منذ ما يزيد عن عامين يحرم الاحتلال الإسرائيلي المواطنة خديجة بلبل من السفر إلى مستشفى المطلع بالقدس، عبر حاجز بيت حانون "إيرز"، الذي يفصل القطاع عن الضفة الغربية، للخضوع لجلسة العلاج الإشعاعي، غير المتوفر داخل مستشفيات قطاع غزة، لتلعب إسرائيل دوراً في إنهاك مرضى السرطان بغزة، وتحرمهم من تلقّي العلاج خارج القطاع ولتواصل سياستها في تعذيب المرضى بغزة.
وثّق مركز الميزان وفاة 45 مريضاً بالسرطان، بسبب القيود الإسرائيلية، خاصّة على معبر بيت حانون "إيرز"، شمال القطاع، من العام 2016 وحتى 2018
وتضيف بلبل (47 عاماً)، وهي أمّ لتسعة أبناء، خلال حديثها لـ "حفريات": أنّها "أصيبت بسرطان الثدي خلال العام 2016، وعاشت لعدة شهور حالة نفسية سيئة بعد علمها بإصابتها بذلك المرض الخبيث، حتى استطاعت بعد فترة من مرضها أن تستعيد نفسها مجدداً، بعد أن قرّر الأطباء استكمال فترة علاجها خارج القطاع، ليكون ذلك بصيص أمل لها للنجاة من مرضها".
وشدّدت قيادة الارتباط مع قطاع غزة التابعة للاحتلال الإسرائيلي، خلال الأشهر الأخيرة من القيود والشروط التي تمكّن فلسطينيات يعانين من سرطان الثدي من الوصول إلى المستشفيات الفلسطينية في القدس المحتلة، وقال تقرير لصحيفة "هآرتس "الإسرائيلية، في 22 أيلول (سبتمبر)؛ إنّ سلطات الاحتلال زادت الشروط القائمة للسماح لمريضات سرطان الثدي الفلسطينيات بمغادرة القطاع لتلقي لعلاج في مستشفيات القدس؛ إذ اشترطت أن تقديم نتائج فحوص خزعية، وليس فقط تقارير طبية تؤكّد الإصابة، أو تحويلات لتلقي العلاج.
اقرأ أيضاً: تردّي الأوضاع الاقتصادية يدفع سكان غزة إلى أفران الطين
وأصدر مركز الميزان لحقوق الإنسان، عام 2019، بياناً يُسلط فيه الضوء على واقع مرضى السرطان بغزة، تزامناً مع اليوم العالمي للسرطان، الموافق 4 شباط (فبراير) من كلّ عام، أوضح فيه؛ أنّ "8515 مُصاباً بالسرطان في قطاع غزة، يواجهون أخطاراً يومية متزايدة تمنعهم من الحصول على الرعاية الصحية المناسبة، وأنّ 38% من مرضى السرطان لم يتمكنوا من الوصول إلى المرافق الصحية خارج قطاع غزة لتلقّي العلاج، كما تعرّض 5% من المرضى والمرافقين لهم للاعتقال خلال 2018، ووثّق المركز وفاة 45 مريضاً بالسرطان، بسبب القيود الإسرائيلية، خاصّة على معبر بيت حانون "إيرز"، شمال القطاع، خلال الفترة من العام 2016 وحتى 2018".
اقرأ أيضاً: لماذا لا تستطيع مزارعات غزة الوصول إلى أراضيهن؟
وكشفت وزارة الصحة، في 15حزيران (يونيو) 2020، تزايد عدد مرضى السرطان في قطاع غزة ليصل إلى 12 ألفاً و600 مريض، 53% منهم إناث و47% ذكور، وأنّ الوزارة تعاني من نقص حادّ في الأدوية، بنسبة تصل إلى ٤٤%، وعجز في المستهلكات الطبية بنسبة 30%، ونقص في لوازم المختبرات بنسبة 56%، وأشارت إلى أنّ 500 حالة مرضية ما تزال أرقاماً في قائمة طويلة تنتظر بفارغ الصبر السماح لها باجتياز حدود قطاع غزة.
قهر إسرائيلي
وتابعت بلبل: "رحلة العلاج إلى مستشفى المطلع لم تكن سهلة، وقد استغرق الحصول على تصريح إسرائيلي للعلاج أكثر من سبعة أشهر، خلال العام 2017؛ حيث مكثت بداخل المستشفى لمدة خمسة أشهر، بعد خضوعي لجلسات العلاج الإشعاعي، وصولاً لاستئصال ثديي الأيمن، قبل أن أعود إلى قطاع غزة مجدداً، على أمل العودة إلى المستشفى في القدس مرة أخرى، لإجراء الفحوصات والتحاليل اللازمة لمتابعة حالتي الصحية".
وبيّنت أنّه "بعد الحصول على التحويلة الطبية من وزارة الصحة للعودة للعلاج خارج القطاع، خلال العام 2018، اصطدمت آمالي وطموحاتي بحاجز بيت حانون، الذي وقف عائقاً أمام فترة علاجي"، مشيرة "أخبروني بضرورة مقابلة ضباط المخابرات للفحص الأمني داخل المعبر، بعد أن تمّ وضعي في غرفة صغيرة ومظلمة، تخلو من أية نوافذ، سُئلت حينها عن بعض المعلومات الاستخباراتية، التي تتعلق بعمل فصائل المقاومة بغزة، وهدّدوني بعدم استكمال علاجي خارج غزة في حال لم أقدّم تلك المعلومات".
اقرأ أيضاً: طيور السِمان تقطع آلاف الأميال لتقع في شباك صيادي غزة
وتواصل بلبل حديثها، بغصّة وألم شديدَين، وتقول: "بعد الخروج من التحقيق، تمّ إبلاغي بضرورة العودة إلى منزلي وانتظار رسالة نصية توضح السماح لي بمغادرة القطاع من عدمه، إلّا أنّ المفاجأة كانت عندما كانت عقارب الساعة تقترب من الخامسة عصراً، وإذا برسالة على هاتفي المحمول تبيّن رفض سلطات الاحتلال السماح لي بمغادرة القطاع لتلقى العلاج، دون ذكر أسباب الرفض".
اقرأ أيضاً: لماذا أضحى جيل التسعينيات في غزة جيلَ التعساء والمنكوبين؟
وتقدّمت بلبل بطلبات متعددة للحصول على تصريح إسرائيلي بمغادرة قطاع غزة إلى مستشفى المطلع، أكثر من ثمانية مرات خلال العامين الماضيين، لكن دون جدوى؛ حيث جوبهت كلّ تلك المحاولات بالرفض غير المبرّر، وأشارت إلى أنّ الاحتلال يسعى إلى قهر مريض السرطان، فقط ليبقى في صراع مع مرضه، حتى يفقد الأمل، وتنتهي حياته بالموت.
حالة نفسية واجتماعية سيئة
رحلة علاج قاسية أخرى تعرّضت لها السيدة سعاد أبو مرشود (39 عاماً)، المصابة بسرطان الثدي منذ ثلاثة أعوام، خضعت إثرها لما يزيد عن 15 جلسة علاج إشعاعي وكيماوي في داخل مستشفى المطلع، الذي يعدّ الوحيد الذي يقدّم الخدمات العلاجية لمرضى السرطان من مختلف أنحاء فلسطين.
اقرأ أيضاً: نساء من غزة في صالات كمال الأجسام بحثاً عن الجمال
وتوضح أبو مرشود من مدينة غزة، في حديثها لـ "حفريات"، والتي خضعت لأربع عمليات جراحية وتجميلية لإزالة ثديها؛ أنّ حياتها أصبحت جحيماً وانقلبت رأساً على عقب، منذ إصابتها بالسرطان عام 2017، نتيجة التغيرات الاجتماعية والنفسية التي طرأت عليها، "والتي تسبّبت بانفصال زوجي عني بعد أكثر من10 أعوام من الزواج".
اقرأ أيضاً: أيادي الخير الإماراتية تترفق بآلام الفلسطينيين في قطاع غزة
ووجدت أبو مرشود نفسها وحيدة في مصارعة مرض السرطان، ومواجهة حالات الابتزاز التي تعرضت له عند محاولاتها لأكثر من 12 مرة المغادرة عبر معبر إيرز، وتتحدث عن معاناتها في كلّ مرة تقابل ضابط المخابرات بالمعبر، بعد تعرضها لعمليات تفتيش مهينة تجابه جميع محاولاتها بالفشل، ويرفض الاحتلال منحها تصريحاً لاستكمال فترة علاجها بمدينة القدس.
بدائل محدودة
وتابعت: "أجهزة المسح الذرّي تخلو من جميع مستشفيات قطاع غزة، التي لا يمتلك إلا عدد قليل منها العلاج الكيماوي، مشيرة إلى أنّ مريض السرطان بشكل عام تنتابه حالة نفسية وعصبية سيئة للغاية، في ظلّ الظروف الحالية، ومنعه من استكمال علاجه، وهو ما أدّى إلى تخبّط في البروتوكول العلاجي، ولجوء الأطباء في كثير من الأحيان إلى إخضاع المرضى للعلاج الكيماوي، دون العلم بحاجة المريض لذلك العلاج من عدمه، لعدم وجود أجهزة المسح الذري التي تحدّد ذلك، وهو ما يهدّد صحة المرضى بشكل خطير، ويؤدي إلى عدم استقرار أوضاعهم النفسية والحياتية".
ورأت أبو مرشود؛ أنّ "بدائل العلاج أمام مريضات السرطان بغزة محدودة جداً، أحلاها مرّ، وهي إما الانتظار لأعوام والمخاطرة بحياتهن لحين السماح لهن من قبل الاحتلال الإسرائيلي بمغادرة غزة إلى مدينة القدس، أو السفر إلى جمهورية مصر العربية، الذي تترتّب عليه معاناة كبيرة في السفر، إضافة إلى تكاليف العلاج الباهظة، التي لا تستطيع فئة كبيرة من المرضى، الذين يعانون الفقر المدقع، تحمّل تكلفتها".
سرطان الثدي الأكثر انتشاراً
بدوره، يقول استشاري الأورام وأمراض الدم، الدكتور أسعد أبو حسان: إنّ "قطاع غزة يسجل شهرياً 130 إصابة متنوعة بالسرطان، وتشكّل النساء المصابات بالمرض 56%، ويعدّ سرطان الثدي الأكثر انتشاراً بنسبة 35%، وسرطان القولون الأكثر انتشاراً بين الرجال، ومن ثمّ سرطان البروستاتا والرئتين والبنكرياس".
استشاري الأورام وأمراض الدم، الدكتور أسعد أبو حسان لـ"حفريات": قطاع غزة يسجل شهرياً 130 إصابة متنوعة بالسرطان، وتشكّل النساء المصابات بالمرض 56%
ويضيف أبو حسان، في حديثه لـ "حفريات": "الوضع الصحي في قطاع غزة يشهد أزمة حقيقية في ظلّ العجز المتواصل في الأدوية اللازمة لعلاج مرضى السرطان وأمراض الدم، إضافة إلى غياب الأجهزة التشخيصية المتطورة لعلاج المرضى، وهو ما يضطرهم للسفر خارج القطاع لتلقّي العلاج؛ حيث يجابه العديد من المرضى برفض الجانب الإسرائيلي منحهم التراخيص للذهاب لمستشفيات الضفة الغربية والقدس تحت حجج أمنية واهية".
اقرأ أيضاً: استثمارات حماس تخنق المتنزهات في غزة وتستولي على الأملاك العامة
وتابع: "بعض المستشفيات بغزة تقوم بإجراء بعض العمليات الجراحية لاستئصال الأورام السرطانية لعدد من المرضى، وتقديم العلاج الكيماوي لهم لاستكمال فترة علاجهم، إلا أنّ هناك حالات تتطلب السفر إلى خارج القطاع، لتلقّي العلاج الإشعاعي، الذي لا يتوافر على الإطلاق داخل القطاع، وتمنع إسرائيل إدخاله إلى غزة، وهو الأمر الذي يزيد معاناة المرضى، المنهكين جسدياً ونفسياً".
اقرأ أيضاً: تفرّد حماس ببلديات غزة يثير موجة من الانتقادات والرفض الشعبي
وأكّد أبو حسان؛ أنّه "بتمّ تسجيل وفاة ما يزيد عن 12 مريضاً بالسرطان شهرياً في غزة"، مشيراً إلى أنّ الاكتشاف المبكر للمرض يزيد من فرص الشفاء، بنسبة تفوق 90%، وقد يغني ذلك المريض عن تحمّل معاناة السفر والخضوع للعشرات من جلسات العلاج الكيماوي والإشعاعي، التي لها آثار صحية خطيرة على جسم الإنسان، والتي قد تكون مؤقتة أو دائمة؛ كفقدان الشعر، وتهيّج الجلد، والعقم، وفقدان الذاكرة".