كيف أثرت السينما الفلسطينية في تقديم صورة واقعية حول الصراع مع إسرائيل؟

كيف أثرت السينما الفلسطينية في تقديم صورة واقعية حول الصراع مع إسرائيل؟

كيف أثرت السينما الفلسطينية في تقديم صورة واقعية حول الصراع مع إسرائيل؟


14/12/2023

"من يمتلك القصة الأفضل ينتصر"... تؤكد هذه المقولة الدور المحوري والمتصاعد للأبعاد الثقافية، وفي القلب منها "السرديات والصور"، في رسم اتجاهات الرأي العام وصوره الذهنية، وهو الأمر الذي يؤثر بشكل أو بآخر في إدارة الصراعات الدولية، ففي عالم اليوم الذي يتصف بالاتصال والتشابك باتت العلاقات الدولية أكثر اتساعاً، ولم يعد حسم الملفات قاصراً على الدبلوماسية الرسمية، فقد أسهمت ثورة الاتصالات وأدوات التواصل الاجتماعي في جعل الفاعلين غير الرسميين أكثر قدرة على التأثير. 

في هذا الإطار يبرز دور دبلوماسية المسار الثاني  التي ترتكز على الأفعال والأنشطة غير الحكومية وغير الرسمية بين الأفراد والجماعات، ممّا زاد من أهمية الاتصال الدولي وأهمية أدواته المتعدية للحدود أكثر من أيّ وقت مضى، ذلك على حد تقدير دراسة حديثة صادرة عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، للباحثة مافي ماهر، تناولت تأثير السينما الفلسطينية في تغيير العديد من الأفكار حول سردية الصراع مع إسرائيل. 

أهمية الدبلوماسية الثقافية

بداية، تشير الدراسة  إلى ما يحدث اليوم في قطاع غزة، ومدى تأثير معركة الصورة في هذه القضية التي امتد تأثيرها وصداها إلى العالم أجمع، إذ تتجلى بوضوح أهمية البعد الثقافي وأدوات الاتصال ورسم الصور الذهنية كمحددات أساسية في هذا الصراع، وتُعدّ الأفلام إحدى أهم أدوات صناعة هذه الصور. وقد أسهمت السينما الفلسطينية على مدار عقود بدور محوري في تقديم القضية الفلسطينية للعالم. 

وبحسب الدراسة ترتكز الدبلوماسية الثقافية على تناقل الأفكار والمعلومات والفنون وغيرها من الأدوات الثقافية بين الأمم والشعوب، في هذا الإطار تتكون الصور المتبادلة عن الثقافات والشعوب المختلفة.

لقطة من فيلم "الزمن الباقي" المنتج في عام 2009

ولمّا كانت السينما من أكثر الأدوات قدرة على خلق الصور وتشكيلها وترسيخها وخلق المشاعر والتأثير في الوعي العام، فإنّ دورها مهم كإحدى أدوات القوة الناعمة في العلاقات الدولية، وهو ما قامت به السينما الفلسطينية كأداة للقوة الناعمة في دعم القضية الفلسطينية.

وقد أدركت التشكيلات الثورية والسياسية في فلسطين أهمية السينما منذ نشأتها، لذا أنشأت وحدات معنية بإنتاج الأفلام وتمويلها. وقامت هذه الأفلام بدور كبير ومهم في التوثيق، لكنّها ظلت مقتصرة في انتشارها على الجمهور المحلي والعربي بالأساس، ولكن مع وجود لاجئين فلسطينيين حول العالم، ودراسة بعضهم للسينما بالخارج ونجاحهم في إيجاد مصادر تمويل متنوعة، ظهر جيل جديد من المخرجين بطرح جديد فيما أطلق عليه البعض "الموجة الجديدة للسينما الفلسطينية". 

دراسة: أدركت التشكيلات الثورية والسياسية في فلسطين أهمية السينما منذ نشأتها، لذا أنشأت وحدات معنية بإنتاج الأفلام وتمويلها، وقد قامت هذه الأفلام بدور كبير ومهم في التوثيق

وقد نجح هذا الجيل، وفق الباحثة، في الوصول إلى العالمية والدفع بسردياته من خلال مشاركة أفلامه في أهم وأكبر المهرجانات السينمائية، حيث يوجد جمهور من جميع أنحاء العالم، فمنذ أن عرض فيلم "حيفا" إخراج رشيد مشهراوي عام 1996 في مهرجان كان، ظلت السينما الفلسطينية حاضرة بقوة في المحافل الدولية، حاملة القضية إلى أماكن وأشخاص لم تكن لتصل إليهم لولا هذه الأفلام التي صنعت لنفسها مكانة كبيرة على الساحة الدولية.

أنسنة القضية الفلسطينية

بحسب الدراسة، أدى مخرجو تلك الأفلام دوراً محورياً في تغيير الصورة النمطية عن القضية الفلسطينية وعن المواطن الفلسطيني على عدة مستويات، ولكن كان أبرزها تحويل القضية إلى قضية إنسانية بالأساس، فقبل ذلك كان يتم تصوير الفلسطيني بأنّه لا يعبأ بحياته، بل إنّ حياته تختزل في البُعد السياسي والنضالي بالأساس، وهو ما كان ينزع الأنسنة عن الفرد الفلسطيني بدرجة كبيرة. 

بينما ركز مخرجو هذه الموجة الجديدة على تغيير هذه الصورة، فقدّموا الفلسطينيين أنّهم بشر، لكل منهم قصة وحياة يحبها ويحرص عليها، كما يعتز الفلسطيني بهويته رغم المعاناة ومرارة الحياة تحت الاحتلال. ساعد ذلك على تقريب صورة المواطن الفلسطيني لأيّ شخص في العالم، حيث أدى تصوير المشتركات الإنسانية من خلال عرض المعاناة اليومية للفلسطيني تحت الاحتلال دوراً مهماً في جعل المشاهد -من أيّ مكان في العالم- يتعاطف شعورياً أو لا شعورياً مع الفلسطيني باعتباره مثل أيّ إنسان، يتطلع للحياة والعيش بحرية على أرضه. 

لقطة من فيلم "200 متر" المنتج في عام 2020

وهذه الصورة رأيناها في عدة أفلام، منها على سبيل المثال فيلم "الجنة الآن" إخراج هاني أبو أسعد، والمنتج في عام 2005، وتدور أحداثه حول شابين فلسطينيين صديقين منذ الطفولة على وشك القيام بتفجير نفسيهما في تل أبيب، لكنّهما يعيدان التفكير في الأمر. 

وقد رشح الفيلم للأوسكار، وكان أول فيلم فلسطيني يصل إلى القائمة النهائية للأوسكار في فئة أحسن فيلم أجنبي. وفي هذا الوقت قامت عدة جهات إسرائيلية بحملات ضغط حتى لا يتم الإعلان عن الفيلم كممثل لفلسطين التي لم يكن معترفاً بها كدولة، ممّا أثار اعتراض المخرج وفريق العمل، وانتهى الأمر بإعلان الفيلم كممثل "للأراضي الفلسطينية".

وحينما ترشح فيلم "عمر"، للمخرج نفسه، للأوسكار مرة أخرى في الفئة نفسها عام 2013، كانت الأمم المتحدة قد اعترفت بفلسطين كدولة غير عضو لها صفة مراقب (Non-member observer state)، وبالتالي رشح الفيلم الفلسطيني هذه المرة كممثل لفلسطين. 

تناولت السينما الفلسطينية الآثار العميقة للجدران والحوائط والفواصل ونقاط التفتيش وآثارها النفسية والاجتماعية البالغة على حياة الفلسطينيين، بشكل جعل المشاهد الغربى يدرك ما يعانيه الفلسطينيون يومياً.

كما تم ترشيح الفيلم القصير "الهدية" إخراج فرح نابلسي والمنتج في عام 2020 للأوسكار في فئة أحسن فيلم قصير. ويتناول الفيلم قصة أب وابنته من الضفة الغربية، يحاولان شراء هدية للأم، وكيف يتحول هذا الأمر الذي من المفترض أن يكون أمراً بسيطاً إلى أمر بالغ التعقيد بسبب الحواجز وإجراءات التفتيش. 

تناولت السينما الفلسطينية الآثار العميقة للجدران والحوائط والفواصل ونقاط التفتيش وآثارها النفسية والاجتماعية البالغة على حياة الفلسطينيين، بشكل جعل المشاهد الغربي يدرك ما يعانيه الفلسطينيون يومياً، فحرية الحركة كإحدى الحريات الأساسية هي مشترك إنساني يمكن من خلاله لأيّ إنسان أن يفهم معاناة من يحرم منه، إذ إن ما هو يسير جداً جغرافياً قد يصبح عسيراً جداً واقعياً.

مثلاً، في فيلم "200 متر" المنتج في عام 2020، الذي أخرجه أمين نايفة، تدور الأحداث حول عائلة فرق شملها الجدار العازل، فالأب يعيش في جانب والزوجة والأولاد في الجانب الآخر، جغرافياً بينهما أمتار قليلة، لكن واقعياً هناك الكثير من التعقيدات للمّ شمل هذه العائلة. وقد عُرض الفيلم في إحدى فعاليات مهرجان فينيسيا.

وجاء في السياق نفسه، فيلم "المر والرمان" المنتج في عام 2008 للمخرجة نجوى نجار، إذ تحدى الصورة النمطية لزوجة الأسير. وشارك الفيلم في مهرجان صاندانس بالولايات المتحدة الأمريكية.

الذاكرة الجمعية وتحرير السردية

تحت هذا العنوان تشير الدراسة إلى أنّ الفيلم السينمائي يُعدّ في حد ذاته وثيقة تأريخية، ويمتد دوره لتأمل الخيارات السياسية والاجتماعية وغيرها من خيارات الحقبة التاريخية التي يتناولها، مع قدرة السينما الخاصة على السماح للمشاهد بالولوج إلى تلك الحقبة من خلال الرؤية والسردية التي يطرحها صانعو تلك الأفلام. 

فالأفلام الفلسطينية كانت شاهداً على المكان والبشر بحكاياتهم وتفاصيل حياتهم لتترسخ في الذاكرة الجمعية، ويُعدّ حفظ الذاكرة هنا في الحالة الفلسطينية جزءاً من مهمة حفظ الهوية وتحرير السردية. 

ترشح فيلم "عمر" للأوسكار عام 2013

وهناك عدة أمثلة على ذلك، تذكر الباحثة منها فيلم "الزمن الباقي" المنتج في عام 2009، الذي عرض في مهرجان كان، وتناول تأثير النكبة في أجيال متعاقبة منذ 1948 مروراً بالسبعينيات والثمانينيات، حتى زمن إنتاج الفيلم، والفيلم مبني على السيرة الذاتية للمخرج وعائلته، بجانب تناول الأحداث نفسها وتأثيرها في الفلسطينيين وحفظها على الشريط السينمائي، وأدى إيليا سليمان مخرج الفيلم دوراً في تقديم سردية ترتكز على استعراض تفاصيل حياة الفلسطينيين في إطار من الكوميديا السوداء معتمداً على مواقف واقعية يتعرض لها الفلسطينيون بشكل يومي توضح مدى عبثية ومرارة ما يعيشونه. 

وهو الأسلوب الذي اتسمت به معظم أفلامه التي لاقت نجاحاً عالمياً كبيراً، ومنها فيلم "يد إلهية"، المنتج عام 2002 والحاصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان، وفيلم "لا بد أنّها الجنة"، المنتج عام 2019 والحاصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم بمهرجان كان.

الترشح للأوسكار والمنافسة في أكبر المهرجانات العالمية كان يعني مشاهدة تلك الأفلام من قبل أعضاء لجان تحكيم الأوسكار، ويناهز عددهم الـ (10) آلاف عضو حول العالم، بالإضافة إلى مشاهدين من مختلف أنحاء العالم من محبي السينما ومتابعي مهرجاناتها وجوائزها، ثم توزيع عالمي، وعروض لتلك الأفلام في صالات العرض داخل الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها من مناطق العالم. 

وقد أسهم ذلك بالقطع في نقل السردية الفلسطينية خارج المحيط العربي والإقليمي، غير أنّ مدى الانتشار هذا لا يمكن مقارنته بالمدى الذي أتاحته المنصات، ممّا غير قواعد اللعبة تغييراً جوهرياً.

مساحات أكثر حرية عبر المنصات

وفق الباحثة، تعتمد المنصات على الاشتراكات من مختلف أنحاء العالم، ويعني ذلك أنّ تلك المنصات تسعى لجذب جمهور عالمي، وبالتالي عليها تقديم محتوى يتسم بالتعددية ويمثل ثقافات مختلفة، ممّا يترتب عليه في بعض الأحيان صدام كل جماعة في صراع مع أخرى حول كيفية تصوير كل منهما للأخرى. 

أدى مخرجو تلك الأفلام دوراً محورياً في تغيير الصورة النمطية عن القضية الفلسطينية وعن المواطن الفلسطيني على عدة مستويات، ولكن كان أبرزها تحويل القضية إلى قضية إنسانية بالأساس

من هذا المنطلق تضع المنصات، وخاصة نتفلكس، محتوى فلسطينياً بالإضافة إلى المحتوى الإسرائيلي، ويكمن التغير المفصلي هنا في مدى إتاحة المحتوى الفلسطيني لجمهور عالمي على نطاق يكاد يكون غير مسبوق، ممّا مكن الفلسطينيين من طرح صورتهم وسرديتهم للعالم بأنفسهم، لا كما عكف الآخر على تصويرهم.

وختاماً تشير الباحثة إلى أنّ فرصة غير مسبوقة باتت سانحة لسرديات مختلفة عن تلك التي كانت سائدة ومُتسيدة، لتصل إلى جموع البشر حول العالم، ولمّا كانت السينما من أهم أدوات تكوين الصور وطرح السرديات بطريقة ذات قدرة خاصة على النفاذ والتأثير، بات إدارك هذا الدور وتفعيله أمراً حتمياً لتعظيم الاستفادة من الفرصة المطروحة. 

ولم يغب ذلك عن القائمين على السينما الفلسطينية التي أدت دوراً محورياً في حمل قضيتها إلى العالم على مدار أعوام، أمّا الآن، فالقدرة على تفعيل ذلك الدور بشكل غير مسبوق تتسم مع الفرصة غير المسبوقة، وستكون أمراً محورياً في معركة الصورة التي باتت جزءاً لا يتجزأ من أيّ معركة دولية.

مواضيع ذات صلة:

صفية العمري : لا أعترف بالسينما النظيفة وهذه قصتي مع الشيخ الشعراوي!

تفاصيل عودة حورية فرغلي للسينما بعد غياب طويل




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية