كيف حوّل السحرة الأمريكيون العراقَ إلى بلد لا يُساس؟

كيف حوّل السحرة الأمريكيون العراقَ إلى بلد لا يُساس؟

كيف حوّل السحرة الأمريكيون العراقَ إلى بلد لا يُساس؟


كاتب ومترجم جزائري
27/03/2023

ترجمة: مدني قصري

التاريخ يعيد نفسه. في كل مرّة يؤدي التدخل الأجنبي إلى تفاقم المشاكل التي من المفترض أن يحلها، ويضيف معاناة وآلاماً جديدة للسكان الذين كان من المفترض أن يخفّفها. في كل مرّة تتناقض الأحداث مع الوعود الجميلة بغد سعيد، ويتراجع أفق نظام دولي أكثر عدلاً كلما أصبحت الحرب هي الطريقة المهيمنة لحل الأزمات. وفي كل مرة يدفعنا البعض بعد إصابتهم بفقدان الذاكرة إلى تشغيل حلقة الأزمات التالية.

الأمثلة عديدة. في ليبيا كان الأمر يتعلق بالتخلص من طاغية مصاب بجنون العظمة ودكتاتور دموي. وكانت النتيجة أن انقسمت البلاد وانهارت الدولة وانتشرت انبثاثاتُ سقوطها في جميع أنحاء منطقة الساحل. في أفغانستان انسحبت الولايات المتحدة بشكل بائس بعد عشرين عاماً، تاركة بلداً في حالة خراب، وتركت النساء الأفغانيات اللواتي كانت تعد بتحريرهنّ، وطالبان، هؤلاء أنفسهم الذين أرادت واشنطن معاقبتهم على هجمات 11 أيلول ( سبتمبر) 2001 يعودون إلى السلطة.

تواصل الولايات المتحدة السيطرة على عائدات النفط العراقي المودعة في خزائن البنك المركزي

في سباق (منافسة) الكوارث لا شك أنّ حرب عام 2003 ضد العراق تستحق الميدالية الذهبية. لقد وعد الرئيس العراقي صدام حسين في 16 كانون الثاني (يناير) 2003 بأنها ستكون "أم كل المعارك" بينما غزت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفاؤهما "أوروبا الجديدة" بلاده. أسابيع قليلة كانت كافية للتخلص من ضجيج الريّس، لكن مرت سنوات عديدة قبل أن تجد واشنطن مخرجاً. اختلطت المغامرة بجنون أحلام المحافظين الجدد حول الرئيس جورج دبليو بوش الذي كان يتطلع إلى إعادة صياغة الشرق الأوسط، وشهوات شركات النفط الكبرى التي رأت أنّ النفط العراقي تم تأميمه في عام 1972. 

المغامرة المجنونة

من خلال صوت وزير خارجيتها في ذلك الوقت، دومينيك دو فيلبان، تجرّأت فرنسا  التي أشاد بها جزء كبير من المتفرجين في هذه الدورة التاريخية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتحدثت علانية ضد ما أسمته بـالمغامرة المجنونة. هذا التحدي من قِبل باريس إزاء الغطرسة الأمريكية كلفها أزمة غير مسبوقة مع واشنطن وحملة فرنكوفونية على مستوى لا مثيل له. لكنّ هذه الشجاعة الفرنسية لم تدم طويلا. خلافاً لروح ونصّ ميثاق الأمم المتحدة أيّد مجلس الأمن - وبالتالي فرنسا - الغزوَ الأمريكي وقرار تكليف المعتدِي بمهمّة قيادة العراق. وهكذا أضافت الولايات المتحدة إلى عملها الإجرامي وغير القانوني عدم كفاءة مرتبطة بأيديولوجية المحافظين الجدد وجهلهم بالوضع على الأرض.

من خلال تكريس طائفية سياسية تتقاسم السلطة بين السنة والشيعة والأكراد فقد حوّل السحرة الأمريكيون العراقَ إلى بلد لا يُساس. تواصل واشنطن السيطرة على عائدات النفط العراقي

من الصعب تحديد حصيلة هذه المغامرة. لن نعرف أبدًا العدد الدقيق للقتلى العراقيين: مئات الآلاف عند البعض  ومليون وفقاً لآخرين. يضاف إليهم عدد لا يحصى من اللاجئين، وتدمير البنية التحتية، وانهيار نظام التعليم. فمن خلال تكريس طائفية سياسية تتقاسم السلطة بين السنة والشيعة والأكراد فقد حوّل السحرة الأمريكيون العراقَ إلى بلد لا يُساس. وحتى اليوم تواصل الولايات المتحدة السيطرة على عائدات النفط العراقي المودعة في خزائن البنك المركزي. أمّا العواقب الجيوسياسية فهي بعيدة كل البعد عن أن تتوافق مع أحلام المحافظين الجدد الذين تنبأوا بظهور عراق ديمقراطي متحالف بقوة مع إسرائيل.

لم يتم محاكمة المسؤولين

ومن المفارقات أنّ هذه الحرب سمحت لإيران، العدوّ الأول للولايات المتحدة، بأن تصبح جزءًا لا يتجزأ من قلب النظام السياسي والميليشياوي العراقي. وقد تمخض عن ولادة تنظيم داعش، كما تمخضت الحرب الأمريكية في أفغانستان عن ولادة تنظيم القاعدة.

 لن نعرف أبدًا العدد الدقيق للقتلى العراقيين

عن كل هذه الجرائم - جرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب - لن يتم محاكمة أي مسؤول غربي. لن يتم جر جورج دبليو بوش ولا توني بلير ولا سيلفيو برلسكوني ولا خوسيه ماريا أثنار أمام محكمة دولية مثل زعماء أفارقة مبتذلين.

عن كل هذه الجرائم لن يتم جر جورج دبليو بوش ولا توني بلير ولا سيلفيو برلسكوني ولا خوسيه ماريا أثنار أمام محكمة دولية مثل زعماء أفارقة مبتذلين

وبسرعة كبيرة تم شطب وتجاوز هذا الصراع، وهو "خطأ" بالتأكيد، لكننا لن نتعلم منه أي درس: ألا يجري الحديث في واشنطن وتل أبيب عن غزو جديد ضد إيران؟ فقدان الذاكرة هذا يتيح لنا فهْم شكوك شعوب وحكومات "الجنوب العالمي" إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا. ليس لأنها توافق على ذلك - فقد أدانته معظمُها - لكنها تظل متشككة ومرتابة إزاء الخطب الغربية، المستاءة من العدوان الروسي، واحتلاله لإقليم بالقوة، ومن جرائم جيشه. قناعة هذه الشعوب والحكومات ثابتة : أنّ الغربيين لا يدافعون عن القانون الدولي والسلام والديمقراطية في أوكرانيا، بل يدافعون عن مصالحهم الخاصة. وهم يرون دليلاً آخر على ذلك في رفض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اتخاذ أي إجراء لإنهاء احتلال فلسطين المستمر منذ عقود.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

orientxxi.info



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية