كيف تصاعد التأثير التركي في البلدان العربية؟

كيف تصاعد التأثير التركي في البلدان العربية؟


كاتب ومترجم جزائري
26/09/2018

ترجمة: مدني قصري


تميّزت العلاقات بين تركيا والعالم العربي بتاريخ طويل من الهيمنة والجذب والنفور، فبعد التحرّر من نير العثمانيين؛ بدأت الدول العربية تبتعد عن إرث تلك الإمبراطورية، وفعل الأتراك الشيء نفسه مع الإرث الحضاري المشترك، بينهم وبين البلدان العربية، وهكذا حُفر خندق بين هاتين الثقافتين.

وقد ساهمت الأيديولوجيات المهيمنة في القرن العشرين على جانبي حدود الأناضول، في تكريس وتعميق هذا الاختلاف.

وفي أعقاب الاضطرابات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتحوّل الأيديولوجي في رأس الجمهورية الكمالية؛ فُتحت فجوة في سور انعدام الثقة هذا بين الجانبين، وقد تمّ استغلال نافذة الرميِ هذه بمهارة من قبل تركيا، لشنّ هجوم قوة ناعمة غير مسبوق، سرعان ما عكس الاتجاه تماماً؛ فهذه الحملة التي جعلت منها "معبوداً" جديداً في عيون الجماهير العربية، والتي انتشرت على عدة جبهات، ما لبثت أن أثارت جدلاً واسعاً؛ فقد تمّ شجبها باعتبارها عودة للتوسّع العثماني، مع أجندة أيديولوجية لا تستسيغها الطبقات الحاكمة في العديد من البلدان المستهدفة.

لمحة تاريخية

عام 1258؛ سقطت بغداد، عاصمة الإمبراطورية العباسية، في أيدي القوات المغولية، بعد عدة عقود، وُلدت الإمبراطورية العثمانية، فكان ذلك مقدّمة لانتقال مركز ثقل الإسلام من الأراضي العربية إلى الأناضول التركية، تألّفت هذه الإمبراطورية من فسيفساء من الشعوب والثقافات، التي كان إسمنتها الدين، لا الانتماء العرقي.

اقرأ أيضاً: كيف سقط عكاز الحزب الحاكم في تركيا؟!

ومع ذلك؛ فإنّ تأثير القومية في القرن التاسع عشر (خاصةً في عموم ألمانيا) على النخب العثمانية، أدّى إلى ظهور أيديولوجية الطورانية، أو (البانطورانية (1)Turanism) أو (pan-Turanianism)؛ التي تثمّن قيمَ الأصول التركية على حساب قيم الشعوب الأخرى.

كانت هذه الأيديولوجية بمثابة ردّ فعل لظاهرة العروبة، التي أثارت تمرّداً أداره البريطانيون، للمساعدة بنشاط في تفكيك الخلافة العثمانية، وكانت العلاقات بين الجمهورية الكمالية، التي خلفت الإمبراطورية، والدول العربية، مشوبةً بعدم الثقة، أو حتى بالكراهية، وكان لا بدّ من انتظار حلول الألفية الجديدة لرؤية تحوّل كبير في الطبقة التركية الحاكمة، مع وصول حزب العدالة والتنمية، حزب ذي حساسية إسلامية، ومنذ عقد السبعينيات، انحسر الاتجاه الشعبي في العالم العربي نحو الإسلاموية، إلى درجة أنها أصبحت أغلبية في النهاية.

إسلام تركيا في قلب الربيع العربي

لقد وسّع تطور رقعة الشطرنج الجيوسياسية في الشرق الأوسط التغيير في الميزان القوى، فكان غزو العراق من قبل الولايات المتحدة فرصة لتحقيق المشروع الذي كان يحلم به آية الله الخميني، منذ العام 1979، وهو تصدير الثورة الإسلامية.

وهو الأفق الذي أثار خوفَ الجماهير العربية من حدوث تسونامي شيعي، يرى في تركيا السلطة الوحيدة للإسلام السنّي (فرع الإسلام الغالب في العالم العربي)، القادرة على وضع نفسها كقوة موازنة إستراتيجية.

وتتويجاً لتحقيق العوامل الموضوعية لانتقال تركيا إلى الفعل، حدث "الربيع العربي"، وفي الواقع، أدى ردّ الفعل هذا إلى تغيير المشهد السياسي العربي، عن طريق دفع منظمات وأحزاب إسلامية إلى السلطة في العديد من الدول العربية.

تركيا تنتقل إلى مرحلة الفعل

استفادت تركيا، التي صارت ظروف التوسّع فيها ناضجة (نمو اقتصادي، اقتصاد راكض، قوة سياسية، ...إلخ) من هذه الفرصة المتاحة، لإطلاق واحدة من أعظم الهجمات في العقود الأخيرة، وكان هدفها استعادة قلوب وعقول الشعوب العربية، وقد تم تنفيذ هذه الحملة على عدة جبهات.

المنتجات التركية تغزو الأسواق العربية

الجبهة الاقتصادية

بعد تعرضها لأخطر أزمة مالية في تاريخها الحديث، عام 2000، شرعت تركيا في برنامج للإصلاحات الاقتصادية، وقد أدّى الاستقرار السياسي والتدابير الاستباقية إلى إقلاع الاقتصاد التركي، الذي عرف، عام 2004، أسرع وتيرة في النموّ في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وقد فضّلت حكومة أردوغان رجال الأعمال المستقلين، الذين قاوموا الأزمة ("لوبي الموصياد" (lobby Müsiad)؛ الذي ضمّ ما يقرب من 10000 شركة)، على حساب كبار اللاعبين التاريخيين في الاقتصاد التركي؛ حيث شهدت الشركات التركية توسعاً باهراً، ما جعل اقتصاد هذا البلد يصل إلى المرتبة العالمية الخامسة عشر في الاقتصاد العالمي، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، عام 2010، والثالثة عشر  عام 2017.

اقرأ أيضاً: كيف تدير روسيا وتركيا معركة إدلب بمعزل عن "الأسد"؟

هذا الوضع الاقتصادي سمح لتركيا الانطلاق في غزو الأسواق الدولية. إنّ القرب الجغرافي والتراث المشترك الذي تمّ إنكاره في الماضي، وكذلك التفاوت في التنمية، جعل البلدان العربية من بين الأسواق الرئيسة المستهدفة، والعلاقة الجيدة بين الجودة والسعر لسلعهم، والخبرة المؤكدة على مستوى قطاع البناء، سمحت للمنتجات التركية بغزو الأسواق العربية، فقد استحوذ البناة على أسواق البنية التحتية، وأعطى هذا الاختراق التجاري لتركيا للسكان المحليين صورة لبلد متطور اقتصادياً وصناعياً، وهو ما أثار مقارنات لا مفرّ منها مع اقتصاداتها الوطنية، التي تجاوزها، إلى حدّ كبير، بلد من المنطقة نفسها، ذو أوجه تشابه ثقافية واجتماعية.

الجبهة السياسية الدينية

كان اندلاع الثورات المعروفة باسم "الربيع العربي" انقلاباً كبيراً في المشهد الجيواستراتيجي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن شاركت جميع مكوّنات المشهد السياسي والاجتماعي المتضرر من الأنظمة في الانتفاضات، فإنّ الحركة الأكثر تنظيماً وانضباطاً، والأفضل تمويلاً، والأكثر استقطاباً للكتلة الديموغرافية التي جنت ثمار هذه الثورات؛ هي الأحزاب الإسلامية، فبعد عقود من الحظر والقمع والعمل السرّي، أصبحت الأحزاب الإسلامية مستعدّة لملءِ المسرح السياسي الفارغ، أما المرجعية الأيديولوجية لهذه الأحزاب؛ فهي نفسها مرجعيات حزب العدالة والتنمية التركي (المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين)؛ فقد توقفت هذه الأحزاب عن انتقاد تركيا لعلمانيّتها و"انحطاطها الأخلاقي"، وتحوّلت إلى أعضاء رئيسة في مدح تركيا؛ التي صارت تراها مثالاً للنجاح والأصالة في وقت واحد.

اقرأ أيضاً: أزمة تركيا... رابحون وخاسرون

وهكذا، تمكّنت تركيا من استغلال هذا الوضع، من خلال تقوية الروابط مع هذه الأحزاب وشبكة الجمعيات التابعة لها، وشخصيات المجتمع المدني، بعيداً عن النخبوية، مع التركيز الشديد على العمل الاجتماعي في المناطق الأكثر حرماناً؛ "رجال الدين" غير الرسميين، المرتبطين بهذه الأخوية، انتظموا في أشكال مختلفة، أهمّها "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"؛ (الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي، المرشد الروحي للإخوان)، وقد وجد هؤلاء كلّ التسهيلات لعقد مؤتمراتهم وأحداثهم على التربة التركية مرّات عديدة، متمتّعين بخير ولطف الحكومة التركية، ومبشّرين بفضائلها على الجماهير المسلمة.

الجبهة الإعلامية

إذا كانت الجوانب السابقة للإستراتيجية التركية في التأثير في العالم العربي مستمدّةً من ممارسات تقليدية إلى حدّ ما، في الإستراتيجية الجيولوجية، فإنّ الجانب الحالي مفاجئ، ويشهد استخداماً بارعاً لتقنيات القوة الناعمة؛ إنه أمر مثير للدهشة؛ لأنّه غير متوقّع من بلدٍ يديره حزب قائم على طاعة أيديولوجية إسلامية، منذ النصف الثاني من العقد الأول من الألفية الثانية، تم اقتحام شاشات الأسر العربية بمنتج تلفزيوني جديد: المسلسلات التي تمّ إنتاجها في تركيا، وهي قصص تستهدف جمهوراً واسعاً؛ هذه المسلسلات التلفزيونية المبسطة، التي يفهمها الجميع، تمثل مجتمعاً ذا عقلية "شرقية"؛ حيث يملأ الشرفُ والغيرة والأسرة سيناريوهات عاطفية، يمكن التنبؤ بنهاياتها، كل هذا يسير، جنباً إلى جنب، مع مشاهد تسلط الضوء على الحداثة والرفاهية، وأسلوب الحياة "النمط الأمريكي" للطبقات المرفهة الثرية في الأناضول.

بعد عقود من الحظر أصبحت الأحزاب الإسلامية مستعدّة لملءِ المسرح السياسي الفارغ ومرجعياتها الأيديولوجية هي نفسها مرجعيات حزب العدالة والتنمية

سرعان ما أصبح الممثلون الأتراك نجوماً في العالم العربي، ولتسهيل الاحتفاظ بالأسماء من قبل عامة الناس، يحمِل الممثلون الاسم نفسه في مسلسلات مختلفة؛ حيث يلعبون أدواراً مختلفة (أو لا تختلف بشكل أساسي)، وهكذا؛ فإنّ الممثل التركي، كيفانش تاتليتوغ، الرجل الأشقر طويل القامة، ذا ملامح الشمال (وهذا مجرد مثال واحد من بين أمثلة كثيرة) هو دائماً "مهند" عند الجمهور العربي.

وهذا الاسم؛ الذي لا يستعصي نطقه على اللسان، عرف في المسلسلات المدبلجة باللهجة العربية السورية العربية، بالشاعرية والمفهومة عند جمهور شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

سرعان ما أصبح الممثلون الأتراك نجومًا في العالم العربي

مسلسلات أيديولوجية

لكنّ هذه المسلسلات الوردية لم تكن سوى الخطوة الأولى؛ فإضافة إلى فتح الطريق إلى سوق سياحي نحو المدن، والمناظر الطبيعية، أو حتى المساكن الفخمة؛ حيث يتم تصوير المشاهد، فقد أعدت الأرضية لسلسلة أخرى مع رسالة أكثر أيديولوجية وسياسية.

السلسلة، مثل "وادي الذئاب" (Kurtlar vadisi)؛ عرّفت الجمهور العربي على تصرفات جهاز المخابرات التركي، الـ "MIT"؛ فهذا الأخير ليس لديه ما يحسد عليه جهاز "MI6"، (ولا الـ "CIA")؛ بل وله وكيله السرّي المشهور (السيّد علمدار (Alemdar)، جميس بوند (J.Bond) آسيا الصغرى).

وأخيراً؛ جاءت سلسلة تاريخية تُذكّر الجمهور العربي بالماضي المجيد للإمبراطورية العثمانية، مستبدلة الصورة السلبية التي هيمنت على القرنين الأخيرين، بِسجل من الشجاعة والانتصارات والرفاهية، وكانت الحالة الأكثر تمثيلاً لهذه الصفات: مسلسل تلفزيوني يمتدّ لعدة فصول، ويسرد حياة سليمان القانوني وحريمه، وفي الآونة الأخيرة تعرّف الجمهور العربي على سلسلة تُمجّد بطولة "أرطغرل"، والد عثمان، مؤسس الإمبراطورية التي حملت اسمه لمدة ستة قرون "العثماني" (OSMANLI).

عجز الحكومات أمام المدّ التركي

ما لبثت حملة القوة الناعمة الضخمة هذه، التي خاضتها تركيا، أن أثارت حساسية أعداد كبيرة من القوى السياسية، على الصعيدين؛ الإقليمي والدولي؛ فقد عدّتها الحكومات العربية غزوة، ناعمة وتدريجية، للعقل الشعبي، بغرض إثارة مشاعر التعاطف والإعجاب، مع توخي هذه الحكومات الحذر تجاه علاقات التقارب الأيديولوجي بين تركيا والمعارضين لهذه الأنظمة، المعادية سياسياً للحركات العلمانية، التي باتت أكثر ضعفاً على المستوى الشعبي.

تمّ اقتحام شاشات الأسر العربية بمنتج تلفزيوني جديد: المسلسلات التي تمّ إنتاجها في تركيا وهي قصص تستهدف جمهوراً واسعاً

ورغم خوفها من حدوث موجة مدٍّ تركي، لم تستطع الحكومات العربية أن تفعل شيئاً لمواجهة هذا المدّ، ما دامت العلاقات ما تزال تحتفظ بمظاهرها الطبيعية، فإن كان التوتر كامناً بين هذه الدول وتركيا في إطار الاستقطاب في العالم العربي، والناجم عن سقوط جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فقد انفجر هذا التوتر بعد ذلك في أعقاب محاولة الانقلاب ضدّ الرئيس أردوغان، الذي اتهم بعض دول الخليج بالتورط فيه.

تقارب وإرسال قوات تركية إلى قطر

مقاومة النفوذ التركي والهجوم المضاد

الصراع، الذي كان يدار بدهاء في السابق، انتقل إلى مواجهة مفتوحة بين قطر من جهة، وجيرانها الخليجيين من جهة أخرى، واتخذ أردوغان، الذي يقتسم التقارب من الإخوان مع القطريين، موقفاً لصالح الدوحة في مواجهة الرياض وأبو ظبي، بإرسال قوات تركية إلى قطر، وكان هذا كافياً للدول الواقعة على الجانب الآخر، لتستمر في الهجوم الذي يستهدف النفوذ التركي، من خلال حظر الإخوان على الأرض وأذرعهم النشطة، لكنّ الهجوم المضادّ لم يتوقف هنا؛ إذ قاطعت المجموعات الإعلامية التي تسيطر عليها هذه الدول بثّ المسلسلات التركية على موجات الأثير، مؤكدة أنّها كانت من بين أسلحة التأثير.

اقرأ أيضاً: كيف توظف تركيا قومية الإيغور في حساباتها السياسية؟

ورغم حجم هذه التدابير؛ فقد حقّقت تركيا بالفعل هدفها، المتمثل في جذب نسبة كبيرة من السكان العرب، وبمجرد أنْ ترسّخت هذه المشاعر في أذهان الناس، تولّت الشبكات الاجتماعية مسؤولية ترسيخ هذه المشاعر وتعزيزها، وهكذا انتشرت على شبكة الانترنت أشرطة الفيديو والمنشورات التي تمجّد أردوغان والسلاطين العثمانيين، وتركيا المتقدمة. وأصبح هذا التعاطف ممكناً نتيجة انخفاض قيمة الليرة التركية، بسبب الإجراءات العقابية التي فرضها الرئيس الأمريكي ترامب، وهكذا انتشرت الحملات على شبكة الإنترنت التي تدعو إلى استهلاك مكثّف للمنتجات التركية، لمساعدة الاقتصاد على التعامل مع هذه الضربة الموجعة الموجهة ضدّ المصالح التركية.


الهوامش:

(1)  الطورانية أو البانطورانية: حركة سياسية قومية ظهرت بين الأتراك العثمانيين، أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، هدفت إلى توحيد أبناء العرق التركي الذين ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة واحدة.


المصدر: infoguerre.fr


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية