
من الأخطاء الشائعة الاعتقاد بأنّ وظيفة الفلسفة هي فبركة المفاهيم المجردة، كما وصفها جيل دلوز؛ بما يوحي بأنّ نشاطها فكري خالص، في حين أنّ الوظيفة الحيوية للفلسفة هي تأسيس مشاريع حضارية واقعية مادية، مثلها مثل المعتقدات اللاهوتية الكبرى. فكل الحضارات البشرية منذ حواء وآدم، إمّا استندت على فكرة لاهوتية دينية، أو فكرة فلسفية ميتافيزيقية، أو خليط منهما، ولا شيء غير ذلك. فـ (روما) الجمهورية هي تجسيد للفلسفة الأرسطية، و(روما) المسيحية هي خليط من الأفلاطونية الجديدة والمسيحية الوليدة.
وإذا كانت جمهورية أفلاطون هي فكرة فلسفية خالصة، فإنّ الحضارة الصينية برمتها هي وليدة الميتافيزيقا الكونفوشيوسية بمسحة لاهوتية، وكذلك هي الحضارة العربية الإسلامية التي تأسّست انطلاقاً من الدعوة الإسلامية، لكن لم تزدهر حضارة إنسانية إلّا بمزجها بالميتافيزيقيا الفلسفية. أمّا الحضارة الحديثة منذ عصر النهضة الأوروبية؛ فهي مشروع الفلسفة التجريبية والعقلية الخالصة، وإليكم الشاهد والدليل.
كانت التحولات الحضارية والمدنية والثقافية في المرحلة المبكرة من عصر الحداثة الأوروبي مرتبطة بالنهضة التي تمتد نحو (3) قرون، منذ القرن الرابع عشر حتى القرن السابع عشر، إذ تميزت النهضة باضطراب شامل وتداخل لأنماط متعددة من صور الحياة وقيمها، وأنماط السلوك والمواقف والأفعال القديمة والجديدة، الشاذة والطبيعية، كان عصراً يعج بالحركة الدائبة والتغييرات الكثيرة، ومعنى النهضة هو بعث وإحياء ميلاد جديد، أو تكرار الميلاد، وقد أعادت النهضة بعث تراث الثقافة الكلاسيكية اليونانية والرومانية القديمة، إلى الحد الذي أطلق على إيطاليا القرن الرابع عشر "هيلاس الجديدة". لكنّ النهضة لم تكن مجرد بعث التراث الكلاسيكي، بل توظيفه في سياقات جديدة.
كانت ولادة شيء ما لم يحدث أن تصوره أو صممه إنسان في الزمن الماضي في كل مكان أخذت تشع نظرة جديدة للحياة والعالم والكون، تغيرت نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم وإلى الحياة والزمان، الفاعلية هي الشعار الجديد، الإنسان الجديد يعمل وينافس ويتقدم ويغامر ويجازف ويخسر ويربح، ومع النهضة أخذت تنحسر "فلسفة البعث والنشور" التي كانت تصور الإنسان مكبلاً بالإثم والخطيئة المقدرة عليه منذ آدم، ولا فكاك له منها إلا بعون الله وإرادته.
ويذهب أرنولد توينبي إلى أنّه "خلال المدة الممتدة نحو 1400-1550م تبدلت الصورة العقلية لموطئ الإنسان على الأرض ومكانته في الكون، وذلك منذ اكتشاف الفكلي البولندي كوبرنيكوس (1473-1543م) أنّ الأرض تدور حول الشمس مرة في السنة، وأنّها تدور حول نفسها مرة كل (24) ساعة".
ثمّة جانبان لهما الأهمية القصوى في نهضة أوروبا؛ هما حسب برتراند رسل: تضاؤل سلطة الكنيسة، وتزايد سلطة العلم، ويتصل بهذين الجانبين جوانب مختلفة الأبعاد.
لقد كان عصر النهضة في بدايته عصر نقد وتمرد وتصميم وتشكيل، أكثر منه عصر بناء وتشييد وتعمير، ذلك لأنّ الكثير من ملامح العصر الوسيط ظلّت قائمة متداخلة في نسيج المجتمع الناهض، فمن الناحية الواقعية لم تنتهِ العصور الوسطى بقيمها وتقاليدها الثقافية الراسخة فجأة عند نقطة ما، وظهر المجتمع الحديث إلى الحياة عند نقطة أخرى، بل احتاجت أوروبا نحو (300) سنة للانتقال من الجو الذهني للعصور الوسطى إلى الجو الذهني للعالم الحديث، وربما كانت الميزة الأساس التي تمتاز بها النهضة في كونها أفلحت في زعزعة الأسس القديمة التي كانت تقوم عليها فكرة الإنسان والعالم والتاريخ في العصر الوسيط أكثر ممّا نجحت في تكوين تصور متكامل لما يجب أن يكون عليه الإنسان في الحاضر والمستقبل.
لقد قدمت النهضة "الثقافة" التي شكلت الأرض الخصبة لتحضير ولادة الفيلسوف والفنان والعالم والأديب والسياسي والمؤرخ والحكيم والفقيه... إلخ، لقد كان عصر النهضة يتطلب عمالقة فأنجبهم، عمالقة في قوة الفكر "والاندفاع والطبع" أمثال: كوبرنيكوس 1473-1543، وكلبر 1571-1630، وجاليلو 1564-1642، وجبلر 1540-1603م، في المغناطيس وربرت بويل 1627-1691م في الكيمياء، وليفنهوك 2632-1723م، مكتشف الحيوانات المنوية، وإسحاق نيوتن 1642-1727م، مكتشف قانون الجاذبية وقوانين الحركة الديناميكية، لقد عززت الاكتشافات العلمية من ثقة الإنسان بقدراته يقول الشاعر:
لقد كانت الطبيعة وقوانينها محجوبة في الليل
فقال الله لنيوتن كنْ، وتحول كل شي إلى نور
شهد عصر النهضة أهم الاكتشافات الجغرافية للمناطق المجهولة، فقد ألقى الإسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492، وألقى البرتغالي فاسكو دي جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498، واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا أن يدور لأول مرة حول الأرض (1519-1522)، وغير ذلك من الاكتشافات الجغرافية.
وعلى صعيد الفلسفة والأدب والتاريخ والسياسة، هناك كوكبة لامعة من الأسماء التي ازدهرت في عصر النهضة، أمثال: جوردانو برونو (1548-1600م)، وبيك دولامير أندول 1494، وتوماس مور (1487-1535م)، ونقولاي مكيافيللي (1467-1527م)، ومارسين فيسين 1499، كل هذا الزخم الثقافي العلمي الفني الأدبي ترافق مع حركة الإصلاح الديني على يدي لوثر (1483-1546م)، وكلفن (1506-1564م)، وزونغلي (1484-1531م)، الذين نادوا بإصلاح الكنيسة وبالخلاص الفردي، ولم تكن هذه النهضة الثقافية الشاملة في حقيقة أمرها إلا حصيلة تفاعل جملة من العوامل والقوى الاجتماعية والاقتصادية والمدنية، تطور المدن وازدهار التجارة والصناعة والدول والثورات الاجتماعية والعلوم والمناهج.
ويمكننا إجماع الموقف كله بالقول: إنّه عصر الاكتشافات الفلكية والاكتشافات الجغرافية والإصلاح البروتستانتي، وضروب الإبداعات الثقافية واختراع وانتشار الطباعة والسفينة البخارية والبارود والبوصلة، وبروز الأمم والدول على أسس قومية، وبدايات الاقتصاد الرأسمالي، وظهور المدن، وبداية التمايز الاجتماعي والصراع الطبقي.
أطلقت النهضة طاقات الإنسان، وأفضى ذلك الاهتمام المتزايد بالحياة الإنسانية، وبالجسد الإنساني والطبيعة الحية، إلى رؤية جديدة لكل شي، وبدلاً عن المحنة حل الفرح، وباستعمال الإنسان للقوى التي وهبها إيّاه الله، حلّت الحرية في توجيه العقل، بدلاً من الخضوع لإرادة الكنيسة، وأخذ البحث الفكري يحل مكان التبلد والعقم والكسل، وبكلمة تفجرت من ذات الإنسان طاقاته الإنسانية الكامنة المتعطشة للحرية والإبداع والتنافس والصراع والمغامرة والطموح والبطولة والشجاعة وانتهاز الفرص.
لقد نظرت النهضة إلى الإنسان وقواه بعيون إنسانية؛ إذ جعلت "إنسانوية" النهضة من الإنسان غاية المعرفة وأداتها في آنٍ واحد، يقول فيلسوف النهضة بيك ميراندولا (1463-1494م) في رسالة "كرامة الإنسان": "إيه يا آدم... العالم لم يخلق من أجل الإنسان، ولكنّه مصنوع من لحمه ودمه، ذلك الكائن الذي وهبته الآلهة إرادة حرة، والذي يحمل في ذاته بذور الحياة التي لا تحصى، إذا ما استعاد كرامته، لا يبقى ثمة ضياع، ولا يبق ثمة قلق، الشياطين التي كان يخافها إنسان العصور الوسطى ألقت بنفسها في الجحيم ومعها الصليب، الذي كان يبدو مكرّساً لحمايتها، العالم أضحى من جديد فرح الإنسان وحلمه وطموحه".
على هذه النحو أخذت تعود ثقة الإنسان بذاته وبعالمه، وأخذ الإنسان يثق بقدرته على التقدم والتطور، واستعاد الإنسان ذاته وعظمته، حسب ياكوب بوهم (1575-1624م)، "الإنسان ذلك الكائن العظيم الذي ترقد السماء والأرض وكل الكائنات والله نفسه في أعماقه". وبهذا المعنى يمكن أن نفهم تعريف (آلان تورين) للحداثة في كتابه (نقد الحداثة) بقولة:" إنّ فكرة الحداثة في شكلها الأعظم طموحاً كانت التأكيد على أنّ الإنسان هو ما يصنعه"، من النهضة انبثقت الحداثة وفلسفتها للتاريخ والحضارة، كما عرفها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيير (1864-1920م) بقوله: "إنّ الحداثة تعني العقلنة، وبهذا المعنى تكون الحداثة مشروعاً إنسانياً لبناء المجتمع في كل جوانبه على أسس عقلانية، مجتمع يعيش وينظم نفسه، ويتصرف بعيداً عن كل غائية غيبية "وسحر أو وهم".
حرصنا على إيراد هذه المعطيات، التي قد تبدو وكأنّها لا تتصل اتصالاً مباشراً بموضوع بحثنا، لكنّ الصورة الكاملة لفلسفة التاريخ الحديثة والمعاصرة، لا يمكن أن تكون واضحة من غير إطلالة على السياق التاريخي الثقافي النهضوي، الذي يُعدّ بمثابة الأرض الخصبة لنمو وتطور وازدهار الثقافة الأوروبية الحديثة والفلسفية. على نحو خاص، يقول (جون هرمان راندل) في كتابه "تكوين العقل الحديث": "إنّ ثقافة عصر التنوير... وبذور جميع ما بلغناه فيما بعد من نمو وتنور لم تنمُ براعمه بين صفوف الأشجار المشذبة المرتبة في رياض عصر النور...، بل تعود إلى التقاليد الثقافية للعصور الماضية"، ومع أنّ فكر عصر النهضة لم يكن بحثاً فلسفياً في التاريخ وقواه الحضارة والثقافة والمدنية، إلا أنّه أنجز في هذه المرحلة من تطوره إنجازين مهمين لغرضنا الحالي هما:
1- استعاد الثقة بالإنسان وقواه الحسية والعقلية، وهدم الجسر الذي أقامته الفلسفة اليونانية بين الأسطورة والعلم، وجسر المنطق بين الطبيعة والفن.
2- الاعتراف بأنّ الحياة على هذا الكوكب جديرة بأن تعاش، من حيث هي قيمة مستقلة عن أيّ مخاوف وآمال مرتبطة بالحياة فيما وراء القبر، ومع أنّ بعض الاكتشافات العظيمة وذات النتائج الثورية البعيدة الأثر، قد حدثت في هذه المدة الباكرة من النهضة أو "الحداثة المبكرة" على حد تعبير (آلان تورين)، لكنّ أكثر العقول نشاطاً كانت منشغلة بإعادة اكتشاف التراث الثقافي القديم والتوسع فيه ونقده ومحاكاته، ولم يبدأ الفكر بالبحث عن طريق نحو نقاط انطلاق جديدة وتلمس ذلك الطريق إلّا في الأعوام الأخيرة للنهضة، والبداية الرسمية للحداثة، في القرن السابع عشر.
ومع ذلك يمكننا رؤية البدايات الأولى لفلسفة التاريخ الحديثة، تتشكل على أيدي رجال الفكر التاريخي النهضوي أمثال: نقولا مكيافيللي، (467-1527م) في مؤلفاته: (الأمير والمطارحات، وتاريخ فورنسيا و"فن الحرب")، التي أكد فيها "أنّ كل حركة تاريخية هي حركة سياسية"، وأنّ التاريخ من صنع الإنسان، ورفض كل نظرة غيبية للتاريخ والسياسة، وفسّر نشوء الدول وأشكال الحكم والحروب والأديان بالعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي لا تستقر على حال أبداً". ويرى ماكس هوركهايمر أنّ مكيافيللي هو أول فيلسوف للتاريخ في العصر الحديث، ذلك لأنّه كان يؤمن بإمكانية التقدم الفكري والأخلاقي والحضاري.
إنّ الفكرة التي سيطرت على الأفق الفكري الفلسفي التاريخي في عصر النهضة، هي فكرة القانون الطبيعي، والاعتقاد الراسخ بالطبيعة الإنسانية الثابتة. تلك الفكرة التي انتقلت من الإنجازات التي تحققت على صعيد اكتشاف قوانين الطبيعة، ولا يكون التطور والتقدم والارتقاء الذي لا نهاية له، إلّا بالسيطرة على الطبيعة وبالتفوق على الذات، ولا تكون السيطرة على الطبيعة إلّا بمعرفة قوانين سلوكها المعرفية، التي لا تكون إلّا بازدهار الثقافة علماً وأدباً وفناً، ولا يكون التفوق على الذات إلّا بمعرفة قوانين السلوك الإنساني، والمعرفة التي لا تكون إلّا بازدهار الحضارة: سياسة وأخلاقاً وتشريعاً.