جدّد اعتراف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالإبادة الأرمينيّة التي وقعت في الحرب العالمية الأولى على يد الدولة العثمانية النقاش حول التاريخ الدموي للسلطنة العثمانية ضدّ القوميات غير التركية، خصوصاً في العقود الأخيرة من عهدها، التي شهدت صعود القومية التركية المتطرفة، وصدامها مع القوميات الأخرى، خصوصاً العربية والأرمنية.
رغم وصول برقيات متعددة من إسطنبول إلى السلطات في المدن في الشام بجمع وتسليم الأرمن، إلا أنّ العرب لم ينفذوا هذه التعليمات
ووقعت سلسلة المذابح العثمانية في مناطق جنوب شرق وجنوب غرب الأناضول وإسطنبول، وشهدت الأراضي العربية الملاصقة جزءاً من أحداث هذه المآسي، لكن، بخلاف التطرف القومي التركي، سطر التاريخ للعرب مواقف إنسانية مشرّفة في الدفاع عن الأرمن واحتضانهم، سواء في البلدان التي كانت خاضعة للدولة العثمانية أو المناطق التي تحرّرت من قبل مثل مصر.
وإلى جانب ذلك، كان للضباط العرب في الجيش العثماني مواقف زاهية في حماية الأرمن، ورفض تنفيذ أوامر التهجير القاسية، التي تسببت في مقتل مئات الآلاف من الشعب الأرمني.
القضية الأرمنية
لم تكن شبه جزيرة الأناضول، التي تمثّل 95% من مساحة الجمهورية التركية، موطناً أصيلاً للأتراك، الذين هاجروا في موجات متتالية من وسط آسيا، منذ عهد الحكم البيزنطي للأناضول، وقبل ظهور الدين الإسلامي، وتنامت الهجرات مع التوسعات الإسلامية في آسيا الوسطى، التي فتحت الطريق أمام الهجرات التركية إلى العراق والشام، ثم زادت الهجرات مع صعود الخطر المغولي، فاندفعت القبائل التركية متوسعة في منطقة الأناضول، ومؤسسة إمارات ودول، كان أشهرها الدولة السلجوقية، التي قُسمت إلى ثلاث دول، كان أطولها عمراً دولة سلاجقة الروم، غرب الأناضول، والتي ورثتها إمارات تركية متعددة، كان من بينها إمارة العثمانيين، التي ملأت الفراغ الناتج عن ضعف الإمارات التركية، وتوسعت على حساب الدولة البيزنطية الضعيفة، في الشطر الأوروبي ثم الأناضول، وصولاً إلى إسقاط القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة عام 1453، وعاش فيها تجمّع سكاني وديني واسع، كان الأرمن من أبرز مكوناته.
وحظي الأرمن بمكانة طيبة لدى السلاطين العثمانيين، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي شهد صعود الاضطرابات القومية في السلطنة العثمانية، التي أخفقت في التحوّل من العهد الإمبراطوري إلى الدولة القومية، وفي عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)، برزت القضية الأرمنية، وبدأت أولى المذابح ضدّ الأرمن، ومع سيطرة جمعية الاتحاد والترقي على السلطة (1913-1918) وانفرادها بها دون بقية القوميات التي شاركت في الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني، تسارعت حدّة الاضطهاد بحقّ القوميات غير التركية، خصوصاً الأرمن والعرب.
اقرأ أيضاً: أردوغان بوصفه هديّة ثمينة للقضيّة الأرمنيّة
ومع دخول السلطنة الحرب العالمية الأولى، عام 1915، بدأت السلطة التركية في تهجير الأرمن، وارتكاب مذابح جماعية، أدّت إلى مقتل مئات الآلاف، واعتُبرت أول جريمة إبادة في التاريخ الحديث، وحملت اسم "الإبادة الأرمنية".
شهادة فائز الغصين
أيّد القوميون العرب مطالب نظرائهم الأرمن، وغيرهم من الأقليات، في مؤتمر القوميين في باريس، عام 1913، وكتب المحامي العربي فائز الغصين شهادته الحية على ما شهده من مذابح بحقّ الأرمن، حين كان منفياً في منطقة ديار بكر، لنشاطه القومي.
وكتب الغصين، في كتابه "المذابح في أرمينيا"، عام 1917، عن مشاهداته في جنوب الأناضول، وفي المناطق التي مرّ بها، ودور العشائر العربية في حماية الأرمن، "ومع أنّ الحكومة تنشر بين العرب أنّ قتل الأرمن فرض، لم أسمع أحداً من عشائر العرب قتل أرمنياً، وقد مرّ بعض العربان على بئر، فوجدوا نساء وأطفالاً ألقوا فيه، وهم على آخر رمق من الحياة، فأنقذوهم، وأخذوهم معهم، وعالجوهم حتى شفوا جميعاً".
وذكر أنّ السلطات الرسمية كانت وراء حملات التحريض ضدّ الأرمن، ووظفت المشاعر الدينية لإثارة الأكراد والأتراك ضدّ الأرمن، وكان لالغصين دور كبير في توثيق الجرائم التي تعرض لها الأرمن، وإثارة التعاطف العربي مع الشعب الأرمني.
اقرأ أيضاً: إقرار الرئيس الأمريكي بإبادة الأرمن.. الرمزية والتداعيات
وذكر الغصين في كتابه، أنّ قائم مقام قضاء البشري بديار بكر، في بداية المذابح، كان من أهالي بغداد، ويدعى ثابت بك السويدي، وقد رفض تنفيذ أوامر السلطات في إسطنبول بجمع الأرمن وتهجيرهم، وقدم استقالته وعاد إلى بغداد، لكنّه قُتل في طريق العودة.
علي سواد باي
وفي كتابه "الأرمن والدولة العثمانية"؛ ذكر نقية حنا منصور مواقف عربية تضامنية مع الأرمن إبان مذابح، عام 1915، ومن بينها موقف حاكم دير الزور، علي سواد باي، الذي وفر الأمان لآلاف الأرمن المهجرين والفارين من ملاحقة السلطات العثمانية، وقام ببناء دار أيتام للأطفال الذين فقدوا أسرهم.
أيّد القوميون العرب مطالب الأرمن في مؤتمر القوميين في باريس، عام 1913، وكتب المحامي العربي فائز الغصين شهادته الحية على ما شهده من مذابح بحقّ الأرمن
وذكر منصور، أنّ رئيس الوزراء ووزير الداخلية في حكومة الاتحاد والترقي، ومدبر مذابح الأرمن، طلعت باشا، طلب من علي باي، ترحيل الأرمن إلى المعسكرات في صحراء المنطقة تمهيداً لتصفيتهم، لكنّه رفض، وأرسل برقية إلى إسطنبول نصّها: "إنّ وسائل النقل غير كافية لترحيل الجماعات، أما إذا كان هدفكم إبادتهم، فإنني لا أستطيع القيام بذلك، أو الأمر به"، فعزلته السلطات التركية، وعيّنت مكانه زكي بيك الذي نفّذ أوامر إسطنبول.
ورغم وصول برقيات متعددة من إسطنبول إلى السلطات في المدن في الشام بجمع وتسليم الأرمن، وتحريم تأمين الحماية لهم، أو تبنّي أطفالهم، إلا أنّ العرب لم ينفذوا هذه التعليمات، التي منها: "ألغي حقّ الأرمن في أراضي تركيا إلغاءً تاماً، إنّ الحكومة أمرت حتى بعدم ترك الأطفال، وشوهد في بعض المقاطعات تنفيذ هذا المرسوم، أما في حلب، لأسباب نجهلها، بدلاً من إرسال الأرمن للمنفى يتركون في حلب".
ورداً على رفض العرب، وجه قائد فيلق بالجيش الثالث إنذاراً بأنّ من يحمي أرمنياً سيعاقب بالشنق أمام داره ويحرق بيته، ورفض الموظفون العرب تلبية أوامر إسطنبول بقتل الأرمن، ومن هؤلاء، جلال بك، وسامي بك، في حلب.
وفي حماه السورية؛ أنشأ رجل الدين عبد الله مسائي، ملجأ للأطفال الأرمن، الذين نجوا من القتل، ووصلوا إلى المدينة.
تضامن عربي
أما بالنسبة للموقف الرسمي في البلاد العربية، فقد ظهر جلياً في موقف الشريف حسين قائد الثورة العربية، الذي أصدر مرسوماً هاشمياً إلى الأمراء العرب والعشائر يوصيهم بإيواء الأرمن وإطعامهم، كما جاء في كتاب "نضال العرب والأرمن ضدّ الاستعمار العثماني".
اقرأ أيضاً: هكذا سترد تركيا على اعتراف بايدن بإبادة الأرمن
وأصدر شيخ الأزهر سليم البشري فتوى، عام 1909، رداً على فظائع الأتراك في أضنة، بحرمة إراقة دم المسيحيين، وقام رئيس الوزراء المصري، حسن صبري باشا، بطبع 25 ألف نسخة، على نفقته، وتوزيعها في الأناضول لإنقاذ الشعب التركي والأكراد من الدعاية المضللة ضدّ الأرمن.
واستقبلت مصر عشرات الآلاف من الفارين من الإبادة، وكان من بينهم 4 آلاف، تمّ نقلهم على متن سفينة فرنسية إلى بورسعيد.
ووافقت حكومات سوريا ولبنان، في معاهدة لوزان، عام 1923، على منح الأرمن اللاجئين في أراضيهم الجنسية العربية، ومساواتهم التامة بالعرب.
وفاء الأرمن
وحفظ الأرمن الجميل للعرب، وعبّروا عن شكرهم لهم بشكل مباشر، من خلال الصحف والكتب، وبشكل غير مباشر، بالاندماج في الشعوب العربية، وأورد نقية حنا منصور في كتابه عشرات الشهادات، من بينها ما كتب المفكر والصحفي كرسام أهارونيان، في كتابه "القضية الأرمينية أمام الرأي العام العربي": "الشعب الأرمنيّ لا ينسى، ولن ينسى أبداً، ما لقيه من عطف وحسن ضيافة عند إخوانه العرب، إبان أفظع محنة عرفها في تاريخه، عندما فتحت البلدان العربية أبوابها، لاستقبال مئات الألوف من المهاجرين الأرمن، الهاربين من الظلم والقتل والمذابح".
وعام 1917 شاركت كتيبة من المتطوعين الأرمن، عددها 3000 مقاتل، في تحرير نابلس من القوات التركية، بجانب العرب في جيش الشريف حسين، ورفضوا محاولات فرنسا للاستعانة بهم في سوريا، ضد العرب، وعاقبهم الفرنسيون بقصف أحيائهم، وكادت أن تدمَّر لولا تدخّل المقاومة السورية، وتطويقها الثكنة الفرنسية.
وفي الثورة السورية الكبرى، عام 1925، بقيادة سلطان باشا الأطرش، ضدّ الاحتلال الفرنسي، شارك الأرمن مع العرب، وتكرّر المشهد في لبنان، عام 1943، ضدّ الانتداب الفرنسي، وشاركوا في مقاومة العرب للاحتلال الصهيوني لفلسطين.
ويقدّر مؤرخون مقتل حوالي 1.5 مليون أرمنيّ في المذابح وحملات الترحيل التي نفذتها الدولة العثمانية في بداية عام 1915، لكنّ السلطات التركية تحدّد العدد بحوالي 300 ألف، وتعزو سبب موتهم إلى الاضطرابات والصراع الذي شهدته البلاد.
وتعترف 31 دولة بالإبادة الأرمنية، بينها سوريا ولبنان، وكانت آخرها الولايات المتحدة، في 24 من الشهر الجاري، الذي وافق الذكرى 106 لمذابح الأرمن.