معضلة الدين والتديّن في واقعة طارق رمضان

معضلة الدين والتديّن في واقعة طارق رمضان


09/12/2018

شتان ما بين الخوض في واقعة الداعية والباحث طارق رمضان، في مرحلة الاعتقال وبين التفاعل ذاته ولكن في مرحلة الإفراج المؤقت، مع الإشارة إلى أنّ هذه الوقفة تهم بعض الخلاصات المرتبطة بالواقعة، ولا تهم شخص طارق رمضان، وتفاصيل القضية، أو تبعاتها القضائية والسياسية وغيرها، فهذا موضوع آخر.

إنّ الخوض اليوم في تداعيات القضية، وبالتحديد التداعيات المرتبطة بثنائية "الدين والتديّن"، مختلف كلياً عن الخوض في القضية إبان مرحلة الاعتقال؛ حيث كان من المفترض أخذ مسافة من أي تفاعل، سواء بإعلان التضامن الكلي والانخراط في حملات رقمية وميدانية تضامنية، كما صدر عن بعض العقليات الإسلامية الحركية أو غيرها، أو تبنّي موقف نقدي مضاد، استغل القضية بتصفية حسابات مع المعني.

اقرأ أيضاً:  الدين والعلم..علاقة اتصال أم انفصال؟

وواضح أنّ دفاع هؤلاء عن المعني، بما في ذلك دفاع الكتائب الإلكترونية، مرده عدم تصديق لائحة الاتهامات الصادرة ضد طارق رمضان، وواضح أيضاً أنّ نقد التيار المضاد للمعني، مرده الرغبة في ما يُشبه تصفية حسابات، لذلك أشرنا حينها إلى أنه لا يوجد أفضل من أخذ مسافة، من التعليق والتفاعل، وبيان ذلك، أنّ القضية كانت بين أيدي القضاء الفرنسي، وبالتالي، من الأفضل عدم التفاعل حتى تتضح الرؤية أكثر، سواء أفرِجَ عنه لاحقاً، كما تمّ ذلك فعلاً يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018، أو توبع قضائياً، وهو الأمر القائم أيضاً اليوم. وقد اتضح كما كان متوقعاً، أنّ الذين ناصروا الرجل، لم ينتبهوا إلى أنّ القضاء الفرنسي لم يكن ليُغامر باعتقال الرجل دون التأكد من المسكوت عنه في بدايات القضية.

الدفاع عن طارق رمضان، بما في ذلك دفاع الكتائب الإلكترونية، مرده عدم تصديق لائحة الاتهامات الصادرة ضده

نقول هذا أخذاً بعين الاعتبار عدة مُحدّدات، منها مثلاً، أنّ عدد مُتتبعي صفحة طارق رمضان على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" (يُناهز مليونين ونيف)، يتجاوز عدد مُتتبعي صفحة الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، أي رئيس الدولة التي شهدت القضية، وهذا أمر حافل بالدلالة، وخاصة الدلالة القضائية، بعيداً عن خطاب المؤامرة الذي يُروج على هامش اعتقال رمضان، والذي لم يصدر عن مراهقين أو أتباع متحمسين أو شيء من هذا القبيل وحسب، وحتى لو صدر عن هؤلاء، فهذا أمر متوقع؛ ولكن اتضح أنّ خطاب المؤامرة صدر حتى عن لائحة باحثين في المنطقة، سواء تعلق الأمر بالباحثين الذين ينتمون إلى المشروع الإسلامي الحركي، أو باحثين لا علاقة لهم بالمشروع.

إسلام فرنسي في غنى عن إسلاموية

ومما اتضح جلياً أنّ المسلمين في القارة الأوربية، كانوا في غنى عن القضية؛ لأنها تسببت مرة أخرى، في مشاكل إضافية ومجانية، بمقتضى القلاقل التي يتسبب فيها لنا بالتحديد، المشروع الإسلامي الحركي، ولهذا، تابع الرأي العام الفرنسي والأوروبي تفاعل أتباع طارق رمضان، في الداخل الخارج، وهذا أمر خاص بهم بالدرجة الأولى، ولكنه تابع تفاعل المسلمين أيضاً، أو قل تابع أداء العقل الإسلامي الجمعي في الساحة الأوربية، وما أكثر الاختبارات التي مرّ منها هذا العقل بسبب هذه الواقعة، ولكن بمقتضى غياب الوعي بهذه التفاصيل ودلالاتها، انخرطت الأغلبية هناك في الإدلاء بمواقف وتصريحات، زادت المشهد تعقيداً، وخاصة المواقف التي أدانت القضاء الفرنسي وبالتالي الدولة الفرنسية، مع أنّ القضية كانت في بدايتها، ومنها المواقف التي لا تتردد في ترويج خطاب المؤامرة سالف الذكر.

اقرأ أيضاً:  الإسلام في فرنسا بين مرجعية الهُويّة والهوس الديني

وليس صدفة أنّ أهم المجلات الفكرية في الساحة الفرنسية، أصبحت تخصّص بين الفينة والأخرى ملفات عن الظاهرة الإسلامية الحركية، بما في ذلك الظاهرة "الجهادية"، كما نقرأ مثلاً في العدد ما قبل الأخير لمجلة "إيسبري" (انظر مثلاً، ملف "النزعة العدائية عند الجهاديين"، عدد تشرين الأول/ أكتوبر 2018)، أو ملف مجلة "العالَمان" التي خصّصت ملفاً عن الشرخ الثقافي الذي أحدثه المشروع الإسلامي الحركي لدى النخبة الفرنسية، على هامش تفاعل هذه الأخيرة مع الظاهرة، مع غلاف يظهر فيه الإعلامي والكاتب إدوي بلينيل (انظر عدد تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وملفها الذي جاء تحت عنوان: "النزعة اليسارية الإسلاموية: قصة انحراف")، وإدوي بلينيل للتذكير، في مقدمة الإعلاميين الفرنسيين الذين دافعوا عن طارق رمضان، على الأقل، قبل ظهور المستجدات التي ظهرت في الملف، أي إقرار الرجل بأنه أقام علاقات جنسية رضائية، مقوضاً لائحة من المواقف المدافعة عنه منذ اندلاع القضية.

قضية طارق رمضان تقتضي المساهمة في إنارة الطريق أمام شعوب المنطقة، صيانة للدولة والدين معاً وحماية للتديّن

بمجرد ظهور هذه المستجدات، بدأت حرب تصريف الانتقادات أو الاتهامات، بين المرجعيات سالفة الذكر، أي الإسلامية الحركية ونقيضها، من قبيل إعلان المرجعيات المضادة للإسلاموية عن قليل أو كثير شماتة، أو من قبيل انقسام المرجعيات الإسلامية الحركية حول الموقف المستقبلي من الرجل، وهذا ما اتضح على سبيل المثال مع موقف مختار الشنقيطي، الباحث الموريتاني، وأحد الرموز الإخوانية في المنطقة، عندما نشر مقالاً يُترجم بشكل أو بآخر، موقف "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين"، وقد يُمهد لإزاحة طارق رمضان من رئاسة "مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق" (مقره الدوحة)، وجاء المقال المؤرخ في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018 بعنوان دالٍ: "طارق رمضان.. كان صرحاً من خيالٍ فهَوَى"، وسنصرف النظر هنا عن النزعة الدينية الطائفية التي ميزت المقال، بمقتضى نهل محرره من المرجعية الإسلامية الحركية، إلى درجة تشبيه نقاد تورط طارق رمضان بأنهم "استغلوا قضية طارق لتشويه دين الإسلام في القلوب، والطعن في دعاة الإسلام الذين يأمرون الناس بالقسط، والنيْل من الحركات الإسلامية الساعية إلى إصلاح مجتمعاتها ونقْلها إلى حال أفضلَ وأنبلَ"، بل اعتبر أنّ "استمرار التصدِّي لهؤلاء المغرضين الحاقدين واجبٌ على كل مسلم. الذين استغلوا قضية طارق في هذا السبيل معروفون بعداوتهم للإسلام، ولا ندري ما الذي يُفرق هذا الخطاب المصنف نظرياً في خانة "الوسطية" من منظور إسلامي حركي، عن الخطاب الإسلامي الحركي الصادر عن الفاعل "الداعشي"، وإن كنا نتوقع صدور هذا الخطاب عن أي قلم إسلامي حركي ينهل من جهاز مفاهيمي لا يُفرق بين الدين والتديّن، بل يعتبر أنّ تديّنه يُمثل "النسخة الصحيحة" من الدين.

مخرج الدين والتديّن

قضية طارق رمضان تهمه أولاً وأخيراً. ما يُحسبُ للرجل أنه يحظى بشعبية كبيرة لدى الجالية المسلمة في فرنسا وأوربا الغربية، بلْه الشعبية الأكبر التي يحظى بها لدى التيار الإسلامي الحركي، ولكن ما يُحسبُ عليه، انطلاقاً من ثقل ثنائية المرجعية والشعبية، أنّ تطورات الملف، وخاصة موضوع الاعترافات سالفة الذكر، يُغذي مرة أخرى، أهمية اشتغالنا الجمعي على التفرقة بين الإسلام والإسلاموية، بين الدين والتديّن، حتى لا نتسبب في تغذية ضرائب جديدة، كنا في غنى عنها، ونُعاينها بشكل واضح مع الفاعلين الذين كانوا ينتمون في مرحلة سابقة إلى المرجعية الإسلامية، وقد أحصينا منها أربعة ضرائب على الأقل، ضرائب نفسية وروحية وأخلاقية وعقلية، دون التقزيم من ضرائب أخرى.

اقرأ أيضاً: "لا إكراه في الدين".. كيف نفهمها؟

لو كان العقل الإسلامي الجمعي في المنطقة وفي القارة الأوروبية يُفرق بين الدين والتديّن، كما اشتغل على ذلك باقتدار المفكر المصري عبد الجواد ياسين، ما كنا لنُعاين هذه المآزق النظرية والعملية في التعامل مع لائحة من القضايا المؤرقة التي تطال المسلمين في القارة الأوربية مثلاً، وليست قضية طارق رمضان سوى حالة ضمن حالات أخرى، تقتضي فتح هذا الورش التعريفي الخاص بهذه الثنائية، من باب المساهمة في إنارة الطريق أمام شعوب المنطقة، صيانة للدولة والدين معاً، وحماية للتديّن، وتأكيداً للفوارق بين الدين والتديّن: بين الدين كفكرة كلية متعالية وقادمة من خارج الاجتماع، والتديّن الذي يُجسد تجليات هذه الفكرة كما تظهر في الاجتماع عبر الممارسة بتعبير عبد الجواد ياسين.

 

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية