نقمة الهويات المنغلقة

نقمة الهويات المنغلقة


28/11/2018

وحيد عبدالمجيد

أصبحت كلمة الهوية من أكثر الكلمات استخداماً وشيوعاً في العالم خلال العقدين الأخيرين. وهي في الوقت نفسه، من أكثر الكلمات المختلف على معناها ودلالتها، رغم شيوع استخدامها على أوسع نطاق. الهوية ليست مصطلحاً علمياً، ولا يبدو أنها ستكون كذلك في أي مدى منظور. فالمصطلح هو ما اصطُلح بشأنه، أي المتفق عليه، أو الذي يحمل دلالة معينة يوجد اتفاق عليها في هذا العلم أو ذاك.
لذلك لا يستقيم أي حديث عن الهوية من دون البدء بتحديد ما يقصده مَن يتحدث عنها، ولا يُجاز أي بحث يُكتب عنها إلا بعد توضيح المقصود بها فيه، بحيث نستطيع مناقشة هذا البحث وفق المعنى الذي انطلق كاتبه منه. وإذا حددنا معنى الهوية، هنا، في كيفية تعريف المرء لنفسه، أو نظرته لذاته، يبرز على الفور مفهومان أساسيان: مفهوم الانتماء، ومفهوم الآخر المختلف، بوصفهما أساساً لهذا التعريف. فعندما يُعرَّف المرء نفسه، ومن ثم يفصح عن هويته وفق نظرته إليها، فهو يُحدد انتماءه الجوهري وفقاً لما يؤمن به، ويوضح طريقة إدراكه لعلاقته بالآخر المختلف عنه.
والهوية، على هذا النحو، يمكن أن تكون نعمة، وقد تكون نقمة، وفقاً لطبيعة الانتماء الذي يحددها، ونوع العلاقة المترتبة عليها مع الآخر. تنطوي الهوية بالضرورة على شعور بالانتماء. وعبر هذا الشعور، يتصرف المرء بطريقة معينة في علاقته بالآخر. وقد يكون في هذه الطريقة ما يقربهما، وقد تنطوي على ما يباعد بينهما.
والأساس في هذا كله هو كيفية تعريف المرء لنفسه. فكلَّما ضاق هذا التعريف، كانت هويته منغلقةً فيما يُصطلح على تسميته انتماءً أولياً ما. قد يكون هذا الانتماء دينياً أو مذهبياً أو عرقياً. وعندما ينغمس المرء في هذا الانتماء، ويجعله مُحَّدداً وحيداً لهويته، ويتطرف في تقديره، تزداد هويته انغلاقاً، ويتنامى خطرها، في آن معاً.
وكلما توسع تعريف المرء لنفسه كان مؤشراً لتنامي وعيه بأن لديه انتماءات متعددة يحرص عليها كلها، ويُحسن ترتيبها بحيث يكون انتماؤه الوطني جامعاً لبقية الانتماءات. فلكل إنسان انتماءات عدة. فهو ينشأ في بلدة أو قرية أو مدينة يعتز بها، وفي أسرة أو عائلة أو عشيرة يحبها، ويعتنق ديناً معيناً، ويؤمن بمذهب ما في هذا الدين، وينحدر من أصل أو عرق، وينتمي إلى دولة هي وطنه. وبقدر ما يشعر بأن انتماءه الوطني لدولته هو الأساس، ليس لأنه يجُب ما عداه، بل لكونه يجمع مختلف الانتماءات الأخرى، يكون هذا الانتماء نعمة بالنسبة إليه، كما إلى غيره، وتُعتبر هويته في هذه الحالة منفتحة.
وعندما يكون الانتماء نعمة على هذا النحو، والهوية منفتحة، يكون التفاعل مع الآخر تعاونياً وخلاقاً ومثمراً للطرفين. فالهوية المنفتحة لا تفرض خطاً فاصلاً مع الآخر، بل تخلق جسراً معه، بخلاف الهوية المنغلقة التي يكون الانتماء فيها نقمة، وليس نعمة، لأنه يجعل التفاعل صراعياً، وقد يصبح مدمراً، وربما يصير قاتلاً، كما هي الحال في بلدان عربية عدة اليوم. غير أن هذا الانغماس في هوية منغلقة بالغة الضيق، على نحو يجعل الانتماء إليها نقمة، قد يواكبه انغماس في هوية تبدو واسعة وتعلو على الانتماء الوطني (عربية أو إسلامية). لكن كونها واسعة لا يعني أنها منفتحة، بل العكس هو ما يحدث في الواقع. ويجمع بين الهويتين، في هذه الحال، وضع خط فاصل تجاه الآخر، واتخاذ موقف سلبي قد يكون عدائياً ضده. وعندئذ تُغذي كل من الهويتين الأخرى، سواء التي تعلو الانتماء الوطني (عربية أو إسلامية)، أو التي تدنوه (الدينية أو المذهبية أو العرقية)، وتخلق كل منهما مواقف عدائية ضد آخر في الداخل والخارج، وتؤدي إلى تكوين صورة نمطية عن كل من هذين الآخرين، وعنهما معاً في الوقت نفسه.
ويحتاج بعض المصابين بنقمة الهوية المنغلقة إلى رسم مثل هذه الصورة لكي يبرروا لأنفسهم تبعيتهم لقوة أو قوى خارجية. وليست حالة الجماعات والميليشيات التابعة لإيران في بعض البلدان العربية الآن إلا مثالاً واحداً في هذا المجال.

عن "الاتحاد"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية