من الصعب حقاً رؤية حلّ في خضمّ مشكلات لبنان وصراعاته

من الصعب حقاً رؤية حلّ في خضمّ مشكلات لبنان وصراعاته


07/02/2022

ترجمة: علي نوار

ما تزال القوى السياسية في لبنان تتصارع للوصول إلى السّلطة، بينما البلاد في حاجة ماسّة لإصلاحات هيكلية تساعدها في تجاوز أزمتها الحادّة التي تمرّ بها، وتتسبّب الطائفية وتقاسُم الحصص وغياب الآليات المناسبة في حدوث اشتباك تتصاعد وتيرته بمرور الوقت خاصّة في ظلّ وجود ميليشيات مسلّحة موالية لتيارات فكرية تهيمن على الحياة السياسية اللبنانية.

ومنذ عام 2019، يخوض لبنان أزمة اقتصادية عنيفة ناتجة عن نظام الحُكم الطائفي بها، وسوء أداء قياداتها، وأدّى هذا الوضع إلى انهيار قيمة الليرة في لبنان، الذي يعتمد على الواردات، لتنجم عن ذلك قفزة هائلة في مُعدّل التضخّم وارتفاع نسبة البطالة.

وفي خريف ذلك العام، خرجت تظاهُرات حاشدة انتهت باستقالة رئيس الوزراء السابق، سعد الحريري، لكنّ تكميم الأفواه عاد ليطلّ برأسه من جديد في وجه المحُتجّين المُعترضين على حالة التناحُر السياسي والقمع والوضع العام الذي تسبّبت فيه جائحة "كوفيد 19".

وخلّف الانفجار الضّخم الذي تعرّض له مرفأ بيروت، في آب (أغسطس) 2020، قدراً مهولاً من الدّمار، وكان هذا الحادث مؤشراً يكشف الكثير عن وصول البلد العربي الواقع على البحر المتوسط لهذه الدرجة من تردّي نظام الحُكم والفقر وغياب الأمان.

وفي خضم انهيار وضع مؤسّسات الدولة، عمل الزعماء على زيادة ثرواتهم واجتذاب مؤيّدين إلى صفوفهم بغرض تعزيز سطوتهم، وتراجع إثر ذلك الأداء الاقتصادي لمستويات مُتدنّية للغاية، ومع غياب الأمان لجأ الشعبُ إلى المُنظّمات للحصول على ما عَجزت الدولة عن توفيره، وصار فَراغ السُلطة مُناخاً مواتياً لانتشار العصابات الإجرامية التي تعمل في أنشطة غير قانونية.

لا شكّ في أنّ النموذج اللُبناني، الذي تأسّس في 1990، القائم على فكرة تقاسم السلطة على أساس طائفي ومذهبي في أعقاب الحرب الأهلية وصل إلى نهايته

وتُحاول بعض الأطراف الدولية تنشيط مؤسّسات لبُنان وإنقاذها من حالة الشلل التي تُعاني منها، لكنّها تسعى جميعها قبل كُل شيء إلى الحصول على امتيازات والاستفادة من التحرّكات على الأرض. والخوف هُنا من سقوط لبُنان تحت وطأة التأثير الذي تُمارسه قوى إقليمية ودولية. والأكثر مدَعاة للقلق، هو أنّه إذا لم تدرس هذه القوى قراراتها جيّداً؛ فإنّ الموقف قد يسوء أكثر وصولاً إلى درجة صراع مفتوح ذي بُعد إقليمي على الأقل.

بداية النهاية.. انفجار المرفأ والتحقيقات

بدأ حسان دياب ولايته كرئيس للوزراء مطلع عام 2020، بالتزامن مع وجود برلمان هشّ بدعم من حزب الله، لكن وسط رفض غالبية القُوى السياسية الأُخرى. وباءت مُحاولات المُفاوضات بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد الدولي بالفَشَل، في تموز (يوليو) من ذلك العام، ما أدّى لانهيار الليرة، فضلاً عن توابع جائحة "كوفيد 19"، لتكتمِل المعاناة الاقتصادية.

اقرأ أيضاً: خبير في الجغرافيا السياسية: لبنان ساحة الصراع بين طهران وواشنطن حول الطاقة

ولم يفعل انفجار مرفأ بيروت، في 4 آب (أغسطس) 2020، شيئاً في الحقيقة، سوى كشف المستور عن ضعف المؤسّسات اللبنانية وتأثير ذلك على البلاد، ومهّدت استقالة رئيس الوزراء، حسان دياب، الطريق أمام تشكيل حُكومة انتقالية في لبنان واضطّر للاستمرار في مهام منصبه حتى نجاح خليفته نجيب ميقاتي في تكوين حكومة، وقَبِل رئيس البلاد، ميشال عون، في أيلول (سبتمبر) 2021، ذلك التشكيل الوزاري بدعم من صهره جبران باسيل، زعيم حزب "التيار الوطني الحر".

كان ميقاتي قد وصل إلى المنصب مطلع العام الماضي بفضل نظام توزيع الحصص بين الفصائل اللبنانية المختلفة، إلّا أنّ جزءاً كبيراً من الموافقة عليه كان مردّها الاعتدال والقبول الذي يتمتّع به بين الأطراف المتباينة، فضلاً عن نجاحه خلال ولايتيه السابقتين في إنشاء علاقات طيبة مع حزب الله وكذلك على الصعيد الخارجي، مع كلّ من سوريا ودول الخليج والولايات المتحدة، ويتطلّع ميقاتي للاستمرار في المنصب بعد الانتخابات المقررة العام الجاري.

 

اقرأ أيضاً: لبنان مقبل على أيّام أسوأ...

على أنّ الدّاعين، في 17 أيلول (سبتمبر) 2019، لما أُطلق عليها "ثورة الواتساب" مُطالبين بتغيير حقيقي، شعروا بالإحباط تجاه تنصيب رئيس الوزراء الجديد، ورأى هؤلاء أنّ ميقاتي شخصية أخرى محسوبة على النظام الفاشل والعاجز والغارق في الفساد.

من ناحيته، تحرّك باسيل غالباً تحت وطأة ضغط حزب الله وإيران، ويبدو أنّ النيّة هي التجهيز كي يكون الرجل هو رئيس لبنان في الانتخابات الرئاسية العام المقبل؛ لذا تجنّب باسيل الدخول في أي اشتباك مع باقي النُخبة السياسية رغم تحميلها إياه مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع الراهنة، كما أنّ باسيل سقط فريسة "قانون ماجنيتسكي" الأمريكي الخاص بفرض عقوبات على حالات الفساد، لذا فربّما يهتمّ أكثر بتبييض صورته الشخصية بدلاً من تسوية مشكلات اللبنانيين.

تعقيدات كبرى

لكن ليس من الوارد اتّخاذ القرارات الاقتصادية التي تحتاجها البلاد حقاً، قبل تأكّد التوقّعات الانتخابية بشأن النُخبة السياسية الحاكمة حالياً، إلّا أنّ المواطنين ما يزالون يُعانون تداعيات الأزمة دون أن يروا بَصيصاً من الأمل لحلّ مآسيهم، ولعلّ إحدى أهم التعقيدات الكُبرى هي نُدرة الطاقة الكهربائية، التي لا تتجاوز في الوقت الحالي ساعتين يومياً، ومع بداية تشرين الأول (أكتوبر) 2021، حدث انقطاع مُطوّل للتيار الكهربائي؛ بسبب عدم تجديد عقود التوريد مع شركة "كاربورشب" التركية.

كما أنّ إحدى كُبرى المشكلات الناجمة عن الأزمة الاقتصادية تتمثّل في غياب الأمن؛ بسبب عدم سداد الرواتب التي يتحصّل عليها أفراد الشرطة والجيش، كما تدفع نُدرة الموارد الاقتصادية العاملين في قوات الأمن والجيش إلى الانشقاق، أو في أفضل الأحوال البحث عن عمل إضافي كي يتمكّنوا من تأمين الطعام لأسرهم، بالتالي، يضع غياب المعدّات والأفراد الوحدات الأمنية والعسكرية على حافة الانهيار، خاصّة أنّها اُضّطرت منذ انفجار المرفأ إلى مواجهة الجُموع الغاضبة وأعمال عُنف وفكّ اشتباكات بين الفصائل السياسية المُسلّحة وضبط أسعار الوقود ومُقاتلة عصابات تهريب المخدرات.

 

اقرأ أيضاً: ما هي رسائل حزب الله في كشف شبكات تجسس إسرائيلية في لبنان؟

وبينما يتضاءل دور الدولة باستمرار، نجحت أطراف أخُرى في ملء الفراغ الذي تركته الأولى، مثل الجماعات أو المنظمات، وهنا لعب حزب الله الشيعي دوراً كبيراً، بفضل المجالات العديدة التي يغطّيها، وكذلك اتّصالاته الخارجية، حيث تمكّن من تقديم مساعدات إنسانية وإسهامات أمنية.

بيد أنّ نشاط أطراف، خلافاً لقوانين الدولة، أسهم في تقويض سيادة القانون بصورة حادّة في لبنان، وكان أقرب الأمثلة الواضحة للغاية على حدوث ذلك هو تنظيم أبرز فصيلين شيعيين في البلاد، حزب الله وحركة أمل، في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، تظاهرة في بيروت، داخل حي الطيونة ذي الأغلبية السُكّانية المسيحية، وفي ذلك اليوم توجّهت مجموعات من حزب الله وأمل إلى قصر العدل للمطالبة بإقالة القاضي طارق بيطار، المُكلّف بالتحقيق في انفجار المرفأ، وقد شهد الحادث إطلاق النار على المتظاهرين، ما أودى بحياة سبعة أشخاص، جميعهم تقريباً ينتمون إلى حزب الله، الذي ألقى المسؤولية على قناصة من حزب "القوات اللبنانية" الذي أنكر بدوره هذه الاتهامات.

ووضعت هذه الأحداث الجسيمة ميقاتي بين شقّي الرحى؛ لأنّه إذا تراجع أمام ضُغوط حزب الله فقد يُصبح محسوباً، أو يميل، نحو الشيعة، الذين يؤكّدون أنّ التحقيق مسيّس ولا ينبغي استدعاء ثلاثة من الوزراء الشيعة السابقين المتورّطين في كارثة الميناء لاستجوابهم؛ لذا يهدّد الوزراء الشيعة الجُدُد بعدم حضور اجتماعات الحُكومة، ووصلت الخلافات إلى درجة أنّ الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، اُضطرّ خلال زيارته إلى لبنان للاجتماع برئيس الوزراء، ميقاتي، على حِدة، ثم رئيس البرلمان، نبيه بري، على حِدة، نظراً لأنّهما لم يتوصّلا لاتفاق.

وجدير بالذكر أنّ بري هو زعيم حركة أمل الشيعية.

وبعد فترة من الإيقاف بموجب قرار أصدرته إحدى محاكم بيروت، حصل القاضي بيطار على الضوء الأخضر لاستئناف التحقيق، رُغم المطالب الشيعية، ولا يعني عدم احتمالية توقّف العملية مرّة أخُرى إذا تمّ تقديم دعاوى جديدة، على أنّ إيقاف بيطار يعني في حقيقة الأمر أنّ دولة القانون في لبنان تخضع لسيطرة النُخبة الطائفية، بالتالي، تصبح مسألة حصول البلاد على دعم من دول ومؤسّسات خارجية لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية اللبنانية، مُغرقة في الضبابية.

اقرأ أيضاً: لبنان: عودةُ شبح الحرب الأهلية

على جانب آخر، يبدو أنّ الحل الوحيد المطروح حالياً أمام لبنان يكُمن في إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لكن نائب رئيس الوزراء، سعادة الشامي، لم يعرض أيّة خُطة للجلوس إلى مائدة المفاوضات.

 ومن ناحية صندوق النقد؛ فمن المُتوقّع أن يُعدّ لمُقترح إصلاح القطاع المصرفي ومراجعة للمصرف المركزي، ومن شأن ذلك أن يكون خُطوة أولى في مسار كسب ثقة مانحين ومستثمرين آخرين مثل البنك الدولي أو دول عربية أخُرى، لا سيما الخليجية، لكنّ الاقتراح اللبناني الذي ينبغي أن تصدّق عليه الحكومة ما يزال بعيداً عن النور نتيجة للخلافات حول التحقيقات بشأن انفجار المرفأ.

وعلى خلفية هذا المُعتَرَك المُتشابك من العلاقات، تنبغي الإشارة إلى أنّ الشامي هو مسيحي أرثوذكسي ينتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي ذي المرجعية العلمانية والذي يدعو لوحدة أراضي ما تُعرف باسم "الهلال الخصيب".

التبعات الإقليمية

تُعدّ الأراضي اللُبنانية مرآة للخلافات بين القوتين الإقليميتين، وهما المملكة العربية السعودية والجمهورية الإيرانية، والحقيقة أنّ العلاقات السعودية اللُبنانية مرّت بفترات شائكة منذ انتخاب ميشال عون رئيساً، في 2016، خاصّة بسبب علاقاته بحزب الله، الذي يحظى بدعم الإيرانيين، لكنّ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ليس مُستعداً، على ما يبدو، لخسارة ما جرى استثماره في لُبنان، ويسعى للبحث عن مساحات تأثير تجعل الرياض قوّة إقليمية ذات نفوذ أكبر. ويعني ذلك بالتالي، لابن سلمان، صعوداً على الساحة الدولية كذلك، وبشكل مواتٍ لتقريب المواقف مع فرنسا، لا سيما الولايات المتحدة، بعد وصول جو بايدن للبيت الأبيض.

لا تمانع الإدارة الأمريكية أن تعمل فرنسا كوسيط في لبنان، بينما تبذل واشنطن أقل القليل كي لا يصل لبنان إلى الانهيار التام، واضعة أمن إسرائيل في صدارة أولوياتها

وحتى مع فقدان السعوديين لجزء كبير من تأثيرهم السياسي في لبنان، منذ الشقاق مع التكتّل الُسنّي تحت قيادة سعد الحريري، لكنّهم ما يزالون يتمتّعون بنفوذ اقتصادي، وكانوا يسعون نحو الاستفادة من ذلك لمصلحتهم.

ومن الضروري الإشارة هنا إلى أنّ لُبنان يعتمد على البترول الخليجي والسعودي خاصّة، كما أنّ المواطنين اللُبنانيين المُقيمين في دول الخليج يفوق عددهم نصف مليون شخص، يرسلون إلى ذويهم في الداخل اللُبناني تحويلات مالية كبيرة تضخّ رأس مال مُهم في المنظومة الاقتصادية اللُبنانية المتداعية، كما أنّ 10% من الصادرات اللُبنانية تكون وجهتها المملكة العربية السعودية.

وازدادت فرص ممارسة السعودية لدور اقتصادي أقوى، حين أدلى وزير الإعلام السابق، جورج قرداحي، الماروني المنتمي لحزب "تيار المردة" المُقرّب من حزب الله، بتصريحات رافضة للحرب في اليمن، ورد فيها أنّ الحوثيين اليمنيين المتحالفين مع إيران "في وضعية دفاع عن النفس أمام اعتداء خارجي"، وكانت ردّة فعل دول الخليج هي سحب سفرائها من بيروت، ومطالبة سفراء لُبنان في كُلّ من السعودية والإمارات والكويت والبحرين بمغادرة أراضيها، كما قرّر السعوديون وقف استيراد الصادرات اللبنانية.

اقرأ أيضاً: هل يصبح لبنان ثلاثة "لبنانات"؟

وأعلن قرداحي في نهاية المطاف استقالته، أوائل كانون الأول (ديسمبر) 2021، تحت وطأة ضغط رئيس الوزراء، ميقاتي، على الأرجح، في محاولة لتحقيق نوع من المصالحة مع السعوديين قبل زيارة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في ذلك الشهر، للرياض ضمن جولة شملت عدّة دول خليجية.

وتدخّلت مصر من جانبها لتخفيف حدّة أزمة الطاقة في لبنان، بعد اتفاق حظي بموافقة الولايات المتحدة لضخّ الغاز الطبيعي المصري عبر البحر الأحمر نحو الأردن ومنه إلى سوريا وصولاً إلى لبنان.

بالمثل، ترتبط إيران بصلات وثيقة بحزب الله، الذي يتمتّع في لبنان بتمثيل سياسي ومؤسّسي كبير، إضافة إلى امتلاكه لأكبر ميليشيا مسلّحة في البلاد، غير أنّ موقفه تجاه أزمة الطاقة يُسهم في تعزيز حالة الشلل التي تُعاني منها البلاد في التعامُل مع هذا الملف.

اقرأ أيضاً: كيف يُدمر حزب الله لبنان

ويستبعد الحزب من حساباته تماماً إمكانية إبرام اتفاقات مع العدو "الصهيوني"، ما يحول دون تمكين اللبنانيين من التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية لأنّ مُحادثات ترسيم الحُدود البحرية بين لبُنان وإسرائيل متوقّفة، والسبب وراء ذلك أنّه من أجل تقسيم الحُدود البحرية والمنطقة الاقتصادية الخاصّة، يتعيّن على الدول المتجاورة الاتفاق على الخط الفاصل والذي يكون عادةً الحُدود البرية وامتدادها في البحر، لكنّ الخلاف بين البلدين على هذه النقاط ما يزال قائماً.

وإزاء هذا الوضع، حذّر حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، أواخر تشرين الأول (أكتوبر) 2021، الإسرائيليين من التنقيب عن الغاز في المنطقة المُتنازَع عليها، حتى انتهاء الجدل عليها، مُشدّداً على أنّ حزب الله سيتّخذ إجراءات إذا أصرّت إسرائيل على المضيّ قُدُماً في خُطَطها.

نفوذ إيران

والحقيقة أنّ إيران تتواجد في لبُنان بفضل حزب الله، لكنّ النوايا الإيرانية لا تقتصر فقط على دعم الحزب داخل لبُنان، فمن المنظور الاقتصادي؛ فإنّ وجود ممرّ بين طهران وبيروت يعني وجود منفذ لإيران على البحر المتوسط، كما أنّ مساعدة الحزب عسكرياً هي ضمان لقدرة الجمهورية الإسلامية على أن تطال إسرائيل حال قرّرت الأخيرة استهداف العُمق الإيراني.

اقرأ أيضاً: باحثة فرنسية: دولة علمانية وحدها الكفيلة بتقديم الحماية لجميع اللبنانيين

وتسبّب تنامي الحضور الإيراني في المؤسسات اللبنانية ومحاولات عرقلة حزب الله لتحقيقات انفجار مرفأ بيروت، في هزّ صورة إيران بين أوساط اللبنانيين؛ لذا يحاول الإيرانيون تبييض صورتهم عن طريق إرسال الوقود إلى البلد العربي حتى ولو بدون موافقة الحكومة اللبنانية، وذلك عبر الحدود السورية، ولاحقاً عرضت السلطات الإيرانية، مع بدايات تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، بناء محطّتين لتوليد الطاقة الكهربية، في غضون 18 شهراً، وإعادة بناء مرفأ بيروت.

ردود أفعال القوى الدولية

لطالما كان لدى فرنسا اهتمام خاص بلُبنان، وتعمل شركتها النفطية "توتال"، بالتعاون مع "إيني" الإيطالية، في مهمة استكشاف حقول الغاز اللُبناني البحرية، وبعيداً عن "الالتزام الأخلاقي" كقوّة مستعمرة سابقاً، يشعر الفرنسيون، وكذلك اليونانيون، بالقلق، بينما يتابعون الوجود التركي في عكار وطرابلس، بعد الفراغ الإقليمي الذي خلّفه رحيل الولايات المتحدة بصورة كبيرة وانتقال اهتمام واشنطن نحو منطقة آسيا- المحيط الهادئ، بالتالي، يطفو إلى السطح الصراع حول السيطرة على مصادر الطاقة في السواحل اللبنانية الواقعة شرقي البحر المتوسط.

وبعد كارثة انفجار مرفأ بيروت، كان الرئيس الفرنسي ماكرون ضمن أول من صدرت عنهم ردّة فعل حيث طالب بإجراء "تغيير عميق وإيجاد نظام سياسي جديد"، خلال زيارته في السادس من آب (أغسطس) 2021، إلى لُبنان، كما أبرز السيد ماكرون الحاجة لمراجعة أداء المصرف المركزي اللبناني، وأن تنتقل مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية إلى الجهات التي تعمل على الأرض وليس السلطات اللبنانية.

وجمع مؤتمر دولي للمانحين 280 مليون يورو بصورة عاجلة في أعقاب الكارثة، لكن بعدها بعام أكّد الرئيس الفرنسي أنّ الوضع ازداد سوءاً، مقدّراً أنّ هُناك حاجة لجمع 357 مليون يورو من أجل تغطية المُتطلّبات الأساسية للُبنانيين.

اقرأ أيضاً: تركيا في لبنان: قوّة "استعماريّة" غير مؤثّرة

على أنّ الخطّة الفرنسية كانت تنطوي على مشكلات جسيمة تحول دون تطبيقها؛ ففي المقام الأول، لم تكن تحصل على مباركة أمريكية، بسبب عدم موافقة الرئيس بايدن على العلاقات الفرنسية مع حزب الله، الموالي لحكومة إيران، ومن ناحية أخرى، فإنّ وصول إيران لمساعدات عن طريق لبنان يعوق سير الخطط الفرنسية على النحو المأمول، لكنّ العقبة الأسوأ كانت تجديد باريس لثقتها في النُخب اللبنانية بدلاً من توقيع عقوبات قاسية عليها، بسبب دفعها البلاد نحو هذه الدرجة من البؤس.

ولا تمانع الإدارة الأمريكية أن تعمل فرنسا كوسيط وتلعب دور المبادرة في لبنان، بينما تبذل واشنطن أقل القليل كي لا يصل لبنان إلى درجة الانهيار التام، واضعة أمن إسرائيل في صدارة أولوياتها، كما يحاول الأمريكيون إقناع الإسرائيليين واللبنانيين بالجلوس للتفاوض بشأن الحدود البحرية التي تفصل البلدين.

روسيا الحاضرة في البحر المتوسط

كما يظهر في المشهد لاعب آخر هو روسيا، الحاضرة في البحر المتوسط بقاعدة طرطوس السورية، على مسافة تقل عن 50 كلم من طرابلس، وتمتلك روسيا أيضاً مصالح كبيرة تتعلّق بالطاقة وقد تلجأ للاستفادة من التأثير التركي على لبنان وسوريا بما يخدم مصالحها، وفي هذه الحالة فقد نشهد تعاوناً روسياً تركياً منافساً لمحور آخر يضمّ كُلّاً من فرنسا ومصر واليونان وإسرائيل، واستغلال الأراضي التركية كنقطة عبور للغاز الروسي نحو أوروبا.

وتقدّمت روسيا بعرض للتنقيب عن الغاز قبالة السواحل اللبنانية عبر شركة "نوفاتيك"؛ لذلك فإنّ السيطرة على إيران بالقدر الكافي من شأنه أن يُسهم في اكتساب موسكو لثقة تل أبيب بوصفها بديلاً أقلّ خطورة بالنسبة إلى لدولة العبرية من النفوذ الإيراني.

ولعلّ هذا يفسّر سرّ عدم تصدّي منظومة الدفاع الجوي الروسية في قاعدة حميميم السورية للهجمات الإسرائيلية على ميناء اللاذقية السوري، يومَي السابع والثامن والعشرين من كانون الثاني (ديسمبر) 2021، ويُعتقد أنّ ذلك الميناء كان يضمّ وقتها كمّيات هائلة من الذخيرة التي كان يحاول الإيرانيون إرسالها إلى لبنان.

اقرأ أيضاً: حزبُ الله .. سيّدُ لبنان الأكبر المقبِل

ومن الواضح أنّ المصالح الروسية والإيرانية ليست على وفاق في المشهد السوري-اللبناني، ويتكهّن المحلّلون بأنّ الروس يريدون نظاماً سورياً يتمتّع بقوة خاصّة به، في مقابل رغبة إيرانية بوجود حكومة هشّة تسمح لطهران بجعل الأراضي السورية قاعدة انطلاق ومواصلة التوسّع في لبنان.

وبينما يتصارع الجميع، ينتظر الصينيون بتؤدة وقت جني الثمار؛ فبينما يقاسي اللبنانيون ويلات الوضع المؤسف الحالي ويبحثون عن أيّ حلّ، لا يظهر ثمة بديل لخطة إنقاذ صندوق النقد الدولي سوى الاستثمارات الصينية التي يتبنّاها حزب الله.

وعقب انفجار مرفأ بيروت، قدّم الصينيون المشاركون في مهمة الأمم المتحدة لحفظ السلام مساعدات خلال عمليات الإغاثة، كما بدأ رجال الأعمال الصينيين في استكشاف آفاق الاستثمار بلُبنان والتي تركّزت على البنية التحتية، قبل أن يقترحوا على بيروت مساعدات طبية ولقاحات مضادة لكوفيد، علاوة على التبرّعات.

لكن هذا التصوّر لا يخلو من المنغصّات، بدوره، فمن المحتمل أن يطالب الصينيون باسترداد استثماراتهم في صورة مواد خام وتأثير سياسي على غرار ما فعلوا في نيجيريا والفلبين والأردن.

الخلاصة

لا شكّ في أنّ النموذج اللُبناني، الذي تأسّس في 1990، القائم على فكرة تقاسم السلطة على أساس طائفي ومذهبي في أعقاب الحرب الأهلية وصل إلى نهايته، كان السبب الأساسي وراء ذلك هو زعماء التيارات السياسية المختلفة، التي كانت لها رؤى ضيّقة ومحدودة للغاية تجاه مصالح البلاد في العموم، ما أدّى للوصول إلى الوضع الجاري؛ بل لم تستطع تلك النُخب اللُبنانية حتى تمثيل الفئات التي تدّعي تمثيلها، واهتمّت حصراً بمصالحها الخاصة واكتناز الثروات الشخصية والسطوة السياسية، عوضاً عن خدمة الشعب.

اقرأ أيضاً: كيف أوصل حزب الله لبنان إلى حافة الانهيار؟

وحين تخُفق الدولة ومؤسّساتها، نكون بصدد فراغ في السُلطة، وتحاول أطراف أخُرى شغل هذه المساحة؛ لذا فمن المفهوم تماماً دوافع إنشاء مُنظّمات مثل حزب الله لهياكلها المؤسّسية والاقتصادية والأمنية الخاصّة على التوازي من نظيرتها الحكومية، بيد أنّ هذا النمط والدرجة من التداخُل والتشابُك تُهدّد بالتبعية مبدأ سيادة القانون بما يصُبّ في صالح الأطراف المختلفة، وأبرز مثال على ذلك هو عرقلة التحقيقات بشأن انفجار مرفأ بيروت.

وبينما يعاني اللُبنانيون، على نحو يومي، تسعى الأطراف الخارجية إلى الحصول على أكبر قدر مُمكن من المُكتسبات على حساب هذه المُعاناة، ومن الصعب حقاً رؤية حلّ ما في خضمّ هذه المُشكلات المُتداخلة والتوتّر المُتبادل، لكن من المؤكّد أنّ الأطراف الخارجية، الراغبة جدّياً في تقديم يد العون للُبنان يجدر بها تعزيز مؤسّسات الدولة قبل تدهور الوضع لدرجة وقوع مأساة إنسانية أو اندلاع عنف يقود إلى مواجهة مفتوحة واسعة النطاق.

مصدر الترجمة عن الإسبانية:

https://bit.ly/3rsjmli
خوسيه إجناثيو كاسترو توريس/المعهد الإسباني للدراسات الإستراتيجية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية