسيقى والتمايل معها، ويهدّد بتكسير المذياع!
على الرغم من أنّ العمل تطرّق للتطرف الديني، الذي سعى الإعلام الرسمي لمواجهته من خلال إنتاجه التلفزيوني حينها، إلّا أنّ الرسالة تضمّنت نيراناً صديقة في صورة خطاب وسطي مبهم، وهو الأمر الغالب على المعالجة الدرامية، لكنّ تلك النيران الصديقة جزء من ثقافة سائدة، ولهذا فإنّ الأعمال الفنية ليست ببعيدة عن عصب الثقافة الجماهيرية بكلّ تمثلاتها.
سياسات المرح: كيف يواجه البسطاء التطرّف؟
رصد بعض أنماط النيران الصديقة لا يعني تهميش دور الفنون في مواجهة التطرّف، فالفنّ بأشكاله المختلفة، من رسم ونحت وتمثيل، يلعب دوراً بالغ الأهمية، ليس فقط من خلال رسائله المباشرة، ولكنّ تأثيره الحقيقي يتحقق عن طريق رسائله الضمنية الشعبية والإنسانية، أو كما أشار إليها أستاذ علم الاجتماع الإيراني (آصف بيات) فيما سمّاه (سياسات المرح) المواجهة للفكر الراديكالي والتزمت الديني في صورته السلطوية أو المجتمعية، كما جاء في كتابه الصادر في العام 2014 (الحياة كسياسة: كيف يغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط؟).
اقرأ أيضاً: تعرّف إلى أول معهد مختصّ بالثقافة والفنون بالسعودية
الاعتماد على الفنون كقوى ناعمة لدعم مفهوم التعايش السلمي والمساواة الجندرية والعقائدية ومناهضة التعصب ليس مجالاً حديثاً على المستوى التنموي، حيث تلجأ إليه منظمات أممية مثل اليونسكو، وتلجأ إليه أيضاً قوى المجتمع المدني المحلية، بل تلجأ إليه الثقافة الجماهيرية وفرق الغناء الشعبية غير المؤدلجة في أطراف القرى، مثل فرقة (بانوراما برشا) نسبة إلى القرية التي خرجت منها في محافظة المنيا بجنوب مصر. حيث قدّمت الفرقة عروضاً من مسرح الشارع تضمّنت فتيات ينشدن بالغناء للتوعية ضدّ ممارسات القهر والعنف، ومن بينها تشويه الأعضاء التناسلية المعروف بـ(ختان الإناث).
بل تطوّر نشاط الفرقة ليشمل تقديم عروض مسرحية ساهمت في الصلح بين قريتين عن طريق دعوة أبنائهما لعروض فنية. وهذا مجرّد مثال للقوى الناعمة التي يتمّ رصدها في إطار (اللّاحركية)، أي عدم التبعية لحراك سياسي منظم.
القوى الناعمة المضادة: قوى داعمة للراديكالية
تفتق ذهن القوى الراديكالية المعاصرة عن هذا الأمر منذ عقود، ولم يعد تحريم الفنون أو بعض أشكالها يجدي نفعاً، فلم يعد مفيداً التمسك أو الإشارة إلى كتاب، على غرار كتاب (إقامة الدليل على حرمة التمثيل) لمؤلفه الشيخ أحمد بن صديق الغماري، والذي ظلت طبعاته المتتالية تصدر حتى مطلع الألفية الثالثة، فمثل هذه الكتب والفتاوى لم تعد مؤثرة على منظومة الإنتاج الفني في إطاره العام، حتى وإن كانت الثقافة في عمومها محافظة، ولهذا بدأت تتشكل أدبيات تسعى لخلق قوى ناعمة مضادة.
ويُمكن رصد 5 أطر عامّة ومتشابكة لتطويع القوى الناعمة في دعم الراديكالية الدينية:
أولاً: اختراق القوى الناعمة الفاعلة من خلال مصطلحات مبهمة مثل (الفن الحلال) و(الفن النظيف) الذي يوحي بأنّ الفن في أساسه حرام أو غير نظيف، وتعتمد هذه الدعوات على ما يُعرف سيسيولوجياً بـ (تأثير الدومينو)، أي حتى إن تمّت الدعوة للمفاهيم حركياً إلّا أنّ أثرها يمتد شعبوياً بشكل تلقائي.
ثانياً: إنّ خلق حراك من داخل القوى الناعمة لا يقتصر على التنظيمات الحركية، بل يمتدّ إلى المؤسسات الحكومية الدينية التي تقترن في ذهنية الجماهير بالوسطية، حتى وإن كان هناك خلاف أكاديمي على المصطلح، إلّا أنّ التنظيمات الإسلاموية عادة ما تلجأ إلى بعض فتاوى تلك المؤسسات لدعم موقفها، خاصة فيما يخصّ الإباحة المشروطة والسيطرة على المادة الفنية في إطار يرونه شرعياً، لا سيّما أنّ كثيراً من تلك المؤسسات يحقّ لها الاعتراض قانوناً على مادة مرئية أو مسموعة أو مكتوبة.
ثالثاً: على الرغم من أنّ الإنتاج الفني المناهض للتطرّف يستهدف التنظيمات الجهادية في إطار صنع دراما مواجهة، إلّا أنّ وقوعه في أزمة النيران الصديقة المشار إليها مسبقاً هو أمر يتم استغلاله جيداً، تماماً كما حدث من خلال المسلسل المصري (الاختيار)، الذي أشار إلى استناد التكفيريين إلى ابن تيمية، ثمّ عاد المسلسل ليتطرّق إلى تأويلات التكفيريين المغلوطة لابن تيمية دون التطرّق لمجموع الفتاوى. وهذا الإنصاف المطلق لابن تيمية واللجوء إلى القول إنّ فتاواه كان يُقصد بها التتار فقط، أمر فيه اجتزاء، يصبّ في مصلحة الجماعات الإسلامية التي تستند إليه في وضع ضوابط للتكفير لا رفضه.
رابعاً: التضامن مع أصوليات دينية أخرى
على الرغم من أنّ الأصولية الدينية تعزّز الطائفية، إلّا أنّها تبحث في الوقت ذاته عن قواسم مشتركة تجمعها بأصوليات من عقائد أخرى. فالأصوليات تتناحر فيما بينها لكنها تتحد في مواجهة الفكر النقدي من خلال نبذ أو محاولات منع أعمال أدبية أو فنية، أو اقتيادها للمحاكمات بتهمة ازدراء الأديان، حتى وإن لم تتعرّض الأعمال لمنحى ديني من أساسه.
خامساً: القوى الناعمة كذراع حركي
كلّ ما سبق يقع في إطار استراتيجية اختراق ما هو قائم، لكنّ هذا لا ينفي قناعة التنظيمات بضرورة إنشاء أذرع حركية تابعة لها، تقوم بتطويع القوى الناعمة من فنون بأنماطها المختلفة، لتكون في خدمة دعوتها.
الاعتماد على القوى الناعمة والفنون لمواجهة التطرف يكون منقوصاً إذا تمّ بمعالجة سطحية
على سبيل المثال لا الحصر، لعبت نساء داعش دوراً محورياً في ذلك، كما فعلت شاعرة الدولة الإسلامية (أحلام النصر)، التي تكتب أشعاراً محفزة على ضرب الأعناق وقتل غير المسلمين، والتي تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بدون تكلفة.
لكن.. ما أهمية الرصد؟
أهمية الرصد هي التمعّن في فلسفة القوى الناعمة والفنون التي ارتبطت ذهنياً بمناهضة التطرّف، بدون الالتفات إلى أنّ الأصولية الدينية تستخدم السلاح نفسه.
لهذا، فإنّ الاعتماد المطلق على القوى الناعمة والفنون في المواجهة قد يكون منقوصاً إذا تمّ في إطار تقديم معالجة سطحية لأصل الأزمات التي تمتدّ في تاريخ الموروثات.