منهاج عربي! هل هذا ممكن؟ سؤال مطروح منذ النهضة العربية، وعدم تحققه كان سبباً في تنامي القُطرية، والبيئات المحلية، إضافة إلى تنامي الإحساس بالهويات المحلية، وتباين هذه البيئات داخل القُطر الواحد، وبين الأقطار المتعددة، ويمكن إضافة عامل آخر؛ هو انتشار الديمقراطية وحقوق الإنسان، ممّا عزّز الفردية والمحلية واللامركزية.
ويطرح أنصار عدم ضرورة وجود منهاج عربي موحد فرضياتهم وافتراضاتهم على أساس هذه الأفكار، فبماذا تواجه هذه الأفكار؟
اقرأ أيضاً: نحو منهاج يُخرج تعليم اللغة العربية من جمود التقليد
لا يعني بناء منهاج عربي موحد، بالضرورة، وحدة الموضوعات والعناوين، فقد تكفي وحدة المعايير، ووحدة النتاجات المطلوبة من المتعلم العربي في كلّ مكان؛ فإذا كان العالم صغيراً، فإنّ العالم العربي أقلّ حجماً وأقلّ تنوعاً، وإذا كنا سنعيش في العالم، فإنّ هناك من يطالب بوحدة المناهج التعليمية في العالم، بدءاً من وحدة اللغة والديمقراطية ومهارات الحياة ومهارات التفكير!
تشابه الأنظمة التعليمية العالمية
إنّ نظرة عامة إلى واقع الأنظمة التعليمية في العالم؛ تكشف ما يأتي:
1- تشابه كبير في الخطط الدراسية العالمية؛ ففي كلّ بلد، من اليمن حتى سنغافورة، يتعلم الطلبة المواد نفسها: لغة وطنية، تاريخ، علوم إنسانية فنون، علوم، رياضيات، ولا تفاوت يذكر بينها إلا في الدرجة، لا في النوع!!
2- تشابه كبير في الأنظمة المدرسية، وإدارة المدرسة، وثقافة المعلم وعلاقات المعلمين بالطلبة، والواجبات المدرسية، والامتحانات، والرسوب والتسرب، ...إلخ، فهناك إذاً نظام تعليمي واحد.
إذا تواجدت هذه المتطلبات في المنهاج، أو في مهارات التدريس؛ فإننا نتوقع الحصول على تعلّم راسخ لا ينسى
3- تشابه كبير في غايات التعلم، وفلسفة التعليم، ففي كلّ بلد نرى أنّ أهداف التعليم هي: بناء شخصية متكاملة، بهوية وطنية، وبمهارات حياتية متشابهة، وبقيم أخلاقية موحّدة تماماً، فكلّ المدارس في العالم تقدر قيم الخير والجمال والعدل والكرامة والمشاركة والحقوق ...إلخ، كما تقدر الجدّ والاجتهاد والبحث والمثابرة، ...إلخ.
إنّ ما في الأنظمة المختلفة من تباينات هي تباينات في الدرجة لا في النوع؛ حيث يمارس معلمو فنلندا أدواراً تختلف عن أدوار معلمي اليمن، أو مصر، أو الأردن، في درجة التدخل في شؤون المتعلم.
وفي ظلّ غياب إستراتيجية عربية للتعلم؛ فإنّ جميع الأنظمة التعليمية العربية تتشابه في أنّها أنظمة تلقينية؛ ناقلة للتراث، متمسكة بالماضي، نظرية لا تطبيقية، لا تعطي بالاً للإبداع والتفكير، والبحث العلمي والتجريب، فنحن عملياً موحدون في تخلّفنا: ثقافة مدرسية استعلائية، معلم خبير، حقائقنا ثابتة، قيم نجاح مدرسي متشابه في الحفظ والتذكر، ولا شيء غير ذلك!!
اقرأ أيضاً: العربية لغة عالمية وتعليمها يحارب التطرف
إذا كنا قد توحدنا في تخلفنا، فلماذا إذاً لا نتوحد في تطلعاتنا؟ يمكن الزعم بأنّ ما يجمعنا، غير تخلفنا وتطلعاتنا، كثير جداً؛ فنحن نمتلك المشكلات الكبرى نفسها، والتراث نفسه، وطرق التفكير نفسها، واللغة نفسها، ومناهج التعليم نفسها! ولنأخذ مناهج التعليم مثالاً؛ فنحن في جميع الدول العربية نطبق نظاماً تربوياً وقيمياً واحداً؛ فما يدرسه طالب في شرق الوطن العربي، سواء ما يتعلق باللغة أو الدين، أو التاريخ، أو جدول الضرب والهندسة، أو الحرارة المفقودة والحرارة المكتسبة، وحتى في الرياضة والفنون، هو نفسه ما يدرسه كلّ طالب في شتى بقاع الوطن العربي.
مناهج موحّدة في غاياتها
لماذا يثير السؤال حول مناهج تربوية عربية موحدة جدلاً، وربما رفضاً، مع أنّها مناهج متشابهة حالياً؟
الجواب البديهي؛ هناك حاجات مجتمعية وفردية تختلف من قُطر إلى آخر، وربما من مدينة إلى أخرى، ومن حي إلى آخر! ورغم صحة هذا الجواب، فنحن حتى الآن، لا نقدم لطلابنا وطالباتنا إلا حاجات مركزية، ولم يركّز أيّ منهج تربوي عربي على حاجات محلية، أو حتى يسمح بالتركيز عليها، بعيداً عن منهج مركزي، والدليل على ذلك؛ أنّ الامتحانات العامة في الوطن العربي هي امتحانات مركزية! فالمشكلة ليست في الحاجات المحلية، ولا في تباين البيئات، وربما نذهب بعيداً، للقول: إنّ هناك امتحانات دولية في العلوم والرياضيات، تعرف بامتحانات "TIMMS"، ويشارك بها طلبة من أكثر من خمسين دولة، رغم تباين المناهج والكتب المدرسية، وهناك امتحان "Pissa" في القراءة أيضاً، فما سرّ هذه الامتحانات؟ وكيف يقدّم طلاب؛ عرب وإنجليز وفرنسيون ويابانيون وصينون وأفارقة، امتحاناً موحداً في هذه المواد شديدة التباين بين بلد وآخر؟ إذا كانت امتحانات موحدة لمناهج غير موحدة، فهناك امتحانات غير موحدة لمناهج موحدة، وهذه أكثر عدالة من سابقتها؛ لأنّها تراعي ظروف التدريس.
معايير المناهج العربية الموحّدة الناجحة
بعيداً عن هذا، فإنّ المناهج يمكن أن تتوحد في غاياتها؛ فجميع المناهج تهدف إلى تعليم التفكير، ومهارات الحياة والهوية والمواطنة ومهارات المستقبل، والتفاعل مع البيئة، وغيرها؛ فالمناهج موحدة الغايات؛ لذلك يمكن بجرأة التحدث عن مناهج عربية موحدة وفق المعايير الآتية:
يفترض أن تقوم المناهج بنقل الطلبة من الحقائق الثابتة والمسلّمات إلى البحث عن حقائق جديدة وحلول جديدة
1- منهاج عربي يعلي من قيمة اللغة العربية، ويلزم المدرسة والمعلمين والطلبة، وحتى الأهل، بالتحدث باللغة العربية الفصيحة، وهذا يتطلب:
- التركيز على التدريس باللغة العربية، حتى في مواد العلوم والرياضيات.
- تطوير تدريس اللغة العربية بما يجعلها أكثر سهولة وجاذبية للطلبة، بعيداً عن التفاصيل الدقيقة والتعقيدات البلاغية، وقواعد الإعراب.
- جعل اللغة العربية حاملة وناقلة لقيم علمية وفكرية وأخلاقية وفنية، وربط مهارات اللغة بمضامين تربوية وعلمية، وليست مجرد مهارات استماع وتحدث، ...إلخ، ولعلّ ذلك يكون موضوعاً لمقالة خاصة.
2- منهاج يعلي من قيمة غايات التربية، والاهتمام بمعيار "المادة الدراسية وسيلة لا غاية"، فكل المواد الدراسية مجتمعة تسهم معاً في:
- بناء شخصية المتعلم.
- بناء هوية المتعلم.
- بناء قيم المتعلم واتجاهاته.
فليس للمادة قيمة بذاتها إلاّ بمقدار ما تسهم في تحقيق هذه الأهداف.
3- معيار ترابط المواد وتكاملها؛ بمعنى أنّ المواد المختلفة تحمل مضامين مشتركة، بما يسمّى: مفاهيم عابرة للمواد، فمفاهيم مثل: الهوية، والمواطنة، والبيئة، والتفكير، والخير، والأخلاق، والحقّ، والعدل؛ هي مفاهيم ذات صلة باللغة العربية والعلوم والرياضيات والعلوم الإنسانية! إنّ مثل هذه المفاهيم هي التي تضمن ترابط المواد وتكاملها، ومما يزيد الحاجة إلى هذا الترابط؛ أنّ مشكلات الحياة نفسها مشكلات مترابطة، ويتطلب حلها وحدة في المعرفة.
اقرأ أيضاً: مدنية التعليم.. أول الطريق لمحاربة الإرهاب
4- معيار الحداثة؛ فالمناهج المدرسية تقدم معرفة حديثة تفيد في فهم الحاضر والمستقبل، فالمطلوب تدريس العلوم لا تاريخ العلوم، ومهارات المستقبل وتحدياته، وإستراتيجيات حلول جديدة لمشكلات جديدة، فالحداثة تتطلب أن ينظم تفاعل الطلبة مع المعارف الحديثة، والحقائق المتغيرة، والإلمام بإستراتيجيات إنتاج المعرفة الحديثة من بحث وتجريب.
5- معيار إدارة المعرفة، يركز هذا المعيار على إكساب الطلبة المهارات الآتية:
- إنتاج المعرفة من خلال الملاحظة والاكتشاف والبحث والتحليل والتجريب والإبداع.
- توثيق المعرفة وحفظها بما يسهّل الرجوع إليها؛ بالتنظيم، والتسجيل والتوثيق، والحفظ.
- تبادل المعرفة مع سائر منتجيها؛ بما يضمن عدم تكرار الجهود، وتفاعل منتجي المعرفة وتعاونهم.
- نشر المعرفة في بيئات متنوعة؛ من خلال استخدام التكنولوجيا وأدواتها المختلفة.
- توطين المعرفة بما يجعلها ذات صلة بالواقع المحلي، وإعطاء الأولوية للمشكلات ذات الصلة بالحاضر.
- توظيف المعرفة في إيجاد حلول للمشكلات، وعدم الاكتفاء بمتعة المعرفة النظرية.
بناء منهاج عربي موحّد لا يعني وحدة الموضوعات والعناوين، فقد تكفي وحدة المعايير والنتاجات المطلوبة
6- معيار التفكير الناقد؛ فالمناهج تقدم معارف وحقائق وافتراضات، تحتاج كلّها إلى نقد من خلال مهارات: التجريب، والتأمل، والتمييز بين الحقائق والآراء، والشكّ، والأدلة والبراهين، التحليل، ويجب أن تمنح جميع المواد فرصاً لتنمية هذه المهارات، وهذه هي فرصة الانتقال من التلقين وقبول المسلمات والبحث عن الأدلة والبراهين.
7- معيار التفكير الإبداعي؛ لأنّ الإبداع يخلق عدة مسارب وعدة حلول للمشكلة الواحدة؛ فيفترض أن تقوم المناهج بنقل الطلبة من الحقائق الثابتة والمسلمات إلى البحث عن حقائق جديدة وحلول جديدة، وهذا يتطلب إكساب الطلبة المهارات الاتية لإنتاج أفكار إبداعية:
- مهارات نفي الافتراضات.
- مهارات عكس الافتراضات.
- مهارات تشويه الافتراضات.
- مهارات المجاز.
- مهارات الإثارة العشوائية.
8- معيار الخيارات: يرتبط هذا المعيار بتمايز التعليم وتنوّع ذكاءات الطلبة، ولذلك يقدم تعليماً متمايزاً بما يناسب تنوع هذه الذكاءات، بما يمكّن الطلبة من الاختيار في مختلف عمليات التعلم، بدءاً من:
- خيارات في المدرسة.
- خيارات في نوع التعليم وأسلوب التعليم.
- خيارات في الواجبات والمتطلبات.
- خيارات في عمليات التقويم والاختبارات.
- خيارات في بعض المواد.
اقرأ أيضاً: 6 طرق دولية مبتكرة لتطوير التعليم في المدارس
أخيراً: معيار البحوث الحديثة للدماغ، التي توفر متطلبات أساسية لنمو المتعلم، وإذا تواجدت هذه المتطلبات في المنهاج، أو في مهارات التدريس؛ فإننا نتوقع الحصول على تعلّم راسخ لا ينسى، وهذه المتطلبات مثل:
- بيئة تعلم غنية ومرتبطة بحاجات الطالب.
- بيئة تعلم آمنة وخالية من المهددات والتوترات القاسية.
- بيئة تعلم تسمح بالحركة الحرة، والمشاركة في العمل.
- بيئة تعلم توفر وقتاً كافياً للتعلم دون ضغط من حجم المادة.
- بيئة تعلم تقدم تغذية راجعة فورية.