من يمنع "فيلم باربي" قادر على حرق نصف مكتبتنا التراثية الأدبية والفقهية

من يمنع "فيلم باربي" قادر على حرق نصف مكتبتنا التراثية الأدبية والفقهية

من يمنع "فيلم باربي" قادر على حرق نصف مكتبتنا التراثية الأدبية والفقهية


21/08/2023

أمين الزاوي

كل منع للإبداع هو مس بحرية الخيال، والجزائر بكل تراثها وثورتها ومثقفيها بلغاتهم المختلفة أعظم من مقص الرقيب وعصا الشرطي، والجزائر التي أومن بها أكبر من أن تخاف من فيلم عن حياة متخيلة لدمية اسمها "باربي" صنعت في مخابر أذواق الشركات الرأسمالية العابرة للقارات، يعرض في صالة عرض سينمائية واحدة قد لا تتوفر فيها حتى شروط العرض الاحترافية، فجميع صالات العرض التي كانت تملكها الدولة منذ الاستقلال، وكان عددها آنذاك يقارب أو يفوق الـ 1000 صالة عرض، قد حطمت أو أتلفت أو خربت أو حولت إلى استعمال آخر غير السينما.
وفي مثل هذا الواقع المزري لحال البنية التحتية للسينما في بلادنا لا يمكننا الخوف من الأفلام ولا يمكننا أن نتحدث عن ثقافة أو صناعة أو سوق سينمائية، علينا ألا نغطي الشمس بالغربال.
جزائر أبوليوس وسانت أوغسطين وكاتب ياسين ومحمد ديب والأخضر حامينة والشاب خالد ومولود معمري وجان سيناك وجمال عمراني ويوسف سبتي وعبدالقادر علولة والطاهر وطار وإمحمد أسياخم ومحمد خدة ومحمد أركون ومالك شبل وعلي مراد والطاهر جاووت وبشير حاج علي والشيخة الريميتي وسيد علي كويرات وبيونة وسيد أحمد أقومي وبوعلام صنصال وياسمينة خضرا وكمال داود وأحلام مستغانمي وكوثر عظيمي ومايسة باي وآسيا جبار، لا تقبل بالرقابة والقص والمنع وبخاصة حين يرتبط الأمر بمنع عمل إبداعي فني تخيلي سينمائي أو أدبي أو موسيقي.
لا أصدر حكماً نقدياً من الخارج، فقد شاهدت "فيلم باربي" صحبة زوجتي الشاعرة والروائية ربيعة جلطي، وهي عادة سينمائية عريقة فينا، إذ نغتنم الفرصة كلما كنا خارج البلد كي نشاهد أكبر عدد من الأفلام الجديدة لأننا واثقان من أنه يستحيل مشاهدة فيلم جديد أو حتى قديم بشكل طبيعي في قاعة عرض جزائرية في الأيام العادية.
"فيلم باربي" للمخرجة الأميركية غريتا جيرويغ فيلم عادي جداً وخال من أية فلسفة أو طرح سياسي عميقين، فيلم يريد تارة التوجه للأطفال باعتباره يتحدث عن حياة الدمية باربي، وتارة يريد أن ينتقل بالخطاب إلى الكبار ليتحدث عن حقوق النساء والمساواة في رؤية نسوية "فيمينيست" مركبة وخارجية، وبين هذا الخطاب وذاك ضاع الفيلم في هرج الألوان وحركات الممثلين والممثلات بصورة استعراضية غير مقنعة، حتى إننا كدنا نغادر القاعة في منتصف الفيلم لما فيه من رتابة وفراغ فكري، ومع ذلك وبكثير من الصبر أنهينا المشاهدة إلى الآخر.
وأنا أتابع ما يحدث من بيروت إلى الجزائر العاصمة، أقول كيف يمكن لفيلم بمثل هذا الطرح المبسط والفارغ أن يُشهر عليه سيف الرقيب وتقام عليه في بلاد العرب والأمازيغ وغيرهم من أقوام شمال أفريقيا والشرق الأوسط هرج ومرج تتحرك فيها وزارات الثقافة والإعلام، لتخرج في حرب تشبه حروب دون كيشوط الهلوسية. 

في الجزائر البلد الوحيد من بقية جميع بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان الدولي عن فيلم "وقائع سنوات الجمر" للمخرج الكبير الأخضر حامينة أطال الله في عمره، ففي هذا البلد وبعد ثلاثة أسابيع من العرض ينزل قرار من وزارة الثقافة والفنون بمنع تداول الفيلم بحجة أنه يروج "لقيم منافية لقيم المجتمع الجزائري".

أعتقد بأن هذا المنع وهذه الضجة حركها بخاصة منع عرض الفيلم في لبنان، البلد الذي عرف بحرية التعبير وحق الاختلاف في المعتقدات واللغات والأذواق، وأتساءل كم من الجزائريين كانوا سيشاهدون هذا الفيلم العادي لو لم يصدر قرار المنع؟

في بلد 44 مليون نسمة كان الفيلم يعرض في قاعة واحدة ومدينة الجزائر العاصمة، وأنا متأكد بأن عدد المشاهدين كان لا يمكنه أن يتجاوز بعض الآلاف القليلة جداً، لكن مع قرار منع التداول فمؤكد بأن الجميع وبدافع "كل ممنوع مرغوب" سيشاهدونه على منصات كثيرة أخرى مثل "نتفليكس".

اليوم وبعد المنع ستهب الملايين، وبخاصة تلك المكبوتة التي يحرك فيها مثل هذا المنع المرتبط بخطاب الأخلاق والجنس والفضائح رغبة المشاهدة، وهي المتعودة على مشاهدة أفلام الخلاعة الرديئة، مع العلم أن "فيلم باربي" لا علاقة له بهذه الثقافة، وعلينا أن نفهم بأن مشاهدة فيلم سينمائي حرية فردية، فلا أحد يجبر المواطن أن ينتقل ويدفع مالاً في مقابل مشاهدة عرض سينمائي في قاعة عامة.

إنه سلوك ثقافي نخبوي، لكن المنع سيحول المشاهدة من فعل ثقافي نخبوي نقي إلى سلوك جمعي إيديولوجي استهلاكي، وثقافة المنع بهذه الطريقة هي سلوك ينتمي إلى ممارسات سياسية تذكرنا بالخمسينيات والستينيات والسبعينيات، في ظل أنظمة ترى في الثقافة والفنون خطراً على وجودها.

إن الإبداع الذي لا يؤرق الحاكم ويدفعه إلى السؤال والتساؤل والمراجعة لا يمكن تصنيفه في باب الإبداع الحقيقي، وحين يمنع فيلم كـ "باربي" بحجة أنه يروج لقيم أخلاقية تتعارض مع قيم مجتمعنا، فعلينا العودة لتراثنا الإسلامي وسنجد أن الفقهاء والأدباء لم يكونوا يوما ليتحرجوا من الحديث عن "الجنس" بكل أنواعه، بما فيه "المثلية" ومن دون حرج، وكتبنا الأدبية والفقهية مليئة بذلك وهي موجودة في جميع المكتبات العائلية تقريباً، ويكفي مراجعة "رسالة القيان" للجاحظ وكتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني وكتاب "مروج الذهب" للمسعودي و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي وبعض كتب ابن القيم الجوزية، وكتاب "الزهرة" لابن داوود و"طوق الحمامة" لابن حزم، و"الروض العاطر" للنفزاوي و"مصارع العشاق" لأبي بكر البغدادي وأشعار أبي نواس وغيرهم.

وعلى من يتجرأ لإصدار قرار منع كتاب أو فيلم بمثل هذه الحجة أن يحرق نصف مكتبته من كتب الفقهاء والأدباء والرحالة والحكماء وغيرهم.

وفي بلدنا كما في بلدان عربية ومغاربية كثيرة يسمح بتداول كتاب "حياتي" لهتلر، فهو على سبيل المثال متوافر في كثير من مكتبات العاصمة الجزائرية، وهو ملهم للمجرم السفاح "كلاوس باربي"، باربي الآخر، أو كتاب "معالم في الطريق"، ومثل هذه الكتب هي أكثر خطراً على المجتمع من أي فيلم كان. 

وحين نقول إن سبب منع عرض "فيلم باربي" هو منافاته للأخلاق العامة للمجتمع الجزائري، فعلينا العودة لعلاقة المجتمعات العربية والإسلامية بأفلام الخلاعة السخيفة، لنجد بأنها المجتمعات الأكثر استهلاكاً لمثل هذه السموم المشهدية.

لقد تطرفنا كثيراً فأصبحنا مجتمعاً متشدداً ومتعصباً ثقافياً واجتماعياً ولغوياً لا يحبذ الاختلاف وعلى قطيعة مع الآخر، وعلينا أن نفهم بأننا في الجزائر لسنا أكثر إسلاماً من المجتمع في السعودية الذي يعيش على أرض الحرمين الشريفين، بلاد مهبط الوحي ومرقد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، حيث يتم عرض "فيلم باربي" وباحترام كامل لحرية المواطن والمواطنة، فمن شاء فليشاهد ومن شاء غير ذلك فله مطلق الحرية، وتمر الأمور بشكل طبيعي جداً.

إن المجتمعات التي يسطر فيها الفكر المتطرف ويغيب عنها فكر الاختلاف هي من تصنع دكتاتورها، وهي من تنسج له السياط وتسبك له الأغلال الحديدية كي يكبلها ويعذبها ويجوعها ويقمعها ويسجنها، وهذا المنع، من وجهة نظري، يسيء إلى صورة الجزائر دولة وإلى مثقفيها في تنوعهم اللغوي والفلسفي والجمالي أكثر مما يحفظ القيم كما قد يبدو. 

وبهذا السلوك تبدو سلطة المنع بعيدة من الواقع كثيراً وقريبة من الأيديولوجيا والتمظهر السياسي المتأخلق كثيراً، وبالمنع لفيلم عادي جداً منحنا أعدائنا ما يسمح لهم بمهاجمتنا، والجزائر في غنى عن ذلك، وعلينا أن نفهم بأن الحرية في الإبداع ليست سوء الأخلاق، فللإبداع منطقه الخاص.

عن "اندبندنت عربية"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية