مجزرة حماة: الأسطورة المؤسِّسة للسياسة السورية؟

مجزرة حماة: الأسطورة المؤسِّسة للسياسة السورية؟


كاتب ومترجم جزائري
13/02/2022

ترجمة: مدني قصري

قبل أربعين عاماً، اندلع أحد أهم الأحداث في تاريخ سوريا المعاصر وأكثرها دوّياً، في ذلك اليوم بدأت القوات المسلحة السورية حملة قمع في مدينة حماة أسفرت عن انتهاكات لا حصر لها بين السكان المدنيين.

حول هذه الأحداث المأساوية، يرى براح ميكائيل "Barah Mikaïl"؛ أنّه إذا كانت المذبحة والانتهاكات قد حدثت فإنّ أهمية حماة تكمن أيضاً في حقيقة أنّها أساس إحدى الأساطير الرئيسة المؤسِّسة للسياسة السورية.

اقرأ أيضاً: ما دلالات مقتل زعيم داعش في سوريا؟ وما مستقبل التنظيم؟

براح ميكائيل "Barah Mikaïl"، مدير معهد "Stractegia"، ومقرّه في مدريد ومكرَّسٌ للبحث في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إضافة إلى الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إسبانيا، وهو أيضاً أستاذ الجغرافيا السياسية، ومتخصّص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جامعة "سانت لويس" (مدريد، إسبانيا).

شغل سابقاً منصب مدير الأبحاث حول الشرق الأوسط في مؤسسة العلاقات الدولية والحوار الخارجي "FRIDE" مدريد 2012-2015، وكذلك في معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية "IRIS" باريس (2002-2011)، له العديد من الكتب والمنشورات المتخصصة، وصدر كتابه الأخير "إعادة قراءة ضرورية للربيع العربي" عن دار "Cygne" عام 2012.

في آذار (مارس) 2011، في خضم "الربيع العربي"، عندما اندلعت مظاهرة ضد السلطة السورية، كان من الواضح أنّ ذكرى حماة ظلت حاضرة للغاية في أذهان الناس

في 2 شباط (فبراير) 1982، قامت قوات مسلحة أرسلها النظام السوري بمحاصرة مدينة حماة الواقعة على بعد ما يقارب 220 كلم إلى الشمال من العاصمة دمشق، كانت حماة معقلاً لتنظيم الإخوان المسلمين، وقد لجأ أعضاؤها المعارضون لنظام الرئيس العلوي، حافظ الأسد، على مدى السنوات السابقة، إلى هجمات مسلحة لم تعد السلطات السورية تتحمّلها؛ لذلك رأت من الضروري الضرب بقوة، ليس فقط لردع جماعة الإخوان المسلمين، لكن أيضاً لردع أيّ شخص قد يميل إلى استعارة أساليبهم.

لا يوجد اليوم إجماع حول العدد الدقيق للسوريين الذين دفعوا ثمن هذه المأساة، شبكة التقديرات واسعة؛ إذ تتأرجح بين 2000 و40000 ضحية. اليقين الوحيد: في عالم لا توجد فيه الوسائل الرقمية يمكن ممارسة القمع بلا حدود.

ومع ذلك، إذا كانت المذبحة والانتهاكات قد حدثت؛ فإنّ أهميّة حماة تكمن أيضاً في حقيقة أنّها أساس إحدى الأساطير الرئيسة المؤسِّسة للسياسة السورية.

حافظ الأسد والسعي للشرعية

تفاصيل استيلاء الرئيس السابق حافظ الأسد على الحكم في سوريا معروفة؛ عام 1970 قاد هذا الضابط في سلاح الجو السوري انقلاباً سلميّاً على السلطة التي كان يجسّدها الرئيس نور الدين الأتاسي.

 

إقرأ أيضاً: بعد أحداث سجن غويران... علاقة تركيا مع داعش تعود إلى الواجهة

انتهز الأسد الفرصة ليضع يديه على حزب البعث الحاكم، وفي العام التالي تم تكريسه رسميّاً رئيساً للجمهورية العربية السورية.

خلال السنوات التي تلت ذلك قامت مهمته على تحديد التوجهات الجديدة للسياسة السورية الداخلية والخارجية، مع سعيه لترسيخ شرعية سلطته في البلاد.

ينحدر حافظ الأسد من الطائفة العلوية التي يُقال عموماً إنّها من الشيعة، المتعارضة مع المذهب السنّي، لكن قول ذلك، بالنسبة لكثيرين، يُعدّ شِركاً؛ ففي نظر الشيعة الأرثوذكس (الاثني عشرية) مثل أولئك الذين يجسّدهم رجال الدين الشيعة في إيران، يظلّ العلويون زنادقة، لأنّهم لا يعترفون بجميع الأئمة الاثني عشر الذين يقدّسونهم.

ويطرح أهل السنّة من ناحيتهم المعاينة نفسها بالضبط: كيف يمكنهم الاعتراف بشرعية تعدّ ثمرةً للتشيّع الإيراني؟ لذلك كان يجب على الرئيس السوري أن يجد شرعية ما، حتى لا يعيق وضعُه كعلويٍّ مهامَّه الرئاسية، لا سيما في بلد ذي أغلبية سنيّة.

وقد حُسِم الأمر عام 1973، عندما قال الإمام موسى الصدر، المرجع الشيعي الأعلى في لبنان عن الطائفة العلوية إنّها جزء لا يتجزأ من الشيعة.

حماة 1982

لكن، منذ وصوله إلى السلطة، واجه الرئيس حافظ الأسد العديد من المصاعب، بسبب وضعه كعلوي، ولا يبدو أنّ خصومه، ومعظمهم من السنّة، كانوا مهيئين لرؤية ممثّلٍ من طائفة يمقتونها أصلاً يسيطر على البلاد.

في عام 1973، في مواجهة احتجاجات من جانب من السكان الذين اشتكوا من أنّ الدستور الصادر حديثاً لم يحدّد أنّ رئيس الدولة يجب أن يكون مسلماً، بدا حافظ الأسد مطمئِناً في هذا الصدد؛ إذ إنّ هذه المرجعية الدينية كانت مدرجَة في الدستور (المادة 3)، لكنّ جوهر الأمور ظلّ هو هو، حيث ما انفكّ الأسد يواجه معارضةً متزايدة ضدّه.

بعد  سنوات قليلة، وصل العنف إلى ذروته بين السلطات السورية ومعارضيها، هؤلاء المعارضون جسّدهم تنظيم الإخوان المسلمين الذين ظلوا يهيئون أنفسهم طوال سنوات السبعينيات.

لكنّ نقطة اللاعودة الأولى جاءت عام 1979، عندما فتح ضابط في الجيش السوري، وهو عضو في حزب البعث الحاكم، النارَ في مدرسة مدفعية حلب على عشرات الجنود العلويين، وهكذا فتح هذا الحدث حلقة من العنف في البلاد، أدّت بعد سنوات قليلة إلى ذروتها: مجازر حماة.

كانت حماة، بالتأكيد، تعبيراً عن حدث عنيف سعى النظام السوري من خلاله إلى وضع حدّ للاحتجاج العنيف ضدّه، لكنّها كانت أيضاً حلقة سعَى من خلالها الرئيس حافظ الأسد إلى جعل القمع نموذجاً يكرّس بالتوازي مختلف التوجهات السياسية التي يفضّلها النظام.

هناك ميزة أخرى لصالح النظام السوري: تشويه سمعة جميع المتظاهرين الذين يروّجون لشعار يدعو إلى القضاء على النظام السوري، بوضعهم في الخانة نفسها

في تلك الأثناء كانت الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) قائمة على قدم وساق، وقد فضّلت دمشق  الانحياز إلى إيران بقيادة الملالي الشيعة.

بموازاة مع ذلك أراد الأسد أيضاً أن يضع حداً لتهديدات منظمة تستحوذ على عناصر دينية (السنية، العلوية) في محاولة منه لإعادة هيكلة الواقع السياسي السوري.

المذابح والهجمات المناهضة للعلويين و/ أو المناهضة للحكومة، التي نفذتها و/ أو شجعت عليها جماعة الإخوان المسلمين خلال السنوات التي سبقت حماة، بدت في حدّ ذاتها أسباباً كافية للتحرك، وفضلاً عن ذلك فإنّ مفهوم حقوق الإنسان العالمية لا يحسب حسابها.

لكنّ الأسد كان يرغب أيضاً في جعل هذه الحلقة نموذجاً رادعاً لأيّة حركة معارضة تسعى إلى ممارسة العنف في المستقبل، لا سيما، أو قبل كلّ شيء، منذ اللحظة التي تستغل فيها هذه الحركة الدِّينَ لخدمة مشاريع سياسية.

يحمل حجمُ الدمار في حماة، وعدد الضحايا (من جانب السكان، بالطبع، حتى وإن تكبّد الجيش أيضاً نصيبه من الخسائر أثناء القتال أثناء الغارة المسلحة التي نفذها على المدينة)، والانتهاكات التي مورست ضدّ نساء وأطفال، بذورَ إرادة قوية من جانب السلطات السورية لتوضيح أمرٍ بعينه: أيّ شخص يريد أن يغامر بالسير في طريق المواجهة مع السلطات لا محالة مُخطِئٌ خطأً فادحاً.

 

اقرأ أيضاً: كيف أثرت أحداث "الربيع العربي" في الخطاب الديني؟

وتظلّ حماة اليوم أيضاً حلقة منقوشة بشكل دائم في الحمض النووي للسلطة السورية؛ معارضوها يرونها دليلاً على الهمجية التي يمتلكها النظام لقمع الأصوات الاحتجاجية. دمشق بالأحرى تنظر إلى حماة على أنّها حلقة سمحت لها بوضع النقاط على الحروف وحمايتها من أيّة محاولة مشابهة في المستقبل.

بالنسبة للسلطة السورية كان الانقسام بين العلويين والسنّة سائداً قبل حماة، حتى وإن استمر بوضوح بعد ذلك، ووفق دمشق؛ فإنّ هذا الوضع يعكس منطقاً سياسياً - تاريخياً لا يمكن لمبادرات بسيطة، مثل الحوار، تسويته بأيّ حال من الأحوال.

حماة بعد 40 عاماً

في آذار (مارس) 2011، في خضم "الربيع العربي"، عندما اندلعت مظاهرة ضد السلطة السورية، كان من الواضح أنّ ذكرى حماة ظلت حاضرة للغاية في أذهان الناس، على الرغم من أنّ النظام السوري اعتاد على فرض مناخ من القمع ضدّ أيّ صوت معارض، أو أي احتجاج وحدوي، كما في حالة الطائفة الكردية، إلا أنّ حماة بقيت الرمز الأسمى لما كان النظام السوري قادراً على فِعلِه.

بعد بعض الحالات السريعة من التردّد، ما لبث أن رأى بشار الأسد والوفد المرافق له في هؤلاء المعارضين والمتظاهرين تعبيراً عن أجندة طائفية إسلامية، ترشدها عن بُعد في المقام الأول قوى سنيّة من الخليج.

منذ ذلك الحين، فإنّ أكثر ما تجلى بغزارة في اتجاه النظام وتصوّره هي الطريقة التي انكشف من خلالها أنّ المعارضة الرسمية والمهمّة ضد الحكومة السورية، والتي جسّدها في البداية هيكلُ المعارضة ممثَّلاً في المجلس الوطني السوري، تتشكّل في الغالب من أعضاء التنظيم السوري للإخوان المسلمين.

علاوة على ذلك، فإنّ الدعم المالي والعسكري الذي استفاد منه هذا الهيكل كان يشير أيضاً في جزء مهمّ منه إلى حالة دول الخليج المنشغلة بقلب النظام السوري بأيّ ثمن، فكان هذا بالنسبة لدمشق سبباً إضافياً لعدم التفاوض مع أولئك الذين كانوا وراء الكثير من أعمال العنف قبل ثلاثة عقود.

هناك ميزة أخرى لصالح النظام السوري: تشويه سمعة جميع المتظاهرين الذين يروّجون لشعار يدعو إلى القضاء على النظام السوري، بوضعهم في الخانة نفسها.

وبقية القصة معروفة، إضافة إلى خلق وضع يجسّد واحدة من أكبر المآسي في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، فإنّ المشهد الاجتماعي والسياسي السوري يشهد انقساماً يتيح أيضاً بروزَ تنظيمات قريبة من القاعدة في سوريا، ناهيك عن الدور الرئيس الجاد للغاية الذي لعبه تنظيم داعش، والذي كان يتمتع بقاعدة واسعة جداً في سوريا.

هناك عناصر كثيرة، بالمقابل، ستسمح للنظام السوري بأن يطرح، رمزياً، تواصلاً، أيديولوجياً على الأقل، قابلاً لأن يوحّد هذه التشكيلات الإرهابية والمعارضين السوريين بسلطته.

استخدام العنف

هل أخطأ النظام السوري في تفسيره لأحداث العقد الماضي؟ تأكيد ذلك دون بعض التحفظ خطأ، هناك بعض التواطؤ، أيديولوجياً، على الأقل، بين بعض أعضاء المعارضة والتوجهات الطائفية التي تتبناها التشكيلات الجهادية.

كاتب هذه السطور كان شاهداً، في خضم أحداث 2011، على العديد من الحلقات التي لم يتردّد فيها أعضاء من من المعارضة السورية، ولا سيما عندما ضُيِّق الخِناقُ عليهم، في اللجوء إلى الجدل الطائفي "إفساح المجال أمام أهل السنّة "سنعيد للعلويين ما فعلوه بنا"، كما لو أنهم يبرّرون مصداقية مطالبهم.

لا شكّ في أنّ المتطرفين موجودون في داخل النظام نفسه، وكذلك بين معارضيه، هذه حقيقة يجب الاعتراف بها، بعيداً عن كلّ الملائكية التي ترغب في ألا تتشكل المعارضة السورية إلا من الحمائم البيضاء.

 

اقرأ أيضاً: كيف استجابت الحركات السلفية رقمياً في ظلّ الربيع العربي؟

لكن هذه الحمائم موجودة أيضاً، بلا شكّ، وهي كثيرة، لكن غالباً ما تطغى عليها الأصوات المسموعة من قبل معارضة تحرّكها أجندة سياسية تتجاوز حدود سوريا، والتي تستدعي الماضي (قمع النظام) حتى تضفي شرعيةً على حاضرها (الكفاح ضدّ النظام).

لكنّ الأمر يتطلب أكثر من مجرد ذكريات مبنيّة على وحشية حماة لتخويف نظام تمكن من التخلص بمهارة من الوضع، وفي هذا الصدد لا يسعنا إلا أن نلاحظ كيف استطاعت حماة، في فترة ما بعد عام 2011، عندما تعرّضت مدن مثل حمص أو حلب لقصفٍ مكثف، أن تظلّ متحفّظة ومحمية، فلم يُظهِر سكانُها احتجاجاً واسعاً، ولا يسعنا سوى الاعتقاد أنّ لذكرى حماة، والطريقة التي يغرف ويستلهم منها النظام جزءاً من الأساطير المؤسِّسة لسياسته، دوراً في ذلك.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

www.middleeasteye.net/fr

https://www.middleeasteye.net/fr/opinion-fr/syrie-massacre-hama-1982-assad-repression-islamistes-mythe-fondateur?fbclid=IwAR07dHMjrnP0XNFqeAHPMEyinawO_h_ZCjSm8cRDs_cmRXMKe4YF5fQE-iE




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية