مآلات مفاوضات فيينا بين إيران والقوى الغربية، وانعكاساتها الإقليمية

مآلات مفاوضات فيينا بين إيران والقوى الغربية، وانعكاساتها الإقليمية


23/03/2022

محمد الزغول

يُفيد مُجملُ الإشارات القادِمَة من فيينا وطهران وواشنطن وموسكو بأن الملفَّ النووي الإيراني بات على أعتاب أحد احتمالين: الأول؛ إعادة واشنطن إلى الاتفاق النووي لعام 2015 دون أية إضافات أو تعديلات في بنود الاتفاق، مع إمكانية مناقشة إضافات أو شروط جديدة "خارج الاتفاق" على قاعدة "خُذْ وأعطِ"، وذلك في مقابل تراجُع طهران عن خطواتها التصعيدية النووية الخمس التي أعقبت خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والتنازل عمّا رافقها من "مكتسبات" نووية إيرانية. والاحتمال الثاني، الذهاب باتجاه "تهدئة نووية خارج إطار الاتفاق النووي"، بالتنسيق مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، بالتوازي مع تفعيل حزمة إجراءات متبادلة تهدف إلى خلق أجواء من التهدئة الإقليمية في الشرق الأوسط. 

وفي كلا الاحتمالين، من المفترض وفق ما يَرشَحُ من تصريحات الأطراف، أن ترفع واشنطن معظم أو كل العقوبات التي فرضتها على طهران خلال حملة الضغوط القصوى. وأن تحصل إيران، وربما أطراف دولية أخرى مثل روسيا، على ضمانات اقتصادية، أوروبية وأمريكية، بشأن حرية التعامل والتبادل الاقتصادي والمالي مع إيران. وأن تتمكن إيران من التوصّل إلى أموالها المجمّدة في الخارج كلياً أو جزئياً. وكل ذلك وفق تفصيلات فنية يطول شرحها. 

"التهدئة خارج الاتفاق"

لقد تحدثت واشنطن بصراحة حول خيار "التهدئة النووية خارج الاتفاق النووي"، بعد المحاولات الروسية الأخيرة لعرقلة تقدُّم مفاوضات فيينا، وسعيها لفرض شروط وصفت بأنها غير موضوعية، ومرتبطة بملف الصراع الأوروآسيوي أكثر من ارتباطها بالملف النووي الإيراني. جاء ذلك على لسان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، الذي قال إن الولايات المتحدة ليست على استعداد لقبول شروط روسيا، لكن إذا جعلت "العوامل الخارجية" من المستحيل إحياء "خطة العمل الشاملة المشتركة"، فمن أجل الدبلوماسية، سنكون مُستعدين لبحث بدائل لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي.

من ناحيتها، أظهرت إيران في ظل حكومة المحافظين الحالية، انفتاحاً على الحوار الإقليمي مع دول الجوار، ربما على سبيل البحث عن بدائل الخضوع للشروط الأمريكية بشأن تغيير السلوك الإيراني في المنطقة. ومع ذلك، يبدو هذا المسار الإقليمي مطلوباً في ظل ابتعاد إدارة بايدن عن استراتيجية الحضور المباشر في الملفات الإقليمية، ولجوئها إلى سياسة التعهيد. وعلى الرغم من أن مشاريع الوساطات الإقليمية، تتجاوز كونها وساطات بين إيران والسعودية، وتنظر إلى الأزمة من منطلق أشمل، لكنّها لا تأخذ بالحسبان الضرورات الاستراتيجية اللازمة لحلّ العقدة الإيرانية؛ ما يجعل منها حلولاً مبتورة، ومن المرجح أن تكون نتيجتها منْح إيران اليد العليا في أي تسويات محتملة؛ فهي لا تأخذ تصور إيران الاستراتيجي لنفسها، ولمنافسيها، ولا طبيعة مشروعها الجيوسياسي بالحسبان.

في المقابل، يبدو أن دول الخليج العربية لا تُمانع من انفتاح أمريكي وأوروبي مدروس على طهران، من شأنه أن يدعم الاقتصاد الإيراني، وفق استراتيجية واضحة المعالم لتغيير سلوك النظام، لكنّ أيّاً من القوى الإقليمية لن ترغب في مشاهدة انفتاح اقتصادي فَضفاض أو غير مُخطط له؛ فأي انفتاح اقتصادي أو نقدي لا يكون جزءاً من استراتيجية شاملة، لن يؤدي إلى النتائج المرجوة في تغيير سلوك إيران. 

لقد أظهرت السابقة التاريخية للاتفاق النووي لعام 2015، أن النظام الإيراني استغل فتح المجال الاقتصادي أمامه، لدعم مشاريعه للتوسع الإقليمي، ودعم برامج التسلُّح. فيما أثبتت تجربة العقوبات في موجتيها (موجة 2005 حتى 2012، وموجة 2018 حتى 2020) أن لها تأثيراً قوياً في تحجيم برامج إيران التوسُّعية، وتحسين استجابة إيران لمطالب الحوار مع المجتمع الدولي. وفي ظل هذه الحقائق، لا يمكن تصور أي نتائج إيجابية يمكن أن تتمخض عن حوار مع إيران، من دون أوراق اقتصادية وسياسية وعسكرية ضاغطة. وفي حال رفع كل العقوبات المفروضة على إيران، أو الجزء الأكبر منها مقابل العودة إلى الإطار النووي، فما الذي يمكن تقديمه لإيران مقابل ضبط برنامجها الصاروخي، أو وقف مشروعها للهيمنة الإقليمية؟

تقليص أوراق إيران الرابحة

من المنظور الإيراني، لا يزال الملف النووي يحتلّ موقعاً محوريّاً في المسألة الإيرانية بشكل عام؛ فهو أكثر الملفات تأثيراً في رسم ملامح السّياستَيْن الداخلية والخارجية في إيران، وأكثرها تأثيراً على الحالة الاقتصادية في البلاد. بل إنه أصبح أحد أهم الملفات على المستوى الإقليمي، وعلى صعيد الدبلوماسية الدولية. لكنْ من وجهة النظر الخليجية، ينبغي التفريق بين مكانة الملف النووي، وقيمة الاتفاق النووي؛ إذ فَقدَ الاتفاق النووي لعام 2015 الكثير من قيمته الاستراتيجية، ولم يعد قادراً على الاستجابة للتطورات والتحولات القائمة، سواء في داخل إيران أو خارجها.

لقد كان البرنامج النووي الإيراني في السنوات التي سبقت 2015، الملف الأهم في المسألة الإيرانية؛ إذْ كان البرنامج الصاروخي الإيراني يعيش حالة جنينية آنذاك، وكان مشروع التوسُّع الإقليمي الأيديولوجي للحرس الثوري الإيراني والمنطقة مُتعثّراً إلى درجة أجبرته على طلب العون من روسيا. وأما في الداخل الإيراني، فلم يكن الحرس الثوري قد أكمل مشروعة للتحوُّل إلى دولة عميقة. 

شهدت السنوات السبع الماضية صُعود ملفات جديدة؛ البرنامج الصاروخي الإيراني بات أكثر خطورةً، وتنوعاً، ومثله برنامج إيران لصناعة الطائرات المُسيّرة. وبات الهيمنة الأيديولوجية والسياسية الإيرانية حقيقة واقعة في أربعة عواصم عربية على الأقل. وهذه ملفات لا تقلّ أهميةً عن البرنامج النووي بالنسبة لدول المنطقة، بل يمكن عدُّها الأهم من المنظور الخليجي؛ خصوصاً، وأن المعنيّ الأساسي بها، هو الجار الخليجي. وكل ذلك يقتضي إعادة ترتيب الأولويات، ومنح تلك الملفات المستوى نفسه من الأهمية التي يحظى بها الاتفاق النووي.

وفي ظل تنامي التهديد الصاروخي من جانب الحرس الثوري الإيراني، ووكلائة في المنطقة، ضدّ المصالح الخليجية، والإقليمية، والدولية، من الطبيعي أن تتزايد الدعوات لوضع قيود على البرنامج الصاروخي الإيراني، وبرنامج إيران لتطوير الطائرات المسيرة، بما يضمن عدم تهديدها المصالح الجوهرية لدول المنطقة، ضمن برنامج عمل يمكن أن يشرف عليه "مجلس الأمن"، ويقع تحت البند السابع. وقد يكون من المفيد أيضاً مناقشة مقترحات مثل إقامة "منطقة منزوعة الصواريخ" على ضفتي الخليج، في إطار برنامج إقليمي موسع، للحدّ من انتشارها. ومع ذلك، لا بدّ أيضاً من التذكير بضرورة تبني حلول واقعية، وقابلة للتطبيق، لمعالجة الملف الصاروخي الإيراني؛ حيثُ يبدو أن مختلف الأطراف لا تزال في طورِ صياغة تصوُّراتها للحلول الممكنة في هذا الملف. 

وكإجراء استباقيّ، تستطيع المزيد من الخطوات العمليّة، مثل مزيد من المعاهدات الدفاعية المشتركة مع بلدان أخرى، وتطوير قدرات الدفاع الجوي في دول الخليج العربية، أن تُسهم في تقليص الأوراق الإيرانية الرابحة في الملف الصاروخي، وبالتالي تقليل أهميّة التفاوض حوله، وتشجيع طهران على تقديم تنازلات. وفي هذا الإطار يمكن أن تُقرأ محاولات التعاون الدفاعي بين بعض دول الخليج العربية، وكُلٍّ من إسرائيل، وتركيا؛ حيث تتميز الأولى بالدفاعات الجوية المتقدمة، بينما تتميز الثانية بصناعة الطائرات المسيرة.

في المقابل، فقدت إيران حجماً واسعاً من نفوذها الإقليمي خلال العامين الماضيين نتيجة الضائقة المالية، والعوائق المصرفية التي عانتها، ونتيجة تطورات داخل البلدان الحاضنة للميليشيات الموالية لإيران. كما أن برنامج إيران الصاروخي شهد تراجعاً نتيجة الأسباب نفسها. وفي إطار تشديد الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية، قامت واشنطن وأطراف دولية وإقليمية عدة، بتصنيف أو إعادة تصنيف الحرس الثوري الإيراني والعديد من وكلائه الإقليميين على قوائم الإرهاب الدولية والمحلية. 

ما بعد فيينا: "الحوار الإقليمي" بوصفهِ بديلاً مُمكِناً

في حال توصل الأطراف في فيينا إلى صيغة للعودة إلى الإطار النووي، أو صيغة للتهدئة النووية، ستبقى الملفات الخلافية الأخرى مُعلَّقة. وربما يكون البديل الأكثر عملانيةً، وقابليةً للتطبيق هو فكرة "الحوار الإقليمي بإشراف دولي" حول هذه الملفات الخلافية. وفي إطار مثل هذا "الحوار الإقليمي" قد يجد العرب المتضررين من محاولات الهيمنة الإيرانية مخرجاً من التصعيد، وبديلاً عن خيار "الحوار الثنائي" الذي تمتلك فيها طهران اليد العليا، ويفتقر إلى أية ضمانة لالتزام إيران بنتائجه، وبديلاً أيضاً عن خيار "الحوار الدولي مع إيران" الذي لم يراعي المصالح العربية. 

لكنّ نجاح مثل هذه المبادرة الإقليمية يتطلب موقفاً عربياً موحداً، أو على الأقل موقفاً مشتركاً يتضمن الحدّ الأدنى اللازم من التوافُق، بشأن المطلوب خليجياً وعربياً من إيران مقابل الانفتاح الاقتصادي والسياسي العربي والخليجي، الحقيقي والمستدام على الجارة الإيرانية.

ولعلّ النتيجة الأبرز التي يمكن الوصول إليها من مُجمَل التجارب المريرة التي عاشتها المنطقة منذ أحداث ما يسمى بـ"الربيع العربي"، هي أن تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط عبر محاولات الهيمنة الإمبراطورية، والأحادية القائمة حالياً غير ممكن. وأن أيّ استقرارٍ يُمكن تصوُّره في المنطقة، لا بدّ أن يتبع صيغةً توافقيةً؛ ما يعني أن مصالح مختلف القوى العظمى، والثانوية في الإقليم، يمكن أن تتحقق عمليّاً على طاولات التفاوض، لا في ساحات المعارك.

عن "مركز الإمارات للسياسات"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية