سركيس قصارجيان
باتت إيران أكثر قناعة بأن حدودها مع إسرائيل لم تعد في الشرق الأوسط فقط، من خلال حلفائها في سوريا ولبنان وفلسطين، بل انتقل التجاور ليكون مباشراً في شمالها، عبر التمركز الإسرائيلي في أذربيجان، وبخاصة بعد سيطرة الأخيرة على مساحات واسعة من أراضي إقليم كراباخ والمناطق المجاورة له غداة خسارة الأرمن الحرب الأخيرة في عام 2020، ما دفع طهران لكسر صمتها وتقاليد دبلوماسيّتها الساكنة وإطلاق التحذير تلو الآخر ضد المشاريع التي ترى فيها محاولات لتطويقها كبديل من الضغوط الأميركية والغربية في حال انتهاء الملف النووي باتفاق مرضٍ إيرانياً.
إسرائيل على حدود إيران
جاءت إسرائيل في صدارة البلدان التي أقامت باكو علاقات دبلوماسية معها بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي في بداية العقد الأخير من القرن الماضي. واكتسبت هذه العلاقة أهمية كبيرة نتيجة الحاجة الإسرائيلية لموارد أذربيجان الغنية بالطاقة، مقابل حاجة الأخيرة للصناعات العسكرية والتكنولوجية الإسرائيلية، ما أدّى إلى تطور علاقة الشراكة التجارية - العسكرية لتأخذ شكل تحالف متين، فيما فشلت محاولات الحكومة الأرمينية المتأخرة جداً في اقامة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب قبل 4 سنوات ونداءاتها خلال حرب كراباخ الأخيرة في ثني إسرائيل عن إمداد حليفتها بالمسيّرات والصواريخ والسلاح والعتاد.
وإن كانت جملة من السمات الجيوسياسية والجيواستراتيجية والجيواقتصادية أكسبت أذربيجان أهمية بالنسبة الى إسرائيل، فإن عوامل مثل الخوف من إيران والشك تجاه روسيا، والصداقة مع تركيا، والرغبة في الاندماج في الغرب تعتبر أموراً مشتركة عززت من تقارب البلدين.
سعت باكو على الدوام إلى الاستفادة من اللوبي القوي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة للتأثير في قرارات واشنطن في ما يتعلق بنزاع كراباخ وملف حقوق الإنسان، والاستفادة من التطور الإسرائيلي في قطاعات التكنولوجيا والاتصالات والزراعة وغيرها، بالإضافة إلى قطاع الطاقة الحيوي. في المقابل فإن إقامة تل أبيب علاقة وثيقة مع دولة إسلامية شكّلت أولوية تعزيز العلاقات الثنائية في بداية التسعينات، بالإضافة إلى احتواء نفوذ إيران في أذربيجان، والتأثير في السياسات الروسية في القوقاز، وتلبية احتياجاتها من الطاقة، وإصلاح العلاقات المتوتّرة مع تركيا.
ويرى يغيا طاشجيان، الزميل المساعد في معهد عصام فارس للسياسة العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت، في تصريحات إلى "النهار العربي" أن "إدارة ابراهيم رئيسي تنتهج سياسة خارجية متوازنة واستباقية في جنوب القوقاز وتتفاعل مع كل من أرمينيا وأذربيجان، مع الاعتراف بحقيقة أن تركيا لاعب نشط في المنطقة الآن، وفي الوقت نفسه، تدعم إسرائيل أيضاً باكو بنشاط. وليس من المستغرب أن تنتهز إسرائيل الفرصة مع كل تصاعد للتوتر بين طهران وباكو لإزكاء نار هذا التوتر".
ويذكّر طاشجيان بالصورة التي قام سفير إسرائيل في باكو بنشرها على تويتر وهو يقرأ كتاب "حكايات تبريز الغامضة"، مشيراً إلى المدينة الرئيسية في شمال إيران باعتبارها "مدينة أذرية قديمة". لاقت هذه التغريدة تفاعلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي اذ قام العديد من الأذريين و"الخبراء الغربيين" بالتغريد بصور مماثلة، ما دفع بسفير إيران في باكو، عباس الموسوي إلى ابداء رد فعل قاس حيال الموضوع.
ويضيف طاشجيان: "رداً على الموسوي، أعاد العديد من وسائل الإعلام الأذرية نشر مقال نُشر في صحيفة "بريكينغ ديفنس" مفاده أن أذربيجان في حالة وجود "تهديد إيراني" يمكن أن تفتح مجالها الجوي للطائرات الإسرائيلية لدخول الأراضي الإيرانية أو إرسال وحدات خاصة إسرائيلية إلى إيران للقيام بعمليات خاصة".
ويؤكد طاشجيان أن "إسرائيل تقوم بعملية جمع معلومات استخبارية بالقرب من الحدود الإيرانية الأذرية".
وعلى الرغم من الاستياء الإيراني من تنامي العلاقات الأذرية-الإسرائيلية، إلا أن طهران لم ترَ في هذا التحالف تهديداً لأمنها القومي.
ويرى الباحث في كلية الجغرافيا السياسية في الجامعة الحكومية في طهران، د. سالار سيف الدين في تصريحات إلى "النهار العربي" أن "موقف إيران المتساهل حيال العلاقات الأذرية-الإسرائيلية مردّه الى الضمانات التي قدّمتها باكو إلى طهران على الدوام، بعدم تشكيل هذه العلاقات تهديداً لإيران، وعدم كون هذا التحالف موجّهاً ضدها بأي شكل من الأشكال".
ويشرح بقوله إن "خشية إيران تكمن في معرفتها بنهج إسرائيل التي لن تلتزم ضمانات باكو عدم استخدام أراضيها كمنطلق لتهديدات ضد طهران. فإسرائيل لن تأخذ دولة صغيرة كأذربيجان في الاعتبار عندما تقرر التصعيد ضد إيران".
في آب (أغسطس) عام 2019، اتّهم نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي"، وهي المظلة التي تنطوي تحتها القوات الموالية لإيران في العراق، أبو مهدي المهندس، الذي اغتالته الولايات المتحدة في أول أيام عام 2021 برفقة الجنرال الإيراني الأشهر قاسم سليماني، إسرائيل باستهداف مقار عسكرية لـ"الحشد الشعبي "في مناطق مختلفة عبر عملاء أو عمليات نوعية بطائرات حديثة، مؤكداً "امتلاك الحشد معلومات دقيقة ومؤكدة عن اقدام الأميركيين خلال عام 2019 بإدخال 4 طائرات مسيّرة إسرائيلية إلى العراق عبر أذربيجان".
وشهد العام الماضي ذروة التوتّر بين البلدين المتجاورين بحدود يتجاوز طولها الـ 900كلم، حينما أعلنت طهران عن احتمال استخدام إسرائيل مطارات عسكرية أذرية في حال قررت الهجوم عليها، لتطلق مناورة عسكرية ضخمة على حدودها مع أذربيجان، مشبّعة بالرسائل العسكرية بدءاً بتسميتها بـ "فاتحو خيبر" في إشارة إلى تحوّل أذربيجان "قلعة إسرائيلية"، وصولاً إلى نوع القوّات المشاركة وعديدها والعتاد المستخدم في هذه المناورات.
وعلى غرار الاستهداف المفترض لمقار "الحشد الشعبي" في العراق، قامت تل أبيب خلال العام الماضي بـ"عمليات تخريبية" ضد مصانع مرتبطة بالبرنامجين الصاروخي والنووي الإيرانيين قرب طهران، ما دفع بالأخيرة إلى تحذير جارتها الشمالية من أنها لن تتسامح مع التصعيد الإسرائيلي من الأراضي الأذرية.
أذربيجان، المعتمدة على تل أبيب عسكرياً بدرجة كبيرة من خلال صفقات أسلحة ضخمة كانت أكبرها تلك الموقّعة في عام 2012 بقيمة 1.6 مليار دولار، وتبعتها عقود سنوية بقيمة مليار دولار لكل منها على مدى السنوات الماضية، ردّت على التهديدات الإيرانية، بالتقاط رئيسها صورة شخصية له أثناء زيارة قام بها إلى مدينة جبرائيل غداة سيطرة القوات الأذرية عليها نتيجة الانتصار في حرب كراباخ الأخيرة، مع مسيَّرة إسرائيلية من طراز "هاروب"، بابتسامة عريضة "استفزازية".
بدأ الاتفاق العسكري الأذري - الإسرائيلي في نهاية ثمانينات القرن الماضي ممهّداً لتزويد تل أبيب حليفتها باكو بصواريخ ستينغر أرض جو خلال حرب ناغورنو كراباخ الأولى (1988-1994). في زيارته باكو في عام 2012، وصف أفيغدور ليبرمان، وزير خارجية إسرائيل آنذاك، علاقة بلاده بأذربيجان بأنها "أكثر أهمية لإسرائيل من (العلاقة القائمة آنذاك) مع فرنسا".
في المقابل تعتقد طهران أن أولويتها الدبلوماسية في بناء الثقة على المستوى الإقليمي وكسب ثقة الرأي العام الأذري قد يكونان وسائل ناجعة من أجل الحد من النفوذ الإسرائيلي في القوقاز بعامة وأذربيجان الحدودية بخاصة، بالاعتماد على التيار الديني داخل أذربيجان القومية، والذي يرى نفسه قريباً من إيران ورافضاً للوجود الإسرائيلي في البلاد.
ويشرح طاشجيان أن "المفوّض العسكري الإيراني قام أخيراً بزيارة الأراضي المحتلة على حدود 1994 حيث إيران والمجتمع الدولي يعترفان بها أراضي أذرية، في إطار المبادرة الإيرانية لمواجهة الأنشطة الإسرائيلية. تعتقد طهران أنه من خلال القوة الناعمة والاتفاقيات يمكن أن تحد من النفوذ الإسرائيلي في أذربيجان".
في هذا السياق يشير سيف الدين إلى المساعي الأذرية في تحقيق المصالحة التركية-الإسرائيلية، التي زادت من قلق طهران وهواجسها تجاه باكو، ودفعتها إلى اتّخاذ المزيد من التدابير لمواجهة هذا التحالف الآخذ بالتوسّع بعد انضمام أنقرة، الغريم الإقليمي التاريخي لها.
على الرغم من الفالق الواسع بين الجارتين، حيث يتعارض النموذج العلماني لأذربيجان الشيعية بشكل حاد مع النموذج الثوري الإسلامي الشيعي في إيران، وفي حين اختارت أذربيجان إسرائيل وتركيا كأكبر حليفين إقليميين لها، فإن طهران تنظر اليهما كمتنافستين معاديتين تسعيان إلى تأمين موطئ قدم لهما في جنوب القوقاز، شمال إيران بشكل مباشر، إلا أن هذا التناقض بقي محصوراً في التصعيد السياسي والكلامي، من دون أن يتطور إلى صدام عسكري، وهو سيناريو غير مرجّح في المدى القريب.
ويشرح سيف الدين أن "القوقاز وأذربيجان لهما مكانتهما في الثقافة الاستراتيجية الإيرانية، تعود إلى فترة حرب إيران في عهد الشاه مع روسيا القيصرية، والتي اضطرت إيران اثر خسارتها على التنازل عن أراضي القوقاز لروسيا. هذه الخسارة تسببت في انقلابات داخل إيران، وبقيت طازجة في ذاكرة الإيرانيين التاريخية وثقافتهم الاستراتيجية".
الأسبوع الفائت، قام موقعا "كاليبر" و"حقين" الإخباريان الأذريان بنشر تحليلات تدعو الإيرانيين الأذريين في شمال إيران إلى الانفصال، مستشهدين بتقرير نشرته صحيفة "يني شفق" التركية المقرّبة من حكومة "العدالة والتنمية".
وعلى عكس فترة الحرب الأذرية-الأرمينية عام 2020، عندما حرصت طهران على عدم محاولة تغيير الديناميات في جنوب القوقاز، تشعر اليوم، وبشكل خاص في حال نجاح التوصل إلى الاتفاق النووي وحصد نتائجه السياسية والاقتصادية، بقدرة أكبر على العودة إلى الساحة القوقازية بقوة، لملء الفراغ الناتح من فقدان روسيا نفوذها في المنطقة لمصلحة أنقرة لحسابات الحرب الأوكرانية، وهو ما يشكّل مصدر قلق لإيران من إقدام تركيا بمساندة تل أبيب على اللعب بالورقة الطورانية، ليس في شمال إيران فحسب، بل في منطقة آسيا الوسطى بشكل عام.
يختم سيف الدين حديثه لـ "النهار العربي" بالقول: "لذلك عند ورود أي رسالة خاطئة من أذربيجان يستنفر المجتمع الإيراني رافضاً، ويرد عليها بانفعال كبير، إلى درجة تدفع الدولة والحكومة الإيرانية إلى كسر صمتها المعتاد، لأنها جزء من الشخصية الجيوسياسية للشعب الإيراني وذاكرته، وهو من الصعب محوه".
عن "النهار" العربي