ما أبرز أبعاد استراتيجية تركيا لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى؟

ما أبرز أبعاد استراتيجية تركيا لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى؟

ما أبرز أبعاد استراتيجية تركيا لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى؟


20/11/2023

بالتزامن مع تفكّك الاتحاد السوفييتي عام 1991، رفع الرئيس التركي في حينه تورغوت أوزال شعار "من بحر أدرياتيك إلى سور الصين"، مشيراً بذلك إلى النطاقات الجغرافية التي تمتد فيها الأعراق ذات الأصول التركية المشتركة، من شبه جزيرة البلقان غرباً مروراً بالأناضول والقوقاز، حتى أواسط آسيا شرقاً. وجاء هذا الشعار ليعبّر عن ولادة توجه استراتيجي جديد لتركيا، ينظر لتلك المنطقة باعتبارها مجالاً لتحقيق النفوذ والمصالح التركية السياسية والاقتصادية، وذلك استناداً إلى مشتركات الثقافة واللغة والدين والعرق.

شراكة اقتصادية وسياسية

تشير إحصاءات موقع وزارة الخارجية التركية إلى أنّ إجماليّ حجم التبادل التجاري بين تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى الـ5 (كازاخستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان، وأوزباكستان) بلغ في العام 2019 أكثر من 8 مليارات ونصف المليار دولار أمريكي. مع وجود ما يناهز 4 آلاف شركة تركية تعمل وتستثمر رؤوس أموالها في هذه الجمهوريات، في حين قُدّر إجمالي استثمارات الشركات التركية في الدول الـ5 في كانون الأول (ديسمبر) من عام 2017م بأكثر من 13 مليار دولار.

باللون البني... تركيا (في الغرب) ودول آسيا الوسطى (في الشرق)

ولضمان استمرار وتعزيز الشراكة الاقتصادية جاء التحرّك على مستوى التعاون السياسي أيضاً، وذلك عبر  تأسيس المنظمة الدولية المعروفة باسم "المجلس التركي" أو "مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية"، التي تضمّ الدول الناطقة باللغة التركية، وقد تأسس "المجلس التركي" عام 2009، وحالياً الدول الأعضاء فيه هي كل من: أذربيجان، وتركيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وأوزباكستان، إضافة إلى هنغاريا بصفة عضو مراقب، وتقع أمانته العامة في إسطنبول. وجاء من ضمن الأهداف المعلنة في ميثاق تأسيس المجلس: تطوير مواقف مشتركة بين الأعضاء بشأن قضايا السياسة الخارجية، وتعزيز التعاون بينها في جميع المجالات ذات الاهتمام المشترك، وخلق الظروف المواتية للتجارة والاستثمار، وتحقيق نمو اقتصادي شامل ومتوازن، والتنمية الاجتماعية والثقافية.

الشراكة مع كازاخستان نموذجاً

كمثال على عمق الشراكة مع دول آسيا الوسطى والاعتبارات الاستراتيجية بعيدة المدى المرتبطة بهذه الشراكة، يمكن النظر إلى نموذج الشراكة التركية مع دولة كازاخستان، فقد ركّزت تركيا على إقامة علاقة تجارية بأعلى المستويات معها، ووفقاً لإحصائيات وزارة التجارة التركية لعام 2017 كان هناك نحو 400 شركة تركية عاملة في كازاخستان وحدها، إضافة إلى وجود أكثر من 500 مشروع برؤوس أموال تركية في كازاخستان، في حين بلغت تقديرات إجمالي حجم التجارة الخارجية بين تركيا وكازاخستان في العام 2018 قرابة 3 مليارات دولار أمريكي.

بلغ إجمالي حجم التبادل التجاري بين تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى العام 2019 أكثر من 8 مليارات ونصف المليار دولار

وتبرز أهمية الشراكة مع كازاخستان تحديداً بالنسبة إلى تركيا نظراً لموقعها المتوسط ما بين بحر قزوين والصين، حيث باتت كازاخستان مع افتتاح الخط الواصل ما بين مدينة باكو (عاصمة أذربيجان) الواقعة على ساحل بحر قزوين، ومدينة قارص (شرقي تركيا)، ومن ثم ربط الخط بالعبّارات مع كازاخستان وعبرها إلى الصين. وقد باتت كازاخستان بذلك بمثابة جسر لعبور حركة المسافرين وحركة الشحن التجاري ما بين الصين وتركيا، ومن ثم من تركيا انطلاقاً باتجاه أوروبا، وهو ما يشكّل أحد ممرات طريق الحرير الحديدي، الواصل بين الصين وأوروبا، وهو الخط الذي تعوّل عليه تركيا في تنشيط حركة الصادرات والواردات منها وإليها وعبرها مع أكبر الشركاء التجاريين.

باللون الأحمر... أحد خطوط الغاز المقترحة لنقل الغاز الروسي عبر بحر قزوين ومن ثم عبر تركيا باتجاه أوروبا

وتسعى تركيا أيضاً لتدشين خطوط لنقل الغاز الروسي عبر بحر قزوين، والتي تنطلق من روسيا باتجاه كازاخستان ومن ثم باتجاه أحد الموانئ على الساحل الشرقي لبحر قزوين، وبحيث يتم نقل الغاز عبر قزوين وصولاً إلى أذربيجان ومنها إلى تركيا. والهدف التركي من هذا المشروع هو أن تمرّ أكبر نسبة ممكنة من الغاز المصدر إلى أوروبا عبر أراضيها، وهو ما يحقق لها مكاسب اقتصادية ويمنحها أوراق ضغط والمزيد من الثقل السياسي المستند لموقعها الجغرافي، وقد بادرت تركيا إلى اقتراح تنفيذ هذا المشروع على كازاخستان، وما يزال في طور الاقتراح.

الثقافة والدين والتعليم

تعتبر تركيا منطقة آسيا الوسطى مجالاً لنفوذها، وذلك بالاستناد إلى الروابط اللغوية والثقافية بالأساس. ومن هذا المنطلق بادرت لإطلاق مشاريع عدّة على الصعيد الثقافي، من جهود توحيد اللغات التركية، وإصدار معاجم لغوية مشتركة، إلى إقامة الجامعات والمراكز الثقافية. وكانت الخطوة الأهم في عام 1993 عندما تم إنشاء "المنظمة الدولية للثقافة التركية"، بهدف العناية وتنسيق وتعزيز المشاريع الثقافية بين الدول الناطقة بالتركية. ومن جملة الأهداف المعلنة التي تتبناها المنظمة: حماية الثقافة، والفن، واللغة، والتراث التاريخي التركي، وتقديم قيم الثقافة التركية إلى العالم وإيصالها إلى الأجيال الناشئة.

باتت كازاخستان بمثابة جسر لعبور حركة المسافرين وحركة الشحن التجاري ما بين الصين وتركيا، ومن ثم من تركيا انطلاقاً باتجاه أوروبا

على صعيد التعليم، تقوم تركيا بتنفيذ برنامج منح لطلاب دول آسيا الوسطى تحت عنوان "مشروع الطلاب الكبير". إضافة إلى تأسيس جامعات تركية في تلك الدول، كجامعة "الشيخ أحمد ياساوي الدولية التركية القرغيزية"، وجامعة "ماناس التركية القرغيزية". وتنتشر المدارس التركية في دول آسيا الوسطى، والتي تقوم مؤسسات تركية خاصة بتشغيلها.

ملصق ترويجي من إعداد المنظمة الدولية للثقافة التركية يهدف للحفاظ على الثقافات التركية والتعريف بها

وعلى المستوى الديني، سعت تركيا لنشر النموذج الديني الخاص بها في دول آسيا الوسطى، وسخّرت في سبيل ذلك جهود وإمكانات مؤسسة "وقف الديانة" ومنظمة "تيكا"، اللتين التزمتا على مدار قرابة 3 عقود بتقديم الخدمات الدينية، بما في ذلك إقامة المساجد والمراكز الإسلامية ورعايتها، وتدريب الأئمة.

دبلوماسية المساعدات والمشاريع الخيرية

كانت مؤسسة "تيكا" (وكالة التعاون والتنسيق التركية) قد تأسست بالأصل عام 1992 بهدف مساعدة الجمهوريات في آسيا الوسطى على تأسيس وتطوير وتأهيل نفسها، بالتزامن مع استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وبما يؤدي إلى تعزيز صلاتها بتركيا، وبالتالي يوطئ لمدّ النفوذ وتحقيق المصالح التركية فيها.

سعت تركيا لنشر النموذج الديني الخاص بها في دول آسيا الوسطى، وسخّرت في سبيل ذلك جهود وإمكانات مؤسسة وقف الديانة ومنظمة تيكا

وبحسب تقرير صادر عن الوكالة في العام 2018، فقد نفذت "تيكا"، في دولة قرغيزستان وحدها (761)  مشروعاً منذ عام 1992، منها (117) مشروعاً في مجال الصحة، و(166) في التعليم، و(180) في مجال البنية التحتية والخدمات. أمّا في دولة أوزبكستان، فوفقاً لتقرير صادر عن "تيكا" في العام 2018 أيضاً، فقد نفذت الوكالة هناك، منذ عام 1993، (725) مشروعاً تنموياً في مجالات التعليم والصحة والزراعة والثروة الحيوانية والبنية التحتية.

يأتي هذا التوجّه التركي لتعزيز الحضور والنفوذ في هذه المنطقة من آسيا متوافقاً مع الاستراتيجية التركية، التي ترسخّت خلال العقدين الأخيرين، والمتمثلة في تعزيز الاتجاه نحو مناطق الشرق والجنوب، وذلك في إطار البحث عن بدائل لعضوية الاتحاد الأوروبي وعلاقة التحالف المضطربة مع الغرب، وسعياً لاكتساب المزيد من الخيارات والأوراق التي توفّر لها الحماية وإمكانية المناورة في مواجهة أيّ عقوبات أوروبية أو أمريكية متوقعة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية