مشروع (هيئة تحرير الشام)... السم القاتل لثورة الشعب السوري

مشروع (هيئة تحرير الشام)... السم القاتل لثورة الشعب السوري

مشروع (هيئة تحرير الشام)... السم القاتل لثورة الشعب السوري


12/08/2023

تسللت الجماعات الإسلامية المتشددة إلى سوريا بشكل معقد وبراغماتي وعلى عدة مراحل، فمسار النشأة والتحولات لـ (هيئة تحريرالشام) في سوريا جاء عبر اندماج عدة جماعات إسلامية. وأواخر العام 2011 تشكلت (جبهة النصرة) كفرع لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق، إلّا أنّه مع العام 2013 قطعت الجبهة "صلاتها مع الدولة الإسلامية وأعلنت ولاءها لتنظيم (القاعدة) ، ثم فيما بعد، في العام 2016 أعلنت الجبهة انفصالها عن (القاعدة)، إلى درجة أنّها غيّرت تسميتها لتصبح (جبهة فتح الشام).

لكن يبدو أنّ هذا لم يغير شيئاً ممّا كان يرنو إليه قائد الجبهة أبو محمد الجولاني، المصنف على قوائم الإرهاب، وبالتالي قام الجولاني في العام 2017 بدمج الجبهة مع بعض "فصائل المعارضة السورية" المسلحة، وشكلت ما بات يعرف حالياً بـ (هيئة تحرير الشام)، وتمّ الإعلان حينها أنّ الكيان الجديد مستقل، وليس امتداداً لأيّ تنظيمات أو فصائل سابقة.

إعادة (جبهة النصرة)، المصنفة على قوائم الإرهاب، تشكيل نفسها مرتين، يعكس محاولات جمّة من جانب الجماعة المتشددة والمسلحة للانخراط بصورة أقوى داخل جماعات "المعارضة السورية" على النطاق الأوسع، لكي تنأى بنفسها أكثر عن (القاعدة)، واعتبار نفسها الممثل الوحيد عن "المعارضة السورية"، خاصّة أنّه صاحب ذلك تحولات تنظيمية ومنهجية حصرت عملها في الداخل السوري، وتبنت العداء للنظام السوري بشكل أساسي، وحاول الجولاني على مدى الفترات الماضية القضاء، وإخضاع وإضعاف، الفصائل الأخرى المنافسة له. كما عمل الجولاني الزعيم الجهادي على كسب الشرعية لبناء المؤسسات المحلية، حتى ولو بشكل محدود، وذلك عبر تشكيل "حكومة الإنقاذ السورية" لإدارة الشؤون المدنية في شمال غربي سوريا، أي مناطق سيطرة (هيئة تحرير الشام)، وكثرت مساعي الجولاني في التركيز على أهمية بناء الدولة.

مشروع سلفي جهادي بمباركة تركية

لطالما كانت العلاقة بين تركيا و(هيئة تحرير الشام) وطيدة، واستخدمت أنقرة لأعوام طويلة الجولاني وتنظيمه في ضبط انفلات فصائل المعارضة السورية الموالية لها، فضلاً عن أنّ تركيا هي الداعمة الأساسية للهيئة وقائدها الجولاني، مع الأخذ في الاعتبار أنّ مناطق سيطرة الجولاني متاخمة للحدود مع تركيا. وقد عبّر العديد من المحللين عن مقارباتهم بأنّ (هيئة تحرير الشام) لم يكن بمقدورها السيطرة على مساحات شاسعة في مناطق إدلب بسوريا؛ لولا مباركة ودعم تركيا، خاصّة أنّها هي من يسيطر على أهم طرق العبور للمساعدات الإنسانية والتجارة بين تركيا والأجزاء التي تسيطر عليها (هيئة تحرير الشام) في إدلب، والتي تبقيها مفتوحة دائماً.

(جبهة النصرة) مصنفة على قوائم الإرهاب

كما أنّ تركيا و(هيئة تحرير الشام) تربطهما علاقة تكافلية، وتعتبر مصدر قوة لأنقرة، وأنقرة قبلت بسيادة الهيئة بقيادة الجولاني، ويرجع قبولها بذلك إلى اعتبار أنّ (فصائل الجيش الوطني السوري) المدعومة من أنقرة أيضاً لا تملك القوة أو القيادة التي يملكها الجولاني. ومباركة (تحرير الشام) للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب فوزه بانتخابات الرئاسة التركية دليل واضح على ذلك.

وفي هذا الصدد، يقول الباحث والكاتب السوري، والمهتم بشؤون الإسلام السياسي، أحمد الرمح، لـ (حفريات): إنّ السلفية الجهادية عموماً، و(هيئة تحرير الشام)، (جبهة النصرة) سابقاً، هي مشروع تخريبي، ساهمت فيه قوى إقليمية ودولية لخلق عناصر وتنظيمات مسلحة وإسلامية على الجغرافيا السورية، الأمر الذي جرى مع  تسهيل ولادة مشروع (داعش) أوّلاً، ثم (هيئة تحرير الشام) ثانياً.

عباس شريفة: السلفية الجهادية فكر ينتمي إلى أدبيات السلفية النجدية في تكوينها العقدي، وأفكار جماعة الجهاد المصرية في فلسفتها القتالية والتنظيمية.

ويضيف الرمح أنّ تسهيل وجود (داعش) كان لتحقيق نتائح متعددة الجوانب؛ منها مثلاً تفريغ البؤر السلفية الجهادية في أوروبا وبعض الدول العربية، ووجودها في سوريا يخدم الآلة الإعلامية للنظام، بأنّ ما يجري عبارة عن حرب أهلية تقودها بشكل ما عسكرياً، السلفية الجهادية المعادية لكل ما هو عصري، وبالتالي هنا تنحرف بوصلة الانتفاضة السورية من انتفاضة تطالب بالحقوق والحريات إلى مشروع إيديولوجي عسكري جهادي، لا يمكن أن يولد في المنطقة، وليس له شبيه إلّا (طالبان) في أفغانستان.

(5) مراحل لتشكيل الهيئة

يعتقد المحلل والكاتب السوري في شؤون الجماعات الإسلامية عباس شريفة أنّ (هيئة تحرير الشام) مرت بمراحل متعددة من التحولات؛ كان سببها العلاقة المعقدة مع تنظيم (داعش) بين الرعاية والتبعية والظروف الدولية وبراغماتية القيادة.

صحيح أنّ (هيئة تحرير الشام) بدأت كذراع وفرع لتنظيم الدولة في العراق، لكنّ فائض القوة واتساع جغرافيا السيطرة، وعدم الرغبة بتكرار تجربة العراق، وانحياز منظري (القاعدة) لتوجه (تحرير الشام)، دفع بقيادتها لانتهاج خطة تأسيسية لهوية جهادية هجينة، مرت بعدة مراحل، وفق ما أوضح شريفة لموقع (حفريات).

المرحلة الأولى، وفق شريفة، هي التحول في المشروع من مشروع الجهاد المعولم التابع للقاعدة إلى الجهاد القُطري، مع تأسيس ما سُمّي بفتح الشام، وإعلان فك الارتباط بالقاعدة.

أمّا المرحلة الثانية، فهي التحول في إدارة العلاقة مع الجماعات الجهادية الأخرى، وتجاوز معيار التشابه العقدي، إلى البحث عن تشابه سياسي، والدخول بعمل جبهوي مع عدد من الفصائل، وقد ظهر ذلك بمشروع (جيش الفتح)، بداية ثم مشروع (هيئة تحرير الشام)، الذي توحدت فيه الهيئة مع (حركة الزنكي)، وجزء من (أحرار الشام)، وعدد من الفصائل الأخرى.

أمّا المرحلة الثالثة، بحسب ما يراه شريفة، فتكمن في التحول الإيديولوجي من تبنّي أدبيات السلفية الجهادية، إلى تبنّي خطاب إسلامي أكثر عمومية، ومحاولة تطعيم التنظيم بألوان متعددة من الطيف الإسلامي، وإحداث قطيعة مع بعض المرجعيات الجهادية مثل (أبي محمد المقدسي).

لطالما كانت العلاقة بين تركيا و(هيئة تحرير الشام) وطيدة

والمرحلة الرابعة، هي التحول السياسي من فكرة التنظيم إلى فكرة السلطة، ومشروع الحكومة الذي تولد مع تأسيس (حكومة الإنقاذ السورية)، أمّا المرحلة الخامسة، فهي التحول البنيوي من تنظيم يقوم على فكرة القطاعات الجغرافية إلى تنظيم تقني يقوم على كتائب وألوية لا تجمعها التعصبات المناطقية، وفق تحليل شريفة.

كيف نجحت الهيئة في التخفي؟

تغلغلت السلفية الجهادية في لحظة لا وعي، فضلاً عن صمت بعض العلمانيين، أو دعمها نتيجة التعمية على الحقائق، وليس نتيجة الخيانة كما يقول البعض. استطاعت (هيئة تحرير الشام) تقديم نفسها كمشروع مناهض لـ (داعش)، رغم أنّها لم تصطدم عسكرياً مع (داعش)، ومشكلتها مع (داعش) هي فقط الخلاف على موضوع "البيعة"، وما تبقى يتطابق مع (داعش)، وفق ما يراه الرمح، حول كيفية نجاح الهيئة الإسلامية المتشددة في التخفي والتعمية عن ارتباطاتهم وسياساتهم المتشددة حتى نجحوا في التمكين.

ويشير الرمح إلى أنّ الهيئة تركت الآخرين يصطدمون مع (داعش)؛ لإنهاء المشروع الداعشي، حتى تقدم نفسها كبديل معتدل، ولكن هي في الحقيقة إمارة سلفية بكل ما تعني الكلمة من معنى وتعريف واصطلاح.

أحمد الرمح: أخطر ما في الأمر هو السكوت عنه، لأنّ الوقت لصالح مشروع الهيئة السلفية الجهادية.

ومنذ أعوام تعمل الهيئة على تمكين نفسها اجتماعياً، ويردف الرمح أنّ الجولاني يصرّ أن يجلس على طاولة التفاوض بالحل النهائي؛ كممثل عن السُنّة، وبالطبع هو لا يمثل السُنّة السوريين، ولا مشروعه يمثل السُنّة، ولا يتناسب هذا المشروع السلفي الجهادي مع الثقافة والعقلية السورية.

ويعتقد شريفة أنّ ثمّة فرقاً في العقيدة السياسية التي تعتنقها الجماعات الإسلامية بشكل عام، وهي واضحة في كتبها وتنظيرها ومناهجها التأسيسية، وهي تتسم بالثبات؛ إلّا عندما تجري بعض الجماعات مراجعات لأفكارها، هذه الأفكار ثابتة لأنّها تشكل المنهج التبشيري للدعوة والتجنيد والتعريف بالذات، وهناك الخطاب السياسي الذي يراعي المتغيرات والظروف والتحديات والأولويات.

وعليه؛ "من الضروري التمييز والتفريق بين تفكيك الهوية الفكرية للجماعات من خطابها السياسي عندما يتناقض مع أسسها النظرية، وهنا يقع اللبس، ونظنّ أنّ الجماعات تمارس التخفي والتضليل"، وفق ما يشير إليه شريفة.

مخاطر بقاء (هيئة تحرير الشام)

الباحث السوري عباس شريفة يقول لـ (حفريات): إنّ السلفية الجهادية كفكر، تنتمي إلى أدبيات السلفية النجدية في تكوينها العقدي، وأفكار جماعة الجهاد المصرية في فلسفتها القتالية والتنظيمية، ولا تنتمي بتاتاً إلى بيئة المجتمع السوري، وإنّما تعبّر في فهمها للدين عن حالة متناقضة جداً مع تدين السوريين الموصوف بالوسطية والاعتدال والانفتاح، وقد كانت مجرد محاولة قسرية لاستنساخ تجارب جهادية سابقة في أفغانستان والعراق والجزائر، وصبغ المجتمع السوري بها، ومحاولة العمل على ترسيخها في الثقافة السورية، والبحث لها عن جذور تاريخية، ولو بتزوير الحقائق. حتى السلفية في شكلها النجدي، ليس لها أيّ جذور اجتماعية معروفة في ثقافة المجتمع السوري إلّا كحالة فردية، وهو ما يؤكد مرة أخرى أنّ السلفية الجهادية هي مجرد ظاهرة طارئة، ساهم في وجودها وتضخيمها عوامل ذاتية؛ وهي حاجة المجتمع السوري لعنف يصد عنف النظام السوري المتوحش، وظروف موضوعية مؤقتة انتهت بانتهاء هذه الأسباب، لدرجة أنّنا بتنا نشهد تحولاً جذرياً لـ (هيئة تحرير الشام)، التي بدأت تنحو نحو إنتاج هوية فكرية لا يمكن وصفها بأنّها تعبّر عن الثقافة المحلية، لكن يصدق عليها الوصف بأنّها هجينة مختلطة، تحاول التماهي مع الهوية المحلية لثقافة الشعب السوري. وهذا ما يؤكد أنّ السلفية الجهادية هي مجرد منظومة فكرية سطحية غير متجذرة حتى في ثقافة الشعب السوري، وإنّما ثقافة أزمة لا يمكن أن تنتشر إلّا في بيئة من الاحتراب والحشد العاطفي، في ظروف استثنائية تفرضها بيئة التوحش، وبمجرد الاستقرار، فإنّ الثقافة السورية قادرة على طحنها واقتلاع جذورها، حسب منظور شريفة.

منذ أعوام تعمل الهيئة على تمكين نفسها اجتماعياً

الباحث السوري أحمد الرمح يرى، في تصريحاته لـ (حفريات)، أنّ أخطر ما في الأمر هو السكوت عنه، لأنّ الوقت لصالح مشروع الهيئة السلفية الجهادية، فهي تشرف على المدارس التربوية والأنشطة الاجتماعية، وحتى الأنشطة الرياضية، ولدى (هيئة تحرير الشام) أشكال مؤسسيّة تقريباً لدولة داخل هذا الحيز.

وبالتالي، هذا يعني أنّ السكوت عن الهيئة حتى اليوم؛ يؤدي إلى تنشئة جيل يتربى على الثقافة السلفية الجهادية، وعندئذ تتعقد المشكلة في موضوع الحل السوري بشكل كبير، ويجب الانتباه لهذه المسألة كثيراً، فكلما مرّ الوقت، فهو في صالح الهيئة، وليس لصالح الشعب السوري، ولا المنطقة، وبالتالي، التساؤل الأبرز هنا هو: كيف سينتهي هذا المشروع؟

الباحث في شؤون الإسلام السياسي أحمد الرمح متشائم جداً في هذا الإطار، حيث يقول: "حتى لو تمّ إنهاء هذا المشروع السلفي الجهادي، فسيكون على حساب دماء السوريين".

خلال الأعوام الماضية سعى الجولاني، بشكل براغماتي، وعلى نحو حثيث متعمد، إلى تصدير نفسه كطرف مدني معتدل، يمثل المعارضة السورية، ويريد تحرير الشعب السوري من قبضة النظام السوري، وقد أكد ذلك في مقابلة سابقة أجرتها معه قناة (بي بي إس)، زاعماً أنّ مجموعته لا تشكّل تهديداً للولايات المتحدة أو الغرب، بل على العكس تشترك مع هذه الدول في بعض المصالح المشتركة.

وتركز اهتمامات الجولاني على التنمية في المجال الاقتصادي، وقد تغيرت لهجته، وحتى طريقة هيئته ولباسه كثيراً عمّا كان في السابق، إذ يظهر نفسه كأيّ قائد عسكري معتدل، وكل ذلك بغية الاعتراف بتنظيمه وإزالته من قائمة الإرهاب، وتصدير نفسه كطرف لا يمكن الإطاحة به بسهولة من قِبل أيّ طرف كان.

مواضيع ذات صلة:

أبو محمد الجولاني وأمريكا... خارطة جديدة للتحالفات

"دويلة" الجولاني ومسار التقارب بين دمشق وأنقرة!



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية