من نور إلى أرطغرل (3) .. دراما العثمانلي تغزو العرب بلغتهم

من نور إلى أرطغرل (3) .. دراما العثمانلي تغزو العرب بلغتهم


26/05/2019

منذ انطلاق الغزو التركي الناعم لدول المنطقة العربية، بتدشين مسلسل نور عام 2008، ارتبطت الدراما التركية في ذهن المشاهدين بممثلين حسني الطلة، وممثلات حسناوات، وقصص رومانسية رقيقة، ولكن فوق كل ذلك كانت اللهجة السورية رأس الحربة في المشروع العثمانلي.

أخذت الدراما مكانها في مشروع العثمانيين الجدد، باعتبارها القوة المؤهلة لاستبدال الثقافات بصمت ودون صخب، لذلك كان لابد، ومنذ اللحظة الأولى، أن تدق باب ربات البيوت بلهجة سورية محببة إلى قلوبهن، فالسيطرة عليهن تعني تنشئة أجيال موالية لمحتل قديم، تسببت سياساته في تأخر العرب لمئات السنين.

وربما يلخص الجزء الخامس من مسلسل "الكبير أوي" الكيفية التي استطاع بواسطتها صناع الدراما التركية اصطياد العرب بلغتهم، فعندما ذهب بطل العمل إلى تركيا، وجد الأتراك يتحدثون اللغة العربية باللهجة السورية!

وفي المحصلة، اقترنت الدراما التركية في ذهن العرب بلهجة سورية استطاعت اختصار فروق حضارية وثقافية شاسعة، وزرعت أبطالها الأتراك بلهجتهم المحببة، كما لو كانوا سوريين، لذلك فلم يكن مستغربًا ألا يعرفهم المشاهدين بغير الأسماء العربية.

الغزو يبدأ من سورية
من "نور" و"سنوات الضياع" مرورا بـ"وادي الذئاب" و"العشق الممنوع" وليس انتهاء بـ" قيامة أرطغرل"، وجد المتلقي العربي نفسه، وعلى امتداد أحد عشر شهرا، إذا ما استثنينا شهر رمضان موسم الدراما العربية، على موعد دائم مع حكايات أبطال ونجومٍ الوهم العثمانلي، مقدّمة بلهجاتٍ عربية، وعلى رأسها اللهجة الشامية، مستفيدةً من انتشارها بفعل نجاحٍ سبق أن حققته الدراما السورية.

للتدليل على عدم اقتصار وظيفة اللغة على الاتصال فحسب، يقول فيلسوف ألمانيا الكبير مارتن هيدجر، إن اللغة هي بيت الوجود، في إشارة إلى الدور الكبير الذي تلعبه في نقل الثقافات واختصار الفروق الحضارية.

منذ اللحظة الأولى، أيقن مخططو الغزو التركي أن اللغة تقف عقبة كؤود في وجه مشروعهم التوسعي، وهنا جاء دور اللهجة السورية.

تحت ستار الصداقة
قبل أن يتحول رجب إردوغان إلى معارض شرس لبشار الأسد، ويطالب بتنحيه عن السلطة، ويصفه بـ"القاتل الجماعي والإرهابي" في العلن، كانت تجمعهما صداقة، وصفت ذات يوم بـ"النادرة".

إردوغان اعتاد زيارة دمشق منذ بداية الألفية الجديدة، حتى إن الاثنين قضيا معا عطلة في منتجع بودروم التركي، على شاطئ البحر في العام 2008، واستغل الرئيس التركي صداقته بنظيره السوري لتعزيز التعاون الاقتصادي.

صداقة الرجلين أسفرت عن توقع حكومتي دمشق وأنقرة اتفاقية للتجارة الحرة عام 2009، كان السوريون بمقتضاها قادرين على السفر إلى تركيا دون تأشيرة، وفي المقابل توسعت شركات رجال الأعمال الأتراك في سورية.

وفي نفس العام، اتفقت حكومتي البلدين على إبرام اتفاقيات عدة في مجالات أمنية وعسكرية، في ختام أعمال مجلس التعاون الاستراتيجي التركي-السوري، ورحبا بتشكيل مجلس مماثل مع أي دولة عربية تعلن رغبتها في ذلك.

الصداقة بين البلدين ترجمتها إحصاءات اقتصادية رسمية، أوضحت ارتفاع حجم الصادرات التركية لسورية إلى 4 .1 مليار دولار في العام 2009، مقابل 1 .1 مليار دولار عام 2008 .

في تقرير نشرته في فبراير الماضي، قالت صحيفة "دير شبيجل" الألمانية، إنه بالنسبة للأسد كان إردوغان بوابة آمنة إلى أوروبا، وطالما لعب الأخير دور منشئ الجسور بين الغرب والعالم العربي.

لذلك، فلم يكن غريبًا أن تكون دمشق هي الحاضنة الأولى لصناعة دبلجة المسلسلات التركية باللهجة السورية، حيث كان التلفزيون السوري الرسمي أول من قدم أعمالا تركية مدبلجة.

صاحب الشركة التي قامت بدبلجة العمل التركي الأول إلى اللهجة السورية "إكليل الورد" ثم المسلسل الأشهر "نور" سامي خويص، قال إن سورية حينها امتلكت البنية الوحيدة المهيأة عربيا لاعتماد صناعة الدبلجة الجديدة.

في حديثه لـ"سكاي نيوز" لفت خويص إلى أهمية اللهجة السورية في مشروع الغزو التركي الناعم، قائلًا "اللهجة السورية معروفة ومحبوبة من الجميع في الدول العربية، وهو ما ساعد على ازدهار صناعة الدبلجة".

بحسب خويص، لا ينتهي دور الدبلجة عند ترجمة الأعمال التركية إلى المحلية السورية، حيث يتولى صناعها إعداد الموضوع دراميا، كي يناسب السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمعات العربية، بحيث تكون مقبولة للمشاهد، ففي أحيان كثيرة يعمدون إلى تلطيف المواضيع غير المعتادة، كقضايا الإلحاد والمثلية الجنسية.

بدوره، يقول غارب حمود، مدير شركة للدوبلاج لمجلة لها، إن اللهجة السورية التي انتشرت في فترة التسعينات ومع بداية الألفية الثانية، لعبت دورًا مهمًا في انتشار الدراما التركية، وذلك نظرًا لقبولها عربيًا بسبب سهولتها وسلاستها ووضوحها، ولكونها أكثر اللهجات المفهومة في الوطن العربي، بالإضافة إلى الحرفية التي يتم بها الدوبلاج السوري.

التوجه لربات البيوت
منذ اللحظة الأولى لاستهداف المنطقة العربية، حدد القائمين على صناعة الدراما التركية ربات البيوت كجمهور مستهدف، فمن خلال السيطرة عليهن يمكن تنشئة أجيال عربية موالية لأطماعهم، لذلك كان للهجة السورية أهمية قصوى في نجاح هذا المخطط.

علاوة على ذلك، القائمون على كتابة المسلسلات التي لاقت رواجًا كبيرًا في المجتمع العربي، سواء نور أو فاطمة أو العشق الممنوع، كُن أيضًا من النساء، ما كوّن رابط خادع من الصدق والحميمية بين المُشاهِدات وبطلات الأعمال.

روجت البطلات لما تحلم أن تعيشه كثير من النساء العربيات، ومنحهن الشجاعة على السعي وراء ما يُحلمن به، بعد أن رأينه مُتحققًا عبر البطلة التي تُشبههن، فبطلات نور وفاطمة، تبدأ بهن القصص مُنكسرات، ولا تنتهي إلا وقد انتصرن.

الممثلة التركية "بيرين سات" بطلة مُسلسل فاطمة، تعبر عن تلك الحالة قائلة "تعرف المشاهدات أننا دولة مسلمة، يَرون البوسفور، ويشاهدن النساء العصريات يرتدين ملابس يجملن بارتدائها، ويرون المساجد، ويبدو المزيج كله رائعا، كما يجدن الكثير من الألفة مع فاطمة التي تشبههن، فتوقظ فيهن إمكانية أن يصبحن هن صاحبات القرار."

إيليم كانبولاط إحدى مؤلفات مُسلسل نور، تقول "تُمثل نور المرأة التُركية العصرية، فهي ناجحة ومُحتفظة بقيمها الأخلاقية في الآن نفسه".

صناعة الظل
الكاتب  اللبناني صهيب عنجريني، لفت إلى أن ثمة طريقين أمام الشركات السورية في دبلجة الدراما التركية، أولهما شراء المسلسل من الشركة المُنتجة، ومن ثمَ بيعه إلى إحدى القنوات، ليُعرض بعد إنهاء عمليات الدبلجة، وثانيهما ـ بات الأكثر انتشارا ـ عبر القيام بوظيفة المدبلِج المنفِّذ، إذ تشتري المحطة التلفزيونية المسلسل، وتكلف إحدى الشركات بدبلجته مقابل أجرٍ محدد.

الترجمة تمثل أولى الخطوات في عملية الدبلجة، فيكلف مترجمٌ أو أكثر، حسب طول العمل والفترة المتاحة، قبل بثه، بترجمة الحلقات، إمَّا اعتمادا على النص الأصلي للمسلسل "السّكريبت" أو عبر مشاهدة الحلقات.

بعد المترجم يأتي دور المُعِد، ومهمّته إعادة صياغة الحوارات وفق عددٍ من المعايير، منها مناسبة طول وقصر الجملة مع زمن حركة شفاه الممثل، وتوافق الحوارات مع ثقافة الشارع العربي، وخصوصاً فيما يتعلق بالأمثال الشعبية، والأقوال المأثورة، والنّكات، وقد يضطرّ في بعض الأحيان إلى تعديل خطّ دراميّ بأكمله.

ومن مهمّات المعدّ أيضاً، تغيير أسماء بعض الشخصيات، وهذا يتمُّ غالباً مع المسلسلات التركية والإيرانية، وعلى سبيل المثال فقد تمّ تغيير اسم بطل سلسلة "وادي الذئاب" الشهيرة من بولات ألمدار إلى مراد علمدار، وتغيير اسم بطلة مسلسل ندى العمر من إده إلى ندى، وقد يطالُ التغيير أحياناً اسم المسلسل ذاته، فـ"ندى العمر" اسمه الأصل "درب التبان".

وخلافًا لم يظنه المشاهد، فإن تسجيل أصوات الممثلين لا يتم بصورة جماعية، والممثل قد لا يلتقي حتى شركاءه في المشاهد ذاتها.
داخل غرفة التسجيل الصغيرة والمعزولة صوتيَّا، توضع شاشة عرضٍ، يتابع الممثل المدبلِج عبرها مشاهد الشخصية التي يقوم بتسجيل صوتها، في النسخة العربية، وبطريقة إلقاء تراعي بالدرجة الأولى تطابق الصوت مع الصورة.

بعد تسجيل الأصوات يدخل العمل المدبلجُ مرحلة العمليات الفنية (مكساج، مونتاج) حيث تُعزلُ أصواتُ ممثلي النسخة الأم، ويتم تركيب أصوات ممثلي النسخة العربية ودمجها مع المؤثرات الصّوتية، بنسبٍ تريح السامع ولا تطغى على بعضها، يقوم بهذه المهمة مهندس الصوت، وبإدارة المشرف الذي يقوم بوظيفةٍ مشابهةٍ لتلك التي يقوم بها المخرجُ الإذاعي.

الكاتب اللبناني يلفت إلى إنه في معظم الأحيان لا يرتبط العاملون في مضمار الدبلجة بعقود مع الشركات، ويعتمد الأمر على الثقة المتبادلة وحسن النوايا، وهذا يعني بطبيعة الحال عدم تسديد معظم الشركات أي ضرائب أو رسوم.

دراما بديلة
منذ مطلع الألفية الجديدة، احتلت الدراما السورية وضعًا مميزًا على خارطة الإنتاج العربي، من حيث جودة النصوص والتطور الإخراجي، والأداء المتمكن للممثلين، والاحترافية المتناهية للكوادر الفنية، وهي مكانة ميزتها عن نظيراتها العربية، وأصبح يتم الاستعانة بنجومها ومخرجيها في تطعيم الكثير من الأعمال العربية، للاستفادة من التجربة السورية في صناعة دراما عربية متميزة.

بعد دخول صناعة الدبلجة إلى السوق السوري عام 2007، حذر فنانون سوريون من أن المسلسلات التركية ستغزو الفضائيات العربية، وتشكل خطراً على الدراما السورية في المقام الأول، وللمفارقة، فقد أتى الخطر من السوريين أنفسهم.

ففي الوقت الذي حققت الدراما السورية مكانتها عبر شخوص ممثليها، وأصواتهم ولكناتهم المميزة، خرج بديل متميز لها وهو الدراما التركية، بشخوص جديدة متقاربة في الشبه، وفي بيئة أقرب للبيئة السورية، وبأصوات ولهجات سورية، وبدأ المشاهد يتعود على سماعها ويحفظها.

باتت الدراما التركية هي البديل المتميز لنظيرتها السورية، فالمشاهد لم يعد يفرق بينهما، وإن كان سيشاهد ثلاثة أو أربعة أعمال تركية بلهجات سورية في اليوم الواحد، فهذا يكفيه عن مشاهدة أعمال سورية بحتة، وستحتاج أذنه إلى سماع لهجات أو لغات أخرى، وهو ما يمكن أن يجده في الإنتاج المصري والخليجي، أو الأمريكي أو حتى الهندي.

كانت الدبلجة فخ، وقعت فيه الدراما السورية، التي تبنت نشر الإنتاج التركي بلهجتها المحلية، متناسية التقارب في الشكل، بحكم التجاور، ووجود الكثير من القواسم المشتركة بين الشعبين، والتي كانت تميزها اللغة، نجحت الدراما فى إزاحتها.

وفي ضوء استقطاب عمليات الدوبلاج أسماء سورية كبيرة، تجدد الخوف من أن تحول الدراما التركية معظم ممثلي سورية إلى مسوخ تركية، كما حولت الرسوم المتحركة ممثلي الأردن إلى شخوص كرتونية.

مخاطر فنية
نشأت صناعة الدوبلاج في ظل نجاح شركات الإنتاج الدرامي السوري في بيع ما تصنعه، وتصديره إلى الأسواق العربية، ومن خلال السطو على أهم ما يميز الإنتاج الدرامي الدمشقي، وهو اللهجة، تقوم شركات الدوبلاج باقتطاع اللهجة بمفردها، وإلصاقها على أعمال غريبة منافسة، ثم تبيعها بأبخس الأثمان.

خطر شركات الدبلجة لا يقتصر على استعمال أهم ما يميز المسلسلات السورية، بل يمتد إلى الإضرار بالصناعة الدرامية المحلية، وحرمانها من أهم عناصر قوتها، بأن تأخذ فقط الصوت السوري وتقوم ببيعه بمفرده، وتترك المنتج المحلى الخالص.

الممثل السوري قيس الشيخ نجيب، يعارض بشدة دبلجة ​المسلسلات التركية​ باللهجة السورية، بسبب استغلالها لتسويق ثقافة غير سوريَّة، واستغلالها لأصوات الممثلين السوريين المعروفين، للتعريف بآخرين غير معروفين، حتَى في تركيا، بحسب تعبيره.

في حديثه لموقع وكالة أوقات الشام الإخباري، لفت قيس إلى تأثير الدبلجة على أجور الممثلين أيضا، قائلاً:" شركات الإنتاج أصبحت تخفض أجور الممثلين السوريين، بعدما باتت المحطات تفضل الدراما التركية باللهجة السورية، لأن السعر الأقل عن نظيرتها السورية"، وأعلن رفضه للقيام بدوبلاج أية شخصية تركية.
ويعتبر الدبلجة تمثل خطرا على الإنتاج الدرامي السوري، الذى بات ينخفض تدريجيًا.

عن "عثمانلي"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية