ترجمة: محمد الدخاخني
من حينٍ لآخر، تساعد مقالة بحثيّة في تغيير الطّريقة التي ننظر بها إلى الأشياء، حدث هذا الشّهر الماضي، عندما نشر الطّبيبان النّفسيّان في كلّية لندن الجامعية؛ البروفيسورة يوانا مونكريف والدّكتور مارك هورويتز، مقالة عن الاكتئاب في مجلّة "الطّب النفسي الجزيئي" (Molecular Psychiatry).
دراستهما، وهي مراجعة شاملة منهجيّة، عبارة عن نظرة شاملة على الأبحاث السّابقة التي تستكشف نظريّة اختلال التّوازن الكيميائيّ (اختلال نِسَب هرمون "السّيروتونين") في سياق الاكتئاب، وكان استنتاجهما، بالنّسبة إلى كثيرين، بمثابة قنبلة: ربما لا يكون الاكتئاب ناجماً عن اختلال توازن "السّيروتونين" في الدّماغ.
التقطت وسائل الإعلام هذا العمل بسرعة، وتلقّت الدّراسة تغطيّة من 269 منفذاً إخباريّاً حول العالم، بالإضافة إلى ذلك، أصبحت القصّة على رأس أكثر المواد قراءة في اليوم في العديد من المنشورات المرموقة، علّق أكثر من 6,000 مستخدم فريد على "تويتر" على المقالة، وأعادوا تغريدها لحوالي 17 مليون متابع، ومن بين 21 مليون مقال علميّ مسجّل، تُعدّ هذه الدّراسة بالفعل من بين أفضل 500 ورقة علميّة شُوركت على الإطلاق.
أحد أكبر المخاوف الصّحّيّة
هذا الاهتمام الواسع يمكن ربطه بحقيقة أنّ الاكتئاب أصبح أحد أكبر المخاوف الصّحّيّة في عصرنا. في عام 2017، أعلنت وكالة الصّحّة التّابعة للأمم المتّحدة أنّ الاكتئاب هو "السّبب الرّئيس للإعاقة في أنحاء العالم كافّة"؛ حيث يؤثّر على ما يقدّر بنحو 300 مليون شخص.
السّبب الرّئيس الآخر للاهتمام والحنق هو أنّ هذا البحث يتحدّى الأساس العلميّ للأدوية التي نستخدمها لعلاج الاكتئاب. تعتمد مضادّات الاكتئاب الأكثر شيوعاً اليوم على فكرة أنّها تُصحّح اختلال التّوازن الكيميائيّ في الدّماغ، خاصّةً مستويات "السّيروتونين" المنخفضة أو غير النّشطة.
تعود نظريّة "السّيروتونين» هذه إلى السّتينات من القرن العشرين، ومع ذلك، لم تنطلق حتّى أوائل التّسعينات، بمساعدة شركات الأدوية. وعام 1987، مُنحت شركة "إلي ليلي"، وهي شركة أدوية متعدّدة الجنسيّات، الإذن بتسويق عقار "فلوكستين" المعروف باسم علامته التّجاريّة "بروزاك".
أثبتت تدخّلات علاجيّة مثل "الحدّ من التّوتر القائم على اليقظة العقليّة" و"العلاج الإداركيّ القائم على اليقظة" فعاليتها، وساعدت الأشخاص على منع التّوتر من الخروج عن نطاق السّيطرة
اعتمد هذا الدّواء الجديد على نظريّة "السيروتونين": فكرة أنّ انخفاض مستويات هرمون "السيروتونين" يسبّب الاكتئاب. وقد ادّعى العقار الجديد أنّه قادر على إصلاح هذا الاختلال في التّوازن. كان السّرد مغرياً في بساطته: كبسولة سهلة البلع يمكنها إعادة ضبط مستويات "السّيروتونين" المعيوبة، بالتّالي قهر الاكتئاب.
في أقلّ من عقد من الزّمان، شكّلت مبيعات "بروزاك" حوالي ربع عائدات "إلي ليلي" السّنويّة البالغة 10 مليارات دولار. وبحلول عام 2001، انتهت صلاحية براءة اختراع "إيلي ليلي" للـ "فلوكستين"، الحدث الذي فتح الباب أمام مضادّات اكتئاب أخرى تستهدف "السّيروتونين"، ومعروفة باسم "مثبّطات إعادة امتصاص السّيروتونين الانتقائيّة"، لدخول سوقٍ سريع التّوسّع.
إلى جانب "بروزاك"، تتضمن "مثبّطات إعادة امتصاص السّيروتونين الانتقائيّة" اليوم أسماء مثل: "زولوفت"، و"سيليكسا"، و"باكسل"، والمزيد.
طلقة قاتلة لنظريّة "السّيروتونين"
ومع ذلك، فإنّ هذه المراجعة الأخيرة، وهي الأكثر شمولاً حتّى الآن، هي في الأساس طلقة قاتلة لنظريّة "السّيروتونين". إنّ فكرة أنّ المستويات المنخفضة من "السّيروتونين" تُسبّب الاكتئاب، الأساس المنطقي لمضادّات الاكتئاب من نوعية "مثبّطات إعادة امتصاص السّيروتونين الانتقائيّة"، لا تدعمها أدلّة البحث العلمي.
على سبيل المثال، وجدت المراجعة أنّ الدّراسات التي تبحث في مستويات "السّيروتونين" في الدّم وسوائل الدّماغ لم تذكر أيّة فروق بين المصابين بالاكتئاب وغير المصابين به. وبالمثل، فإنّ الدّراسات الجينيّة المكثّفة لاستكشاف الجينات المرتبطة بـ "السّيروتونين" (الجين النّاقل للـ "سيروتونين") لم تسجّل أيّة اختلافات في تواتر نُسَخ الجينات بين الأصحاء والأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب. علاوةً على ذلك، بشكل عام، فشلت الدّراسات التّجريبيّة التي استنزفت، أو قلّلت، عن عمد مستويات "السّيروتونين" لدى أشخاص أصحاء في إحداث/ التّسبّب في الاكتئاب.
هذه المراجعة لها آثار واسعة وتُثير أسئلة مهمّة، على سبيل المثال؛ إذا لم يكن الاكتئاب ناتجاً عن خلل في "السّيروتونين" فما السّبب؟ وماذا تفعل مضادّات الاكتئاب هذه بالضّبط؟ وكيف ولماذا تعمل؟ تجب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة إذا استمرّ اختصاصيّو الصّحّة العقليّة في وصف "مثبّطات إعادة امتصاص السّيروتونين الانتقائيّة".
لم نعد قادرين على إخبار النّاس: "لديك خلل كيميائيّ، وهذه الحبّة ستصلحه"، إنّ الاستمرار في ترديد هذه النّظريّة القديمة (غير المدعومة) كما لو كانت حقيقة واضحة أمر مشكوك فيه أخلاقيّاً، على نحو يقوّض مبادئ الشّفافية والصّدق في التّواصل مع المريض.
لا شكّ في أنّ مضادّات الاكتئاب تُساعد الكثير من النّاس، فهي تقوم بعملها ولكن لا يبدو أنّها تعمل بالطّريقة التي اقترحتها سابقاً؛ لذلك لا يُنصح بالتّوقّف عن تناول هذه الأدوية من دون استشارة طبيب أوّلاً. يجدر أيضاً النّظر في ظهور نظريّات كيميائيّة حيويّة جديدة، فقد يُلقي بعضها الضّوء في النّهاية على آليات (كيفيّة عمل) مضادّات الاكتئاب الحالية.
مجتمعات مضادّة للاكتئاب
إلى جانب هذا التّركيز الكيميائيّ الحيويّ على الأدوية المضادّة للاكتئاب، نحتاج أيضاً إلى تركيزٍ اجتماعيّ، والعمل على تطوير عائلات مضادّة للاكتئاب، وتجمّعات مضادّة للاكتئاب، ومجتمعات مضادّة للاكتئاب. التّعرّض لأحداث حياتيّة مرهقة، مثل التعرّض للإيذاء وانعدام الأمن الاقتصاديّ والاستبعاد الاجتماعيّ، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطوّر الاكتئاب، وكما يقول المثل، الوقاية خير من العلاج، ويردّد بيانٌ نُشر في تقرير للأمم المتّحدة، عام 2017، صدى هذا الشّعور، داعياً الدّول الأعضاء إلى "تحويل استثماراتها في مجال الصّحة العقليّة" من التّركيز على "الاختلالات الكيميائيّة" إلى معالجة "اختلالات السّلطة" و"عدم المساواة".
لم نعد قادرين على إخبار النّاس: "لديك خلل كيميائيّ، وهذه الحبّة ستصلحه"، إنّ الاستمرار في ترديد هذه النّظريّة القديمة كما لو كانت حقيقة واضحة أمر مشكوك فيه أخلاقيّاً
إنّ التّقليل من تجارب عدم المساواة، والظّلم، والتّعرّض للإيذاء سيقطع شوطاً طويلاً لتقليل المعدّل الحاليّ للاكتئاب، جنباً إلى جنب مع مثل هذه المبادرات، قد نركّز أيضاً على مساعدة النّاس على تعزيز قدرتهم على الصّمود.
أثبتت تدخّلات علاجيّة مثل "الحدّ من التّوتر القائم على اليقظة العقليّة" و"العلاج الإداركيّ القائم على اليقظة" فعاليتها، وساعدت الأشخاص على منع التّوتر من الخروج عن نطاق السّيطرة والتّحوّل إلى شيء أكثر خبثاً، مثل "النّوبة الاكتئابية".
تعكس التّغطية الواسعة التي تلقّتها مقالة البروفيسورة مونكريف والدّكتور هورويتز قلقاً عامّاً متزايداً بشأن الاكتئاب والصّحّة العقليّة بشكل عام، وتسبّبت مراجعتهما لنظريّة "السّيروتونين" في إعادة التّفكير في الاكتئاب، ونأمل أن تؤدّي إعادة التّفكير هذه إلى ظهور أفكار جديدة حول السّببيّة والعلاج، والأهم من ذلك الوقاية.
مصدر الترجمة عن الإنجليزية:
جاستن توماس، ذي ناشونال، 8 آب (أغسطس) 2022
https://www.thenationalnews.com/opinion/comment/2022/08/08/the-new-theory-around-depression/