كيسنجر مشدداً على دور الدبلوماسية الملحّ في مناخ المزايدات

كيسنجر مشدداً على دور الدبلوماسية الملحّ في مناخ المزايدات


كاتب ومترجم جزائري
23/06/2022

ترجمة: مدني قصري

في 23 أيار (مايو) الماضي، أثناء حديثه عبر ندوة فيديو أمام المنتدى الاقتصادي العالمي، أدلى هنري كيسنجر بأقوال متباينة.

 رسالة كيسنجر الرئيسة ليست أنّ أوكرانيا يجب أن توافق على تنازلات إقليمية، بل تهدف أقواله إلى التأكيد على أنّ الدبلوماسية باتت أمراً ملحاً في مناخ من المزايدات.

على عكس العديد من وسائل الإعلام التي تميل إلى قراءة الأخبار الدولية بمصطلحات مانوية (مبدأ الخير والشرّ، النور والظلام) ذكّر كيسنجر بالحاجة، من أجل حلّ النزاعات الجارية، إلى النظر إلى ديمومة التاريخ بعينٍ عقلانية واستبدال منطق التصعيد بمتطلبات الدبلوماسية المُهيكِلة.

باتفاق تام مع الآراء الواردة في المقال الذي نشره في عام 2014 خلال الأزمة الأوكرانية الأولى، والذي أشار فيه إلى أنّ أوكرانيا "جسر" بين الشرق والغرب، ولم تكن بالضرورة بحاجة لأن تختار بين هذه أو تلك من الاستقطابات الاستراتيجية، دعا كيسنجر إلى فتح مفاوضات من شأنها أن تسمح للأطراف بتأكيد قيمة مصالحها، وأن تستعيد روسيا، على المدى الطويل مكاناً أو دوراً في أوروبا. كما شجع اللاعبين الرئيسيين في الحياة الدولية، الولايات المتحدة والصين، على العودة إلى مسار حوار مهيكل، مصمّم وفقاً لحرص دائم على ضمان التوازن في عالم أصبح الآن عالماً تعدّدياً.

بالتأكيد على الحاجة إلى العودة إلى التاريخ وضرورة الدبلوماسية الملحّة في عالم يعاني من توترات متعددة، قدّم كيسنجر مرة أخرى دليلاً على ثبات فكره، وأعرب عن متطلبات وفحوى قراءته للعلاقات الدولية، غير القابلة للاختزال، والتي يمكن وصفها بـ "الواقعية التاريخية". لقد ذكّر بالأهمية العالمية في إعطاء الأولوية في سلوك العلاقات الدولية ولضمان السلام العالمي الشامل، لثمارٍ عقلانيةٍ ملموسة، مستندة على زمنِ التاريخ الطويل .

واقعية تاريخية

في نظر كيسنجر، أولاً وقبل كلّ شيء، يبدو أنّه لا يمكن إنكار أنّ الشعب الأوكراني يُظهر بطولة حقيقية حالياً، لكنّ الحماسة المنتشرة في القتال، أينما وُجِدت، لا تكفي بالتأكيد لحلّ الأزمة. بالتالي، يشير كيسنجر إلى أنّه من حيث التاريخ والجغرافيا، اللذين يجعلان من روسيا ضامناً للتوازن الأوروبي ومن أوكرانيا مَسِيرة لا بدّ من التوصل إلى تسوية دبلوماسية تجعل من الممكن استعادة السلام.

شجع اللاعبين الرئيسيين في الحياة الدولية، الولايات المتحدة والصين، على العودة إلى مسار حوار مهيكل

بالإشارة إلى المقال الذي نشره في 2014، يرى كيسنجر أنّ "الهدف النهائي" الذي يجب تفضيله وتفعيله من أجل الاستقرار، حتى إن كان السياق الحالي مختلفاً، هدف يتمثل بالضرورة في جعل أوكرانيا بشكل ما "دولة محايدة". ويؤسفه كثيراً بالفعل أنّه بدلاً من ذلك أصبحت هذه الدولة، أو أصبحت مرة أخرى، إذا تذكّرنا تاريخها، مجرّد خطّ مواجهة بين مجموعات من البلدان في أوروبا.

فهذه التسوية لا ينبغي السعي وراءها، في رأيه، في شكل تصعيد متهوّر، تصعيد قد يؤدي في النهاية إلى الإلقاء بروسيا في أحضان الصين مرّة أخرى. من الواضح أنّ مثل هذا التطور قد يبدو غير بديهي، طالما أنه سيُعطل آلية التوازن الثلاثي الذي مكّن الولايات المتحدة سابقاً من موازنة طموحات إحدى هاتين القوتين، من خلال اللعب بالعلاقة التي يبنيها  مع الآخرى.

بابتعاده عن تقليد العداء العميق تجاه روسيا، أظهر هنري كيسنجر تفضيله لعقلانية الدبلوماسيين، ورأى أنّه من الضروري لأطراف الصراع الأوكراني الدخول في مفاوضات جادة خلال شهرين

إنّ الهدف الذي اقترحه كيسنجر على هذا النحو، أي العودة المتفاوَض عليها إلى وضعٍ قائم يمرّ بالاعتراف بأوكرانيا كدولة محايدة، لا ينبغي بالضرورة أن يتعارض مع التحليل الذي قدّمه المستشار الأمريكي زبغنيو بريجينسكي، في "رقعة الشطرنج الكبيرة". لدعم وجهة نظره، مستشهداً فيها بالفئات التي صاغها هالفورد ماكيندر، الذي يرى أنّ الهيمنة العالمية مرهونة بالهيمنة التي تمارَس على قلب أوراسيا، رأى بريزيزينسكي في الدولة الأوكرانية "محوراً جيوسياسياً" مهِمّاً، يتمثّل طبيعة استقلاله في احتواء الطموحات الإمبراطورية الروسية، ونحتفظ من تحليله بالعبارة المشهورة: "بدون أوكرانيا لم تعد روسيا إمبراطورية أوراسية".

النتيجة التي يستخلصها بريجنسكي من ذلك؛ أنّه يجب ضمان استقلال أوكرانيا حتى لا تصبح بولندا بدورها محوراً جيوسياسياً على الحدود الشرقية لأوروبا الموحدة.

في الواقع؛ إنّ الأفق الذي فتحه كيسنجر، الذي يتبع طريقة تحليل مختلفة عن تلك التي اتبعها بريجنسكي، ولا يشارك رؤية الأخير للعالم، لا يتضمن أيّ تشكيك في استقلال أوكرانيا: إنه ببساطة يجعل من الدبلوماسية المفتاح الذي يتيح إعادة بناء التوازن. وإذا كان بريزيزينسكي قد حذّر الولايات المتحدة وأوروبا من الشهية الروسية، حتى لا يترتب على ضمٍّ افتراضيّ لأوكرانيا تحويلُ بولندا بدورها إلى "محور جيوسياسي"؛ فإنّ كيسنجر يدرك، بالاتجاه المعاكس، أنّ اندماج أوكرانيا في التحالفات الغربية قد يؤدي، في النهاية، إلى وضعٍ معادِل تجد فيه روسيا والغرب نفسيهما فعلياً على اتصال مباشر بينهما.

إنّ الخوف من رؤية روسيا بإمكانياتها المحدودة وقد أصبحت في المستقبل، على حدّ تعبير بريجنسكي، "إمبراطورية أوراسية"، خوفٌ يبدو غير متناسب مع الخطر الحقيقي الذي قد يهدّد أوروبا والحلف الأطلسي في حال تجاوَرا مع روسيا بشكل مباشر.

يمكن الافتراض أنّ الرئيس بايدن، الذي أبدى دائماً اهتماماً خاصاً بأوكرانيا، يرى في الصراع المسلح الذي تمثل هذه الأخيرة مسرحَه الآن فرصةً لا تُفوَّت لإضعاف روسيا؛ لهذا السبب الجيوسياسي تقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها كمية كبيرة من الأسلحة إلى أوكرانيا، وهكذا ينوي الغرب الواقع تحت الهيمنة الأمريكية أن يضع حداً لطموحات روسيا الإستراتيجية بإخضاعها لاختبار استنزاف قاسٍ.

إعطاء الأولوية للدبلوماسية

بالنسبة إلى كيسنجر؛ فإنّ الاستنزاف الحاسم لقوة عظمى في منطقة غير مستقرة، مع خطر إثارة حرب عامة وكارثية، لا يمكن أن يشكّل هدفاً في حدّ ذاته، بعيداً عن المبالغة في تقدير جغرافيا ماكيندر؛ فإنّ واقعية كيسنجر التاريخية تراهن على التوازن وتفضّل الحفاظ على النظام العالمي. كيسنجر يوازن بين الرهانات، ففي رأيه؛ أوكرانيا مستقلة ومحايدة أفضل من أوكرانيا مندمجة تماماً في المجموعات الغربية، التي ستجد نفسها، بالتالي، وقد أصبحت جارة لروسيا المهانة الحاقدة.

الأفق الذي فتحه كيسنجر يتبع طريقة تحليل مختلفة عن تلك التي اتبعها بريجنسكي

بابتعاده عن تقليد العداء العميق تجاه روسيا، الذي يشترك فيه العديد من مواطنيه، أظهر هنري كيسنجر تفضيله لعقلانية الدبلوماسيين، ورأى أنّه من الضروري لأطراف الصراع الأوكراني الدخول في مفاوضات جادة في غضون "شهرين".

في مواجهة هذه العودة إلى حالة الحرب دافع كيسنجر عن الدبلوماسية، وهي السبيل الوحيد لاستعادة التوازن. لماذا يولي هنري كيسنجر مثل هذه الأهمية لمفهوم التوازن؟ لأنّ التوازن المطبّق على العلاقات الدولية، كما أصرّ على ذلك في أطروحته حول التسوية الدبلوماسية للوضع في أوروبا بعد سقوط نابليون، مرادفٌ للسلام العالمي في عالم غير مستقر بشكل متزايد، يتّسم بتكاثر الفاعلين، وتحت تهديد الخطر النووي. لكنّ الميزان لا يمرّ عبر تجاهل مصالح كلّ قوة.

تظلّ المصلحة الوطنية هي المفهوم التنظيمي الذي يشرح سلوك الكيانات ذات السيادة على المسرح العالمي، ولكن يجب، من خلال الدبلوماسية، التوفيق بينها بشكل ملموس، وبين طموحات القوى الأخرى المتنافسة.

يلاحظ كيسنجر أنّ الإغراء الغربي نحو التصعيد، من خلال إنكار الدبلوماسية، سيكون تأثيره المحتمل دفع روسيا للابتعاد عن أوروبا بشكل نهائي والاقتراب من الصين، المنافس الرئيس للولايات المتحدة

بالتالي؛ فإنّ رهان كيسنجر  الذي يتعارض في هذه الحالة مع المزايدات الإعلامية يؤدي إلى اعتبار أنّ فلاديمير بوتين، الذي تعدّ سياسته عنيفة ومن الممكن إدانتها، لا تحركها إرادة خالصة في السلطة، وستظلّ تلعب لعبة المصلحة الوطنية. بالنظر إليها بعيداً عن الدعاية التي تنشرها حالياً؛ فإنّ الحديث الجيوسياسي للقوة الروسية، كما تمت صياغته على الأقل منذ الصراع الجورجي، في آب (أغسطس) 2008، يمكن أن نُخمّن فيه نوعاً من العقلانية، حتى إن تعارضت هذه العقلانية مع عقلانية قوى أخرى.

 باختصار، يمكن القول؛ إنّ المطالب الروسية ستكون محدودة، وهذا التقييد هو الذي يسمح لكيسنجر بالنظر في إمكانية التوصل إلى حلّ دبلوماسي على المدى القصير أو المتوسط.

المرجعية التاريخية

يبدو أنّ المرجعية التاريخية، التي تعدّ نموذجية في سياسة كيسنجر التاريخية، والتي تضع مستشار ريتشارد نيكسون في سياق فلسفة تأريخ "ليوبولد فون رانكيLeopold von Ranke" تؤكد هذا التحليل، والذي من خلاله يجب اعتبار أنّ روسيا جزء من أوروبا، التي يجب أن تلعب روسيا فيها دوراً خاصاً، حتى لو بدا أنّ الصراع الحالي يرسم خطوطاً عريضة وملامح لجغرافيا سياسية أخرى.

يتمثل هذا الدور التاريخي في تمكين التوازن الأوروبي من أن يكون هو المحرك في تحقيق ذلك، كما كان الحال في نهاية ملحمة نابليون، وفي السنوات التالية، ثم في مواجهة ألمانيا قبل عام 1939، وأخيراً في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية. وبالتالي، فإنّ التاريخ هو الذي سيمنحنا مفتاح تفسير الأزمة الحالية.

الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون

من خلال أقواله، يضع هنري كيسنجر الصراع المسلح الحالي، في سياق تطور جيوسياسي أوسع، سيكون رهانُه إعادة تشكيل التوازن العالمي.

 ويلاحظ كيسنجر أنّ الإغراء الغربي نحو التصعيد، من خلال إنكار الدبلوماسية، سيكون تأثيره المحتمل دفع روسيا للابتعاد عن أوروبا بشكل نهائي والاقتراب من الصين، المنافس الرئيس للولايات المتحدة. يرى كيسنجر أنّ السماح لروسيا بالاعتماد على الصين والابتعاد عن أوروبا، على خلفية صراع قويّ لا يبدو مخرجاً مرغوباً فيه. فلن يترتب على مثل هذا التطور سوى نشوء مواجهة مباشرة بين معسكرين مستقطَبين على التوالي من قبل واشنطن وبكين، وتقويضٍ للنظام العالمي، مع دفع القوى الرئيسة نحو مرحلة من عدم التعاون محفوفة بشتى المخاطر.

إنّ العلاقة بين الولايات المتحدة من جهة والصين من جهة أخرى ما تزال تحدّد بالفعل هيكلة النظام العالمي؛ فهي ترسم قالبَ التوازن الدولي.

وكما يوضح هنري كيسنجر؛ فإنّ الرهان المركزي للعلاقات الصينية الأمريكية في المرحلة التي وصلت إليها هي إنشاء هيكل تعاوني قادر على ضمان استقرار العالم. القضية التايوانية مطروحة بالتأكيد، ويذكّرنا كيسنجر بأنّ هذه مشكلة قديمة، وسوف يتم أخذها دائماً في الاعتبار. في الوقت نفسه يؤكد أنّ هذه المسألة لا ينبغي أن تطمس الحاجة إلى تسويةٍ مؤقتة بين القوّتين المتنافستين، اللتين تمتلكان القدرة المتبادلة على تدمير بعضهما، ولا أن تمنع يروز هيكل جديد لِوئامٍ دولي يفسح المجال أمام القوى الناشئة، مثل الهند والبرازيل، والتي يعتمد عليها استقرار النظام العالمي في نهاية المطاف.

لا يمكن حلّ التساؤلات التي تثيرها التوترات الدولية الحالية، وفق هنري كيسنجر، إلا من خلال القنوات الدبلوماسية.

من المحتمل أن تسمح المفاوضات بين الأطراف المتواجدة بالعودة إلى شكل من أشكال الاستقرار في أوروبا الشرقية، يكون فيها حياد أوكرانيا مستقلةً هو الشرط الرئيس. وهكذا يتفق تحليل وزير الخارجية الأمريكية السابق مع تحليل المفكر الواقعي، جون ميرشايمر، الذي سلط الضوء، بمناسبة الأزمة الأوكرانية، عام 2014، على أهمية أن يبقى الحلف الأطلسي وروسيا على السواء، مفصولين إقليمياً بنهرٍ من الدول المحايدة.

رسالة كيسنجر الرئيسة ليست، على الرغم من التفسيرات السريعة جداً التي أعطيت لأقواله، دعوةً لأن توافق أوكرانيا على تقديم تنازلات إقليمية، حول هذه النقطة يمكن التأكيد على أنّ أوكرانيا سبق أن وافقت بالفعل على ذلك قبل الهجوم الروسي.

لا يمكن حلّ التساؤلات التي تثيرها التوترات الدولية الحالية، وفق هنري كيسنجر، إلا من خلال القنوات الدبلوماسية

تهدف أقواله إلى التأكيد على دور الدبلوماسية الملحّ في مناخ المزايدات، في مواجهة عالم تتخلله التوترات، والحاجة إلى ربط أي حلّ دبلوماسي بالتعريف الأوسع لتوازن عالمي جديد بين القوى الرئيسة، أي حوار يجب أن تحُول هيكلته دون أي تصعيد خطير

بثباتٍ لا يمكن إنكاره، أعاد هنري كيسنجر صياغة القلق الذي تم التعبير عنه عام 2015، في كتابه "النظام العالمي" World Order  بعنوان واضح،  ودعا مستمعيه، من أجل نجاح السلام، إلى عدم التخلي عن ترسيخ نظام العالم.

مصدر الترجمة عن الفرنسية:

revueconflits.com

مواضيع ذات صلة:

كيسنجر يحذر من طوفان في علاقات الشرق الأوسط بالغرب... ما القصة؟

أحمد دلَباني: مقترحات كيسنجر للخروج من أزمة كورونا هي أجندة لتعزيز سيطرة أمريكا على العالم‎

كيسنجر.. المفاوض البارع المهووس بذاته



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية