في أوّل زيارة لي لإندونيسيا قبل سنوات مضت التقيت بشاعر عراقي عاش هناك لمدّة عشر سنوات ونيف. وكانت المصادفة سعيدة طالما يجب أن نصغي إلى الشعراء أوّلا. قال لي بالحرف: ستسمع كثيرا عبارة “أنا مسلم”، لا تَرْتَب، إنها لا تعني أيّ شيء. خلاصة أدركها شاعر، ثم جعلتها منطلقا للتفكير ومعاودة التفكير، ثم سرعان ما أدركت أن السؤال لا يشمل إندونيسيا وحسب، إنما هو سؤال الإسلام اليوم في كل مكان. ما معنى عبارة “أنا مسلم”؟
ما معناها حين تقال مرّات تلو المرّات، بسبب أو دون سبب؟ هل الإكثار من ترديد الكلمات هو الذي يفرغها من المعنى جراء كثرة الاستعمال أم أن فراغ المعنى هو الذي يجعلنا نكثر من ترديد الكلمات كنوع من التعويض؟ لن أجازف بالإجابة، وعلى الأرجح لا أملك اليقين، لكني سأجازف بتقديم ملاحظات تكميلية.
إليكم إحداها. صديقة فرنسية تعمل في عمادة باريس اشتكت لي ذات مرّة بالقول: أعمل في مصلحة إدارية تجعلني أطرح على الأشخاص أسئلة حول الأصل والمنشأ والولادة ولغة الأم وغير ذلك، لكن، حين يهم الأمر أحد المسلمين، فقد ينبري من تلقاء نفسه ليجيبني عن سؤال لم أطرحه ولا يحقّ لي طرحه، فيقول “أنا مسلم”. كما لو أنه يريد أن يقول لي: لم تسأليني السؤال الأهم، ومع ذلك ها أنا أجيبك عنه، “أنا مسلم”.
بهذا المعنى نحصل على ملاحظة بالغة الأهمية: في مستوى اللاوعي الجمعي يشعر المسلم كما لو أن هناك سؤالا مطروحا عليه دائما في كل الأحوال: من أنت؟ بل يشعر بأن السؤال يتعلق بالهوية الدينية تحديدا. ورغم أن إسلامه لن يمنعه من أن يقول “أنا أميركي” حين يكون أميركيا، ولن يمنعه إسلامه من أن يقول “أنا إندونيسي” حين يكون إندونيسيا، إلاّ أنه يفضل غالبا عبارة “أنا مسلم”. طيب، هل فعل “يُفضل” هو الفعل المناسب أم ثمة على الأرجح دوافع تنتمي إلى اللاّوعي الجمعي؟
نفهم معنى أن يكون المرء إندونيسيا أو أميركيا. يعني ذلك أن من حقه مثلا أن يلتحق بالمؤسسة العسكرية ويقاتل ضمن صفوف جيش البلد الذي ينتمي إليه. لكن، في هذه الحالة ماذا تعني عبارة “أنا مسلم”؟ ماذا تعني الهوية الدينية حين ينضم المسلم الفرنسي إلى الجيش الفرنسي؟
ها نحن دفعنا بالوضعية إلى حدودها القصوى لكي نختبرها. هذا إجراء اختباري معقول ومحمود أيضا. لكن بوسعنا النظر إلى سائر الوضعيات تباعا. ما معنى عبارة “أنا مسلم”؟ ما معنى عبارة “أنا مسلم” عندما أدخل إلى مخدع التصويت الانتخابي مثلا؟
وهل تختلف عبارة “أنا مسلم” عندما أمثل أقلية دينية عن نفس العبارة عندما أمثل أكثرية دينية؟ طبعا نعلم أن الإجابة عن السؤال ما معنى أن أكون مسلما؟ ليست ممتنعة طالما أني قد أملأ الفراغ بالجمل التي أحب، والتي قد تكون على الأرجح انطباعات طيبة وخواطر نبيلة.
سمعت أحدهم يقول قولا جميلا جدا: المسلم صفة يتصف بها أتباع كافة الديانات التوحيدية الإبراهيمية وفق الدلالة القرآنية. ثم سمعت آخر يقول قولا خطيرا جدا: المسلم من بايع الخليفة الفلاني على السمع والطاعة في المنشط والمكره إلى آخر الحديث. وقد سمعت أيضا مثقفا يقول قولا غريبا جدا، يتحدّث فيه عن مفاهيم السبحانية والرحمانية كصفات مميزة للإنسان المسلم!
في كل الأحوال وبمعزل عن السجال يمكننا القول، حين يكون المسلم جيدا فلا وجود لأي فضيلة يمكنها أن تميزه عن سائر الخلق، وحين يكون المسلم سيئاً فلا وجود لأي رذيلة يمكنها أن تميزه عن سائر البشر. هذا هو المؤكد بالحس السليم والخبرة الإنسانية.
ثمة قاعدة ندركها بالخبرة: لا نكثر الكلام إلاّ حين لا نعرف عن ماذا نتحدّث؟ أفلا يكون جوهر المشكل هنا أننا لا نعرف عن ماذا نتحدّث؟ على سبيل المثال، في الخطاب الغربي لا نسمع كلمة الديمقراطية إلاّ نادرا، لكن يتعلق الأمر في المقابل بممارسة يومية راسخة في المؤسسات والسلوكيات. أما في مجتمعات شمال أفريقيا والشرق الأوسط، فلا يعتبر سياسيا من لا يردد كلمة الديمقراطية في اليوم الواحد عشرات المرّات.
ليس الإسلام ديانة إيقونات. هذا معلوم بالضرورة. لكن هناك من لا يكتفي بالقول “أنا مسلم” بواسطة الكلمات بل يستعين بالرموز والإيقونات: المسبحة (وهي أصلا لم يستعملها الرسول)، الحجاب (والمصطلح ليس مذكورا في القرآن ولا في الحديث) ثم وصولا إلى أدعية رنين الهاتف التي قد تبلغ حدّ الهوس في بعض الأحيان. لقد سُئل أحد المتصوفة ذات مرّة ما لنا لا نسمعك تذكر الله؟ فأجاب: كيف أذكره إذا كنت لا أنساه.
الذكر والنسيان سيان، بل الذكر المتكرر تعويض عن النسيان المتجذر. هذا الأمر ندركه بالحس اليومي البسيط. لكن ثمة نظرية متكاملة لدى هيجل تحت مسمى مكر التاريخ، بحيث يتحقق الهدف التاريخي أحيانا بأقنعة مضادة. ثمة نظرية أخرى لدى فرويد تجعل الحلم بدوره قد يحقق رغباته بأقنعة مضادة.
وبالعودة إلى الحس اليومي البسيط نلاحظ ما يلي: إن الرغبات الجنسية الأشدّ “خطورة” تعرف كيف تتسلل إلى النفس عبر الأقنعة الأكثر زهدا وورعا. ألا تحيل فتنة الدجال في المتخيل الديني إلى رمزية قناع الورع حين يخفي الدوافع الأشدّ خطورة؟ إنها لعبة الأقنعة في آخر المطاف، بحيث قد يكون الإفراط في الشكل مجرّد غطاء للتفريط في المضمون.
في كل الأحوال، أمامنا ملاحظة يتفق حولها الجميع: يعود الدين في مستوى السطح ويتراجع في مستوى العمق، أي أن الدين يعود في المظهر وينسحب في الجوهر.هذه الملاحظة لا تثير أي خلاف سوى في أساليب التعبير عنها، وفي سبل التفسير أو التبرير. إذ يراها البعض ضعفا في الوازع الديني، ويعتبرها البعض نفاقا دينيا، ويظنها آخرون مؤامرة على الإسلام. لكن للتأكيد، ليس ثمة من تناقض بين غلوّ الظاهر وفراغ الجوهر، بل ثمة تكامل. الغلو في السطح مجرّد تعويض عن خسارة في العمق.
بلا شك ثمة خسارة في العمق. ثمة خسارة لا يكفي أن نحجبها أو نكتمها حتى نخفف من وطأتها. فإن الداء فينا والإنكار داء آخر. تكمن بؤرة الأزمة في أن الإسلام كما ورثناه، لم يعد قادرا على الإجابة عن تطلعات الأجيال الجديدة.
والنتيجة العملية موجتان دراماتيكيتان: موجة غلو في الدين ترفض هذا العالم الذي لا يلائم الإسلام، تقابلها موجة خروج عن الدين ترفض الإسلام الذي لا يلائم هذا العالم. ومجمل القول، ثمة شرخ ثقافي بين الإسلام كما ورثناه ومتطلبات العالم المعاصر.
سعيد ناشيد-عن"العرب" اللندنية