في تحليله لبنية السرد؛ يتجه تودوروف إلى دراسته بوصفه خطاباً، يحتلّ الزمنُ فيه عامل أهمية، من حيث تحديد العلاقة بين الخطاب ومظاهره وأنماطه؛ إذ ينطلق تحليل الخطاب، هنا، من الزمن وصولاً إلى الرؤية، وعند بلانشو؛ يعدّ السرد بمثابة الحدث الذي تتجلى من خلاله مقاربات الزمان والمكان، فعن طريقهما يمكن للسردية أن تتحقق، قبل أن تنطلق في التاريخ.
اقرأ أيضاً: الاستقامتان العقلية والأخلاقية إذ تصدران عن ضمير حي
وعليه، فإنّ السرد يرتبط في أبسط مدلولاته بالنشاط الإنساني ككل؛ فهو قديم قدم التاريخ، ومن ثمّ فإنّنا إذا توخينا الدقة في التعبير، فلا بدّ من أنْ نُدخِلَ في نطاقه كافة الأطر التي تعبّر عن معنى الوجود الإنساني، فهو يعبّر عن استجابة لحاجة إنسانية ملحّة.
ويمكن القول: إنّ السرديات الكبرى، التي صاغت الرؤى المركزية في الفكر الإسلامي، كانت نقطة انطلاق أساسية، شكلت فيما بينها حجر الزاوية، الذي قامت عليه التصورات الشمولية اللاحقة، والتي أخذت في تأطير الطروحات المعرفية وتشكيلاتها الخطابية، عبر تاريخ المعرفة الإسلامي، منذ عصوره الأولى، وحتى زمن الحداثة وما بعدها.
عندما تتمركز المعرفة حول النصوص لا يمكن فصل نتاجاتها عن معطيات السرديات التاريخية بكل ما يؤدي إليه ذلك من هيمنة للماضي
إنّ مساقات المعرفة الإسلامية ظلت تدور في فلك السرديات الكلاسيكية، مستدعيةً مقولات الفارابي وابن رشد وابن سيناء وابن خلدون، وغيرها؛ بالشرح والتحليل والإضافة؛ حيث تخلقت عوالم معرفية شتى، شكّلت فيما بينها سياقات متماسكة، تحاك ضمنها رؤى فلسفية شمولية عن العالم، اكتسبت فيما بعد، مثلها مثل أيّة سردية مركزية، طبيعة البديهيات والتكوينات العقائدية، التي أصبح الماضي يهيمن من خلالها بتجلياته وصوره.
هذه المقولات المركزية، المثقلة بجملة من الثنائيات المتباينة، باتت تضع علامات استفهام أمام كل المفاهيم القياسية، حول مدى صلاحيتها لــ (إنسان) ما بعد الحداثة، وبحسب "فرانسوا ليوتار" ، فإنّ عالم ما بعد الحداثة أصبح يتصف بافتقاد الثقة بالسرديات الكبرى، المتمحورة حول: التطور، والتحرّر التنويري، والليبرالية وغيرها، والتي شكّلت جزءاً لا يتجزأ من الحداثة.
اقرأ أيضاً: التراث كمسرح لرغبات الحاضر: البحث عن عقلانية "إسلامية"
وعلى صعيد الفلسفة الإسلامية، يمكن القول: إنّ الطروحات الرئيسية ما تزال تتعامل مع التراث الفلسفي بوصفه نقطة ارتكاز محورية، فإذا كان التيار المحافظ يقف عند الغزالي وابن تيمية كمحطة نهائية، لتكريس مقولاته التي تحيل دوماً إلى النص؛ فإنّ التيار التنويري والإصلاحي يستدعي، هو الآخر، المقولات الاعتزالية والرشدية والفارابية كنقطة انطلاق، بل إنّ البعض ما يزال يحاول (موضعة) الأفغاني ومحمد عبده؛ كنموذج إسلامي للفلسفة الحديثة، يمكن من خلاله تحقيق نقلة نوعية في الفكر الإسلامي المعاصر، وعليه؛ فإنّ السرديات التقليدية ما تزال تفرض هيمنتها على الساحة الفكرية، وبشكل بات الواقع معه أكثر اغتراباً وماضوية، في عالم متغير لم يعد يقبل بالطروحات التوفيقية.
كل ما سبق يقودنا إلى سؤال إشكالي: هل نحن في حاجة إلى سرديات بديلة لاستشراف عالم ما بعد الحداثة؟
يمكن القول: إنّه عقب الربيع العربي، وفي ظلّ البحث عن مسارات معرفية جديدة؛ لفهم واقع غير معتاد، جرى استدعاء جملة من المفاهيم، كان التصوف على رأسها، وكانت العودة إلى خطاب الرومي وابن عربي نموذجاً لمشهد مفعم بعدة تنويعات انطلقت من الماضي، في مواجهة الخطاب الإسلاموي، الذي رفعته جماعات الإسلام السياسي؛ حيث لوحظ هذا الميل نحو التصوف في سياق استدعاء مقولات ابن عربي والحلاج وغيرهم، وهي مقولات جاءت لا من خارج الاجتماع فحسب، وإنما من خارج الزمان والإطار التاريخي، لتصبح قيمتها المركزية مربكة؛ حيث قامت بتشتيت الوعي الفعال، وحجبت الرؤية عن مفاهيم أخرى مُعاشة، يمكن للعقل استلهام حركتها وآليات تشكلها، كرؤى بديلة تنتمي للواقع، وهو ما أظهر الحاجة الملحة إلى سرديات بديلة، تبدو أكثر تصالحاً مع الواقع واقتراباً منه، وهو الأمر الذي فشلت في تحقيقه المفاهيم القديمة، في معركة خلق المجتمع العقلاني القائم على العقل والمعرفة.
اقرأ أيضاً: المسلمون وموروث العقل المثير للجدل
وفي ظلّ سطوة مفاهيم أصابها التقادم، وقد فشلت الحداثة بدورها في تحقيق وعودها، كان من الطبيعي أن تتراجع جملة المفاهيم التقليدية لصالح مسارات ما بعد الحداثة (Postmodernism)، القائمة على رفض الحقائق المطلقة، في عالم طارئ، يرفض السكونية والحتمية والهويات الثابتة، وبحسب ليوتار؛ فإنّ الخطاب المعرفي المكبل بهيمنة رغبات الرأسمالية النفعية وسطوتها، بات يسيطر على كل سرديات المعرفة.
عقب الربيع العربي وفي ظلّ البحث عن مسارات معرفية جديدة جرى استدعاء جملة من المفاهيم كان التصوف على رأسها
وعليه؛ أصبح من الضروري تفكيك البنى المعرفية للسرديات الكلاسيكية، والوقوف على ارتهاناتها التاريخية؛ حيث إنّ (موضعة) مقولات الماضي أمر يعكس مكونات الطرح الأصولي/ الماضوي نفسها، بنظرته الثيولوجية الضيقة، وبالتالي يجب تفكيك بنية الخطاب التقليدي، والوقوف على تاريخيته ومعطياته التي (تتموقع) في لحظة محددة، دون غيرها؛ حيث إنّ المفاهيم الكلاسيكية لن تستطيع المساهمة بأي قدر في تطوير فهم حقيقي للواقع.
لعلّ ذلك يفسر حالة الجدل الذي تمركز حول العلاقة بين الفلسفة والتراث، من خلال إعادة طرح مصطلحاته الإجرائية، وقراءة مفاهيمه الإشكالية؛ حيث كان هذا الاشتباك المعرفي من أبرز القضايا التي فرضت نفسها بقوة على الساحة الفكرية مع مطلع القرن الماضي، وهو ما أحدث نوعاً من الاستغراق في البحث عن الجذور العميقة، وإعادتها إلى الحياة، رغبة في الاحتماء بالهوية الإسلامية، في مواجهة الاستعمار الغربي كنقطة انطلاق.
اقرأ أيضاً: فؤاد زكريا مؤذّن العقل في مالطا التعصب
والمعرفة بهذا المعنى، عندما تتمركز حول النصوص، لا يمكن فصل نتاجاتها المعرفية عن معطيات السرديات التاريخية، بكل ما يؤدي إليه ذلك من هيمنة للماضي؛ حيث تقوم تلك المعطيات بإحاطة نفسها بغلاف عازل من التأويلات القديمة، التي تحيل دوماً إلى نصّ مقدس، أو حامل مقدس، يكتسب بدوره درجة ما من التقديس.
ولقد أحدث الربيع العربي، ضمن ما أحدث، مزايحات فكرية، انتقل فيها مركز الثقل إلى الهامش؛ حيث باتت الرؤى والسرديات المركزية محل نقد ومراجعة قاسية، وقد فشلت تلك المقولات في تقديم حلول لإشكاليات جديدة، في عالم يموج بالتغيرات الحادة، بالتوازي مع ثورة المعلومات، وانتشار التقنيات الحديثة، التي استفادت منها مواقع ومنصات التواصل، لينفتح المجال العام على مصراعيه أمام السرديات الصغرى، في حين تراجعت السرديات المركزية إلى الهامش تحت وطأة الضغط الذي أحدثه انفجار الواقع.
اقرأ أيضاً: ثنائية العقل والنقل.. الدين للحياة أم الحياة للدين؟
ويمكن القول: إنّ السرديات البديلة هي محاولات تخلّقت في الواقع، وانسابت في ثناياه، كونها على اتصال لصيق بإشكالياته، فهي ترتبط بالراهن لا التاريخ؛ حيث تقوم بتفسيره قبل أن تتفكك، وفق ليوتار، ثم تعود للتشكّل في وجه حدث جديد، وهو الأمر الذي لم تعد المقولات المركزية قادرة على القيام به، وقد أصبح العقل أمام عدد لا نهائي من الاحتمالات القادرة على التخلّق والتشكّل باستمرار، وهو ما يعني ضرورة مواكبتها وملاحظة متغيراتها الدائمة.