لماذا بدا دويستوفسكي أكبر من أوروبا؟

لماذا بدا دويستوفسكي أكبر من أوروبا؟


10/03/2022

يُقال إنّ الجنرال ديغول الذي قاد تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، قد استشار أركان الدولة الفرنسية، بخصوص أفضل الطرق لوضع حد لثورة الطلاب في باريس عام 1968؛ فأشار عليه بعضهم بأن يجري استفتاء حول مدى رغبة الفرنسيين ببقائه في الحكم، وأشار عليه بعضهم الآخر بأن يعتقل المفكر الفرنسي الأبرز جان بول سارتر اعتقاداً منهم بأنّ أفكار سارتر هي التي تدفع الطلاب للتمرّد! وباختصار شديد؛ فقد أجرى ديغول الاستفتاء وكانت نتيجته أنّ 50% من الفرنسيين يرغبون ببقائه و50% من الفرنسيين يرغبون برحيله، فخرج على الناس قائلًا: لقد فهمتكم... وآثر مغادرة كرسي الحكم! وأما بخصوص اعتقال سارتر فقد ردّ على من اقترحوا عليه ذلك قائلاً: من يجرؤ على اعتقال فرنسا؟

 

بعض الأدباء والمفكرين والفنانين يتمتعون بأوزان نوعية حضارية تتجاوز حدود أوطانهم وشعوبهم، لأنهم صاروا مُلكاً للذاكرة البشرية كلها

 

     تلخص إجابة ديغول بخصوص اعتقال سارتر، مستوى الوعي التاريخي الذي بلغته أوروبا على صعيد المفاضلة بين السياسي والثقافي؛ فالسياسي آني وعابر وقد يُنسى، لكن الثقافي خالد ويصعب تجاوزه. ولعل جانباً من هذا الاختبار قد ظهر للعيان في الأيام القليلة الماضية، حين أقدمت جامعة (بيكوكا ميلانو) على تأجيل حلقة دراسية خاصة بالروائي الروسي دوستويفسكي، من باب الحيلولة دون نشوب أي حساسيات سياسية بين الطلاب والمدرسين في ضوء الحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا، وما تبعها من اصطفافات عسكرية وأيديولوجية وسياسية في العالم بوجه عام، وفي أوروبا بوجه خاص.

 

اقرأ أيضاً: هل مات الاستشراق حقاً؟

ورغم أنّ الخطوة التي أقدمت عليها إدارة جامعة بيكوكا ميلانو لا تخلو من بعض الوجاهة، إلّا أنّ هذه الإدارة وجدت نفسها مضطرة إلى التراجع عن قرارها بعد ساعة من إعلانه، في ضوء عاصفة الشجب والاستنكار التي اجتاحت إيطاليا وأوروبا والعالم أجمع، إلى درجة أنّ روسيا لم تحتج إلى بذل أي جهد لشجب هذه الخطوة، وإلى درجة أنّ دويستوفسكي بدا أكبر من روسيا ومن إيطاليا ومن أوروبا كلها؛ لأنه غدا منذ عقود طويلة أيقونة أدبية وفكرية إنسانية، يُسمح للجميع بتأمّلها وتحليلها ويُحظر على الجميع محاصرتها بأي شكل من الأشكال.

 

اقرأ أيضاً: لماذا اختفت دواوين القبائل العربية الثمانون؟

ولعل أطرف ما في النموذج الدويستوفسكي، أنه النموذج الأدبي والفكري الوحيد الذي قدّم نفسه للعالم بوصفه مختبراً معمّقاً في تشريح الألم البشري وسبر أغوار النفس البشرية المعقدة والغامضة، ويكاد يكون النموذج الأدبي والفكري الوحيد الذي يخلو من الوعظ والتنظير والتبشير، رغم أنّ ملايين المعجبين بدويستوفسكي لا يدّخرون وسعاً للتمثّل بعباراته بوصفها أمثالًا وحكمًا، ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي تعجّ يوميّاً بأقواله التي قالها فعلًا وبأقواله التي نسبت إليه ولم يقلها قطعاً.

 

بدا دويستوفسكي أكبر من روسيا ومن إيطاليا ومن أوروبا كلها؛ لأنه غدا منذ عقود طويلة أيقونة أدبية وفكرية إنسانية، يُسمح للجميع بتأمّلها وتحليلها ويُحظر على الجميع محاصرتها بأي شكل من الأشكال

 

لقد قُيّضَ لي قبل عشرين عاماً، أن أُلقي في جامعة (بيكوكا ميلانو) ثلاث محاضرات عن الثقافة العربية على أساتذة وطلبة قسم اللغة العربية فيها، وقد أعجبني جداً اتجاه الجامعة لاطلاع جيل جديد من المستشرقين الإيطاليين الشباب، الذين يجمعون بين إتقان العربية وآدابها ومناهج البحث العلمي والنقد المعاصر ومهارات الاتصال والتواصل التكنولوجي من جهة، كما يجمعون بين إدانة الغزو الأمريكي على العراق وما ترتب عليه من حصار اقتصادي وسياسي وثقافي ورفض توجهات اليمين المتطرّف في إيطاليا وأوروبا من جهة أخرى! فما الذي جدَّ على إدارة الجامعة العريقة حتى تُقدم على تأجيل حلقة دراسية عن أدب دويستوفسكي، رغم أنّها تدرك حق الإدراك، الوزن النوعي الهائل لدويستوفسكي في العالم؟

اقرأ أيضاً: من المسؤول عن اغتيال الرجل العاشر في الوطن العربي؟!

بلغة العلاقات العامّة، مثّلت هذ الخطوة تعبيراً رمزيًّا عن تضامن إدارة الجامعة مع التحالف السياسي والعسكري الأوروبي ضد روسيا التي أعادت عقارب الساعة إلى حرب القرم في القرن التاسع عشر، ولكن هذه الإدارة فاتها الانتباه للجامع الحضاري المشترك بين الأوروبيين، وأعني به الأدب والفن والفكر؛ إذ حين تتعلّق الأمور بتولستوي ودويستوفسكي وغوركي وبوشكين، فإنّ هؤلاء الأعلام ليسوا مجرّد كُتّاب روس، بل هم إرث إبداعي أوروبي مشترك يخص إنجلترا وفرنسا وألمانيا كما يخص روسيا، وبالمثل من ذلك فإنّ هيجل وغوته ونيتشه، ليسوا مجرّد كُتّاب ألمان، بل هم كذلك إرث إبداعي أوروبي يخص روسيا والنمسا وهولندا. وإن كان ثمة فوائد لهذه السابقة في تاريخ الصراعات العسكرية في العالم، فإنها تتمثل في تقديم الثقافي على السياسي دون تردد ومهما بلغ حجم التعبئة الأيديولوجية، كما تتمثل في أنّ بعض الأدباء والمفكرين والفنانين يتمتعون بأوزان نوعية حضارية تتجاوز حدود أوطانهم وشعوبهم، لأنهم صاروا مُلكاً للذاكرة البشرية كلها.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية