كيف ساعدت معلومات رئيس وزراء سوري في قيام إسرائيل؟

كيف ساعدت معلومات رئيس وزراء سوري في قيام إسرائيل؟


16/11/2020

هل جاءت صحيفة "هآرتس" العبرية لتؤكد ما هو مؤكد بخصوص "عمالة" جميل مردم بك، رئيس الحكومة السورية إبان عهد الانتداب الفرنسي، أم أنّ ما كتبته يوم الجمعة الماضي بقلم الباحث الإسرائيلي مائير زمير، يتضمّن معلومات يمكن أن يفاجأ بها القارىء العربي؟

فوجىء مختصون بالتاريخ السوري بتوقيت الحديث عن تاريخ مردم بيك. وقال أحدهم إنّ مردم التقى كغيره من المسؤولين العرب وقتذاك مبعوثين من الوكالة اليهودية

الصحيفة ذكرت أنّ جميل مردم بك، وهو تركي الأصل، كان "عميلاً مزدوجاًاستناداً إلى وثائق الأرشيف الإسرائيلي والأرشيف الفرنسي، حيث قدّم مردم بك معلومات مهمة و"حاسمة" إلى القيادي في الحركة الصهيونية آنذاك دافيد بن غوريون، وساعدت فيما بعد على قيام دولة إسرائيل في عام 1948.

وأكدت الصحيفة الإسرائيلية، حسبما نقلت "مونتي كارلو" أنّ جميل مردم بك تم تجنيده، في صيف عام 1945، من قبل الضابط البريطاني إيلتيد نيكول كلايتون، رئيس MI6 في الشرق الأوسط، ونوري السعيد رئيس الوزراء العراقي. وكان مردم بك حينها ينفذ الخطة البريطانية التي سُميت بمشروع "سورية الكبرى" والرامية إلى توحيد كل من سوريا والعراق والأردن ضمن النفوذ البريطاني، تحت حكم الملك فيصل ابن الشريف حسين، وأن يكون هو رئيس وزراء السلطة الملكية الهاشمية، ولكي تتمكن لندن، بمقتضى هذه الخطة، من طرد الفرنسيين من المنطقة.

بيد أنّ الفرنسيين نجحوا في ابتزاز مردم بك، بعد أن هددوه بتسريب الوثائق التي تفضح تخابره لصالح قيام دولة إسرائيل، مما دفعه إلى الاستقالة من منصبه في آب (أغسطس) من عام 1945، وشرع في التخابر مع الفرنسيين من دون علم البريطانيين.

العمالة الاستخباراتية المزدوجة

وهكذا بدأ مردم عمالته الاستخباراتية المزدوجة. وأكدت صحيفة "هآرتس" أنه قدم معلومات شديدة الأهمية لباريس عن خطط الجيش البريطاني وأجهزة المخابرات في الشرق الأوسط.

اقرأ أيضاً: محاولات حثيثة لجعل القدس "قلب دولة إسرائيل والشعب اليهودي"

كما أدخل جهاز الاستخبارات الفرنسية عملاء الحركة الصهيونية على الخط وأجهزة المخابرات في الشرق الأوسط ، تنفيذاً لمصالح مشتركة بين الطرفين، في مواجهة النفوذ البريطاني. ولهذا الغرض، كُلف إلياهو ساسون، اليهودي من أصل سوري، من طرف دافيد بن غوريون، بالتعاون مع باريس للاتصال بجميل مردم بك.

هذه المعلومات التي ذكرها زمير، ستصدر في كتاب في تل أبيب قريباً، وهو ما جعل مؤرخين سوريين في دمشق يبدون استغرابهم من توقيت صدور الكتاب، كما أفادت صحيفة "الشرق الأوسط".

اقرأ أيضاً: بالفيديو.. نشطاء يذكرون بعلاقة بايدن بإسرائيل... ماذا قال؟

المؤرخ البروفسور مئير زمير، المتخصص في شؤون المخابرات وتاريخ سوريا، اشتهر بنظرية جديدة لبحث العلاقات الدولية من خلال كشف دور المخابرات. ومنذ عام 2010 وهو ينشر أبحاثاً تقول إنّ المخابرات الفرنسية نجحت ابتداءً من شهر تموز (يوليو) عام 1944 في إدخال جواسيس لهم إلى الحكومة السورية، وإنّ بريطانيا نجحت في تجنيد عدد كبير من قادة الحركة القومية السورية واللبنانية للتعاون معها، منذ عام 1941 تحت يافطة الاستعمار الفرنسي، معظمهم، يقول زمير، تم تخليد ذكراهم في الشام وأُطلقت أسماؤهم على الكثير من الميادين والساحات والشوارع، حتى اليوم.

وذكر منهم شكري القوتلي الذي أصبح رئيساً للجمهورية، وجميل مردم الذي شغل منصب رئيس الوزراء مرتين بين نهاية عام 1936 ومطلع عام 1939 ثم من نهاية 1946 حتى نهاية عام 1948، ورياض الصلح الذي أصبح رئيساً لوزراء لبنان. وقد تم ذلك بعدة أساليب، بينها الرِّشى المالية بمبالغ طائلة أو الابتزاز. ويقول إنّ موافقتهم على هذا التعاون جاءت لرهانهم على انتصار الغرب في الحرب العالمية الثانية، وقدرة بريطانيا على دعمهم بشكل شخصي للوصول إلى الحكم.

ماذا كان الشرط البريطاني؟

ويقول زمير إنّ "الشرط البريطاني لدعم هؤلاء هو أن يوافقوا على أن تكون بلادهم تحت الهيمنة البريطانية والحكم الهاشمي، ولو بشكل سرِّي، وترفض الانتداب الفرنسي. بريطانيا أوفت بوعدها ودفعت إلى انتخابهم ولكنهم نكثوا الوعد معها وتراجعوا عن موافقتهم على هذه الهيمنة". ويرى أنّ القضية الفلسطينية كانت في ذلك الوقت قضية ثانوية، وتغلب عليها من حيث الاهتمام التنافس العربي الداخلي من جهة والتنافس البريطاني الفرنسي من جهة أخرى.

اقرأ أيضاً: ماذا تريد قطر مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل؟

لكن الكتاب يركز، في عدة فصول منه، على دخول الحركة الصهيونية على هذا الخط، منذ  عام 1945. ويتضح أنّ جميل مردم كان قد وقع أيضاً في حبائل الفرنسيين، عندما اكتشفوا أنه متعاون مع بريطانيا فهددوه بنشر أمر تعاونه. وقد طلبوا منه التعاون مع الحركة الصهيونية، على اعتبار أنه يمس ببريطانيا.

اقرأ أيضاً: هذا ما جرى خلال الاجتماع اللبناني ـ الإسرائيلي لترسيم الحدود

ويقول زمير في كتابه، الذي سيصدر بالعبرية العام المقبل، عن دور رئيس الشعبة العربية في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، إلياهو ساسون في الحصول على معلومات غاية في الأهمية من مردم، حيث يتضح أنهما متعارفان من زمان، والتقيا في عام 1937 عندما كان الأخير يتولى رئاسة الحكومة. فقد كان ساسون يُعرف في دمشق باسم إلياس ساسون، وبرز في العمل السياسي هناك على أنه زعيم في الحركة العربية الوطنية، وحارب ضد سياسة التتريك التي فرضتها الدولة العثمانية على العرب. وقد أصبحت علاقاتهما وثيقة، والتقيا عدة مرات، بينها عندما جاء مردم إلى القدس على رأس وفد من الجامعة العربية.

ويشير الكتاب، كما تنقل "الشرق الأوسط" إلى أنّ بن غوريون التقى مع ساسون، ودوّن في مذكراته تفاصيل حول مضمون محادثات ساسون مع مردم. وهذه كانت واحدة من المرات القليلة التي تسلط الضوء على مردم كمصدر استخباري لبن غوريون.

أهم المعلومات التي أوصلها مردم لبن غوريون

وجاء في الكتاب أن من بين أهم المعلومات التي أوصلها مردم لبن غوريون، عن طريق ساسون، أنّ عليه ألا يخاف من حرب يشنها العرب. وقال: "في يوليو 1945، كان بن غوريون قد أمر قواته بالاستعداد لمواجهة هجوم من الجيوش العربية، حالما يعلن عن إقامة دولة إسرائيل، لكن المعلومات التي نقلها مردم إليه تبيّن أنّ (التهديد المباشر) لم يكن من جانب الجيوش العربية، وإنما يكمن في خطة ضباط الجيش والمخابرات البريطانييّن في الشرق الأوسط، وأنّ بريطانيا تنوي منع قيام إسرائيل والإعلان عن ميليشيا (الهاغانا) الصهيونية بأنها تنظيم إرهابي ونزع سلاحه، وأيضاً من خلال تطبيق خطة (سوريا الكبرى)، التي بموجبها سيقام كيان يهودي في فلسطين ولكن ليس دولة مستقلة".

اقرأ أيضاً: البرهان في القاهرة... ما علاقة إسرائيل وإثيوبيا؟

ونقل مردم بيك إلى الوكالة اليهودية أنّ القادة العرب قرروا الوقوف إلى جانب بريطانيا في حال نشوب حرب، تخوفاً من التغلغل السوفييتي، وأنه خلال المداولات في جامعة الدول العربية، جرى التعبير عن التخوف من استمرار الهجرة اليهودية إلى فلسطين، الأمر الذي سيمد "الهاغانا" بثمانين ألف جندي. وأضاف مردم أنّ الدول العربية "لن تتمكن أبداً من تحصيلكم بالتأهيل والتنظيم، حتى لو ساعدَنا الإنجليز".

اقرأ أيضاً: هل يأتي قرار تطبيع العراق مع إسرائيل من النجف؟

ويقول الكتاب أيضاً إنّ أحداثاً خلال عام 1946 أثبتت أنّ المعلومات التي نقلها مردم إلى الوكالة اليهودية حول الخطط البريطانية بشأن فلسطين كانت دقيقة. فقد نقل مردم بيك إلى الوكالة اليهودية معلومات من مؤتمرٍ بادر البريطانيون إلى عقده في مصر، في مايو (أيار)، وتقرر فيه لأول مرة أنّ الصهيونية تشكِّل خطراً على الدول العربية وليس على الفلسطينيين فقط. كذلك تبين أنّ ساسون كان حاضراً في مؤتمر آخر عقدته جامعة الدول العربية قرب دمشق، في حزيران (يونيو)، واتخذ هذا المؤتمر قراراً سرياً حول احتمال مواجهة عسكرية مع الحركة الصهيونية، وأنه في هذه الحالة على الدول العربية مساعدة أشقائهم الفلسطينيين بالمال والسلاح والقوة العسكرية. وتبين أنّ المعلومات التي نقلها مردم إلى الوكالة اليهودية حول خطط بريطانيا تجاه "الهاغانا" كانت دقيقة أيضاً. فقد نفّذت القوات البريطانية في فلسطين، في ذلك الشهر، عمليات ضد قادة الحركة الصهيونية، وأعلنت حظر تجول في العديد من المدن، واعتُقل خلالها أحد زعمائها، موشيه شاريت. وأفلت ابن غوريون من الاعتقال بسبب وجوده في باريس.
وجاء عن دور الرئيس السوري شكري القوتلي، أيضاً أنه قدم خدمات للبريطانيين. وفي كانون الأول (ديسمبر) عام 1946، أقال بطلب منهم رئيس حكومته سعد الله الجابري، وعيّن مكانه جميل مردم بيك.

ماذا قال مختصون بالتاريخ السوري؟

وفوجئ مختصون سوريون بالتاريخ السوري بتوقيت الحديث عن تاريخ مردم بيك. وقال أحدهم إنّ جميل مردم بيك التقى كغيره من المسؤولين العرب وقتذاك مبعوثين من الوكالة اليهودية، موضحاً: "التقى وفد من الوكالة مع الكتلة الوطنية لإقناعهم بدعم الاستقلال مقابل تقديم دعم لليهود. وقتذاك كان جميل مردم بيك في باريس في 1936، حيث التقى وفداً من الوكالة وحاول استغلال نفوذ الوكالة اليهودية في فرنسا، وخصوصاً مع رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم الذي كان يهودياً، لدعم استقلال سوريا وجلاء فرنسا".

الباحث الإسرائيلي مائير زمير: من بين أهم المعلومات التي أوصلها مردم لبن غوريون، عن طريق ساسون، أنّ عليه ألا يخاف من حرب يشنها العرب


وقال باحث آخر: "النقطة الوحيدة غير المفهومة: لماذا اعتزل العمل السياسي لدى قيام دولة إسرائيل في 1948 مع أنّ عمره كان 54 عاماً؟". وزاد: "باعتبار أنه كان متعلماً ومثقفاً، أدرك أنّ المنطقة ذاهبة إلى الخراب مع قدوم العسكر إلى الحكم. قرر الذهاب إلى مصر وعاش فيها ورفض عروضاً عدة للعودة للعمل السياسي، بما في ذلك الترشح للرئاسة مع شكري القوتلي وخالد العظم في عام 1955، إلى أن توفي في القاهرة".

بيْد أن معلومات ذكرت أنّ سبب اعتزال مردم السياسي يعود إلى الاحتجاجات الشعبية السورية ضده عام 1946، حيث أسرّ لسياسي سوري بأنه يفكر باعتزال الحياة السياسية والإقامة في مصر "لأنه بلد مستقر وفيه مجال للعمل والربح!" حسب قوله. وقد عرض عليه السفير البريطاني في دمشق وضع حماية بريطانية عليه، إلا أنه اعتبر هذه الخطوة ستزيد من الشبهات حوله .

ويروي الكاتب محمد الوليدي بأنّ الجماهير الغاضبة في دمشق كانت تشتعل غضباً لدور مردم "الفاضح فيما يجري من خيانات في فلسطين وما تعرّض له الجيش السوري أثناء الحرب، وكانت جموع السوريين تردد قصيدة عمر أبو ريشة الغاضبة فيه في كل مكان، حتى إنّ مردم في أحد المهرجانات في مدينة حماة التي حضرها ألقيت القصيدة في وجهه، مما أضطره للهروب من الباب الخلفي لمدرج مدينة حماة".

تقول قصيدة أبو ريشة:

أمتي هل لك بين الأمـمِ، منبـر للسيـف أو للقلـمِ

كيف أغضيتِ على الذل ولم، تنفضي عنك غبـار التهـم

ودعـي القادة في أهوائها، تتفانى في خسيس المغنـم

رب وامعتصمـاه انطلقت، ملء أفــواه الصبايا اليتّم

لامست أسماعــها لكنها، لم تلامس نخوة المعتـصـم

أمتــي كم صنـم مجدته، لم يكن يحمل طهر الصنــم

لا يلام الذئـب في عدوانه، إن يك الراعــي عدوَ الغنـم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما، كان في الحكم عبيد الدرهــم

إنّ أرحام البغـــايا لم تلد، مجرمــاً مثل هذا المجــرم

كيف ترجو أمـةٌ عزتــها، وبها مثلُ (جميـل المــردم)؟



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية