
كان حلم آيات عبد الدايم، وهي في سن صغيرة، أن تذهب إلى فعالية ثقافية أو فنية في قريتها (جروان)، التابعة لمركز الباجور بالمنوفية، وعندما زارت مكتبة الجامعة، بدأ خيالها الكبير يبني أرففاً خشبية، ويعلقهاعلى حائط، ويرصّ فوقها كتباً ملونة أنيقة، تنتظر يد طفلة أو طفل من قريتها ليطالعها، لكنّه كان مجرد حلم رومانسي لفتاة تحب القراءة والفن.
فوجئت آيات أنّ سكان قريتها يشاركونها الحلم نفسه، بل اقترحوا عليها تكوين فرقة موسيقية، وفرقة فنية للرسم، وإنشاء مسرح للأطفال، على الرغم من وجود تيار ديني قوي في القرية، وشجعها ذلك أكثر على البدء في إنشاء مركز جروان للثقافة والفنون
في صيف العام 2018 رأت آيات إعلاناً عن دبلومة للتنمية الثقافية، في كلية الآداب بجامعة القاهرة؛ بهدف التغلب على مشكلات نقص الكادر الثقافي المؤهل، حينها بدأت تفكر، ربما للمرة الأولى، أنّها قد تستطيع إخراج تلك الصور من أروقة خيالها، وتضع لها إطاراً نظرياً وإدارياً، وبالفعل حين بدأت الدراسة كتبت عدداً من المشاريع كانت كلها متعلقة بالريف أو بقريتها، وتجاوز سؤالها عن عدم تواجد الريف المصري على الخارطة الثقافية حدود عقلها الحالم، وبدأت المشاركة في عدد من الورش والفعاليات الثقافية، كما قررت أن تقوم باستبيان في قريتها حول افتتاح مكتبة، وبدأت بالفعل في كتابة مشروع التخرج، وكان محوره قريتها، ومع كل مادة أو مقرر دراسي جديد؛ كان الحلم يكبر في هدوء.
التغلب على مركزية الثقافة
تقول آيات: إنّ 57% من سكان مصر يسكنون الريف، بوجهيه القبلي والبحري، وذلك طبقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، في الأرقام الواردة في العام 2019، ثمّ تتساءل: كم عدد المشاريع الثقافية والفنية الموجّهة لهؤلاء؟
وتضيف، كان التباين الواضح في تقديم الخدمات الثقافية بين الريف والحضر دافعاً لأجلس مع عدد من الأفراد في قريتي، حيث طرحت حلمي في البداية على استحياء، وتساءلت: ماذا لو حاولت أن أفتتح مكتبة لأطفال القرية؟ هل ترغبون في ذلك؟
فوجئت آيات أنّ سكان قريتها يشاركونها الحلم نفسه، بل اقترحوا عليها تكوين فرقة موسيقية، وفرقة فنية للرسم، وإنشاء مسرح للأطفال، على الرغم من وجود تيار ديني قوي في القرية، وشجعها ذلك أكثر على البدء في إنشاء مركز جروان للثقافة والفنون.
توجهت آيات إلى جمعية تنمية المجتمع المحلي بقريتها، وطلبت غرفة صغيرة خالية بالمركز، وعرضت أن تقوم هي، بجهودها الذاتية، بإنشاء المكتبة من مدخراتها الصغيرة، مع بعض التبرعات العينية من دهانات وأرفف، ولأول مرة كانت آيات قادرة على أن تلمس تلك الأرفف التي بنتها داخل جدران عقلها، وبدأت تضيف إليها رسومات هؤلاء الصغار المعلقة على جدران الغرفة.
تمّ افتتاح المركز بشكل رسمي في 23 تمّوز (يوليو) 2023، وحضر الافتتاح أكثر من (400) شخص، وشاركت في الافتتاح "قافلة عيالنا"، التابعة للمركز القومي لثقافة الطفل.
تبرعات وتطوعات
تذكر آيات جيداً الدعم الذي تلقته، سواء من وزارة الثقافة التي قدمت للمركز حوالي (1400) كتاب، أو من الأفراد والشخصيات العامة، الذين قاموا بالتبرع بكتب من مكتباتهم الشخصية؛ مثل الدكتور (عماد أبو غازي)، الذي شغل منصب وزير الثقافة في العام 2011، والكاتب (عمر طاهر)، والباحثة الاقتصادية (سلوى العنتري)، والباحث الاقتصادي (محمد نور الدين)، وتلقى المركز كتباً من مكتبة الكتبجية، ودار مرح، وبيت الحكمة للاستثمارات الثقافية، كما تبرعت دار حياة بنحو (200) نسخة من كتاب "فلنصنع السعادة"؛ الذي أبهر الأطفال؛ بسبب الإخراج الفني المميز، كذلك تبرع العديد من الأفراد بألعاب وأدوات مكتبية وفنية للمركز، وحتى أطفال القرية قاموا بالتبرع للمركز ببعض الأقلام والأدوات الفنية.
تمّ افتتاح مركز جروان بشكل رسمي في 23 تمّوز 2023، وحضر الافتتاح أكثر من (400) شخص، وشاركت في الافتتاح "قافلة عيالنا"، التابعة للمركز القومي لثقافة الطفل
وساعد في افتتاح المركز المتطوعون الذين تحمسوا للفكرة؛ ومنهم طلبة بكليات الفنون، يسكنون القرية نفسها أو المركز، وقدّموا عدداً من الورش الفنية للرسم والتلوين والخط العربي، حتى أنّه تمّ عقد ورشة موسيقية في تموز (يوليو) الماضي، بمشاركة (6) فتيات، وكذلك تمّ تقديم عرض مسرحي للأطفال بعنوان: "ملكة جمال الخضروات"، وشارك فيه عدد من أطفال القرية، وحضر (150) فرداً لمشاهدة العرض، حتى أطباء منظمة "صحة أطفالنا" قاموا بتقديم أنشطة للتوعية بأهمية تنظيف الأسنان، وتمّ كذلك تنظيم أنشطة للتوعية ضدّ التحرش.
تحولات الحلم ونموه
بعد افتتاح المركز بفترة وجيزة، سعت آيات تجاه تحويله من مبادرة إلى مؤسسة؛ لتسهيل المعاملات الإدارية، ولتنظيم أنشطة وفعاليات أكثر في إطار قانوني، وكان وراء هذا التحول رصد لواقع آخر في قريتها الصغيرة، فعدد من الأمهات والنساء الشابات يحضرن إلى المركز للسؤال عن فرصة عمل، جعل هذا آيات تفكر في طريقة لتمكينهن اقتصادياً، وجاءت بفكرة مشروع "مصنع الابتكار"، وهو برنامج تمكين اقتصادي للسيدات، يعيد إحياء حرفة "نول الكليم"، التي أوشكت على الانقراض من محافظة المنوفية، فأصبح المركز يستهدف النساء إلى جانب البرنامج التثقيفي التوعوي الذي يمارسه مع الأطفال.
رسالة من آيات
على الرغم من تحقيق آيات لحلمها، إلّا أنّ الكثير من القرى في احتياج شديد لمشروع مماثل، رأت آيات بعينيها طفلة تتحول من الخجل والانطوائية الشديدين لتشارك في عرض مسرحي بابتسامة واسعة، ورأت طفلة أخرى تقوم بصنع مكتبة مصغرة في مدخل منزلها، وتطلق عليها اسم "مكتبة حب الوطن"، وقامت بتعليق ورقة تطلب متطوعين لمساعدتها، وكذلك تمّ تسجيل أكثر من (6) آلاف استعارة للكتب. وتقول آيات: "لو خلقت مجرد ذكرى سعيدة في وجدان الأطفال، فهذا يستحق".
وترجو آيات من الناشطين والمهتمين بالثقافة والفنون التوجه إلى خارج القاهرة والإسكندرية، حيث إنّ 85% من الاستهلاك الثقافي يقع فيهما، بينما هناك العديد من التجارب الجادة والصغيرة التي تستحق المجهود والرعاية في القرى والأقاليم.