كيسنجر.. المفاوض البارع المهووس بذاته

كيسنجر.. المفاوض البارع المهووس بذاته


26/08/2018

وأنت تقلّب صفحات الكتاب الجديد KISSINGER THE NEGOTIATOR "كيسنجر المفاوض: دروس من صنع الصفقات في أعلى مستوى"، وهو عن واحد من أشهر دبلوماسيي القرن العشرين، وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الأمن القومي، هنري كيسنجر، تتساءل: ما الجديد؟ لكن في ملف الصور وحده تجد الجواب، فمن عَقدَ صفقات مع السوفييت والصينيين والفيتناميين في عز الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وبين العرب والإسرائيليين، لا بد أن يكون صاحب قدرة لافتة وشخصية قوية في "التفاوض".

رغم كونه المفاوض الأهم في التاريخ الأمريكي الحديث بالكاد تعرفه الأجيال الجديدة أو قرأت عن فكره

وإذا كان الرجلُ معروفاً لدى أجيالٍ من العرب، بالذات عبر دوره في إدارة المفاوضات بين مصر وإسرائيل ما بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، والذي وُصف بأنّه حجر الأساس لانتزاع مصر من إرثها الناصري وعلاقاتها مع المعسكر الشرقي، والتمهيد فعلياً لأول صفقة سلام بين العرب وإسرائيل، فإنه ليس كذلك للأجيال الجديدة التي قد تكون بالكاد قرأت اسمه وتوصيفاً سريعاً لسيرته وفكره.

غلاف الكتاب

من هنا تأتي أهمية التعريف بالكتاب الصادر عن دار "هاربر/ كولينز" الشهيرة، والأهم أن نعرف من هم مؤلفوه:

جيمس ك. سيبنيوس JAMES K. SEBENIUS، الباحث المتخصص في تحليل وتقديم المشورة بشأن المفاوضات المعقدة، وهو حاصل على شهادة من كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد للأعمال.

وعمل سبينيوس في كلية كينيدي للعلوم الحكومية في جامعة هارفارد، وشارك بشكل مكثف مع المفاوضين الأمريكيين والأمميين مثل؛ ريتشارد هولبروك، الأخضر الإبراهيمي، جورج ميتشل وغيرهم.

جيمس ك. سيبنيوس

نيكولاس بيرنز، وهو أستاذ جامعي وكاتب ومحاضر ودبلوماسي أمريكي سابق، يعمل حالياً أستاذاً في ممارسة الدبلوماسية والسياسة الدولية في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية في جامعة هارفارد، ومديراً لمشروع مستقبل الدبلوماسية ورئيس كرسي البرامج المتعلقة بالشرق الأوسط والهند وجنوب آسيا.

نيكولاس بيرنز

روبرت هـ. منوكين، وهو أستاذ القانون في كلية الحقوق بجامعة هارفارد، ورئيس برنامج التفاوض في كلية هارفارد للحقوق، ومدير مشروع أبحاث التفاوض في هارفارد، كما هو باحث رائد في مجال حل النزاعات.

روبرت هـ. منوكين

في المفاوضات.. ربح الحروب أو خسارتها؟

يتفق المؤلفون الثلاثة في كتابهم حول كيسنجر، أنّه وعلى الرغم من أنّ السياسة الخارجية الأمريكية غالباً ما تكون مطلقةً، وتمضي في هراء المواقف من نوع: "معنا أو ضدنا"، لكنها تتطلب الممارسةَ الناجحة للدبلوماسية عبر التسويات، بل هم يشدّدون "لا توجد دولةٌ قوية بما يكفي للحصول على ما تريده من جانب واحد، كما أنّ تعقيدات الشؤون الدولية تجعل من المستحيل التحكم في مسار الأحداث".

الكتاب ركّز على كيسنجر كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية وكاتب ترك أيضاً مساراً وثائقياً طويلاً

كان رجالُ الدولة الأمريكيين (الآباء المؤسِّسون): بنجامين فرانكلين وتوماس جيفرسون وفرانكلين روزفلت وغيرهم، مفاوضين من طراز خاص؛ لقد أمضوا الكثير من وقتهم في الاجتماع مع الحلفاء والخصوم للتوصل إلى اتفاقات بين المصالح المتباينة، أقنع فرانكلين النظام الملكي الفرنسي بمساعدة الأمريكيين المناهضين للملكيين الذين يقاتلون من أجل الاستقلال، وعمل جيفرسون مع حاكم فرنسي آخر، هو نابليون، لإرسال باريس النقود اللازمة مقابل مضاعفة ملكية الأراضي في الولايات المتحدة، واشترى روزفلت، بالطبع، المساهمات السوفيتية الشيوعية والبريطانية في الأهداف الأمريكية المناهضة للشيوعية والمناهضة للإمبريالية عبر محاربة الفاشية، لقد كان يتم ربح الحروب أو خسارتها على طاولة المفاوضات.

اقرأ أيضاً: كتاب "المعتوه" من أكثر الكتب مبيعا في أمريكا

القليل من رجال الدولة الأمريكيين فهموا هذا التاريخ، ومن هذا القليل بالتأكيد هنري كيسنجر، لقد ظل يدعو إلى مزيج أكثر تطوراً من الضغوط العسكرية والمبادرات الدبلوماسية، أملاً في إبرام اتفاقات مع الاتحاد السوفييتي من شأنها تثبيت استقرار أوروبا المقسمة، والحدّ من نمو الترسانات النووية وإدارة المنافسات في مناطق أخرى.

أمضى سنوات كأفضل مستشار للرئيسين هنري فورد ونيكسون

خلال السنوات التي أمضاها كيسنجر كأفضل مستشار للسياسة الخارجية للرئيسين نيكسون وهنري فورد  (1969-1977) وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ؛ شارك في مفاوضات ماراثونية مع بعض من أكثر الشخصيات صلابة في القرن العشرين، بما في ذلك الزعيم الصيني تشو إن لاي، القائد السوفياتي ليونيد بريجنيف، الرئيس المصري أنور السادات، رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، الرئيس السوري حافظ الأسد والزعيم الأفريقي (الأبيض) أيان سميث.

نجح كيسنجر بمفاوضاته مع الصين والاتحاد السوفييتي وإحلال سلام هش في الشرق الأوسط

يبدو أنّ كيسنجر قد نجح في العديد من هذه المفاوضات: فتْح العلاقات مع الصين، وإقامة انفراج مع الاتحاد السوفييتي، وإحلال سلام هش في الشرق الأوسط، وتسريع نهاية الحكم الأبيض في روديسيا، لقد "أصبح الرجل الحكيم في السياسة الخارجية الأمريكية - داعيةً في كل مكان للتنازلات الاستراتيجية لضمان الاستقرار للولايات المتحدة".

المؤلفون الثلاثة، ركّزوا على كيسنجر كمستشار للأمن القومي ووزير للخارجية، وكاتب ترك أيضاً مساراً وثائقياً طويلاً، بما في ذلك آلاف الصفحات التي كتبها وهو يروي ما فعله عندما جلس أمام العديد من الأعداء وغيرهم في جولات عسيرة من التفاوض. كما قضى المؤلفون العديد من الساعات في إجراء المقابلات مع كيسنجر، وقد كتب مقالةً قصيرةً، مباركاً تحليلاتهم ومراجعاتهم لسيرته المهنية.

اقرأ أيضاً: كتاب "التنوير الآن".. هل حقاً العالم أصبح أفضل حالاً؟

يظهر كيسنجر كمتعلم سريع، وإستراتيجي جريء ومطارد لا هوادة فيه؛ في روديسيا، نسّق سلسلةً من الضغوط على إيان سميث من اتجاهات متعددة لدفع المدافع العنيد عن الحكم الأبيض لقبول انتقال لمدة عامين إلى حكم الأغلبية السوداء، في الشرق الأوسط، سافر بلا كلل بين العواصم ليجمع بين القادة المتخاصمين، في الصين، على الأرجح كان انتصاره الأكثر شهرة، حين بحث كيسنجر في سلسلة من الطرق المهملة لإقامة الاتصالات مع بكين وتجنب الخلافات المتكررة، لا سيما الوضع الخاص بتايوان.

كان دعم كيسنجر للأنظمة الاستبدادية بأمريكا اللاتينية سبب العنف الإقليمي على امتداد القارة

الاستثناء الجزئي الوحيد (يتعارض مع خط سير الإنجاز لكيسنجر)، هو مناقشتهم لحرب فيتنام؛ حيث يفترض المؤلفون أنّ مفاوضات كيسنجر ربما أطالت إستراتيجية عسكرية أمريكية فاشلة وزادت عدد القتلى، ومع ذلك، فإنّهم يثنون على جهوده للتفاوض على اتفاقات باريس مع الفيتناميين التي أدّت إلى الانسحاب الأمريكي المتأخر في العام 1975.

التعاون مع نظام الفصل العنصري بجنوب أفريقيا نشر الصراع في جميع أنحاء القارة

15 درساً للوصول!

ويحدد سيبينيوس وبيرنز ومنوكين 15 درساً من طريقة كيسنجر لفهم نظرائه والتلاعب بهم، هذه الدروس هي الأساسيات - مهارات القيادة التي تحدّد ما إذا كان شخص ما يتمتع بالكفاءة وراء عجلة القيادة، غير أنّ ما يهمّ هو ليس الطريقة التي تقود بها ولكن ما إذا كنت ستصل بأمان وفي الوقت المناسب، السائق الماهر الذي يضيع أثناء القيادة ليس نموذجاً، إنّ الوجهة مهمة أكثر من أي شيء، ويجب أن يُحكم على المفاوض، مثل السائق، بمدى قدرته في الوصول إلى هدفه.

يظهر كيسنجر كمتعلم سريع وإستراتيجي جريء ومطارد لا هوادة فيه

من هذا المنظور، فإنّ دروس كيسنجر للمفاوضين المعاصرين هي أكثر إشكالية بكثير مما يرغب المؤلفون في الاعتراف به، على الرغم من كل إتقانه للقضايا، فكيسنجر فقد بصيرته في كثير من الأحيان، فهناك التفاوض مع الزعماء الدكتاتوريين حتى وإن كان لا يمكن تجنبه (وأفضل البدائل) في بعض الأحيان، فـ"العلاقات التي تشجع العدوان تؤدي إلى نتائج عكسية للمصالح الأمريكية في ترسيخ الديمقراطية والاستقرار"، لم يخاطر المؤلفون في المضي أكثر من هذا، وتبيان كيف كان دعم كيسنجر للقوى العسكرية في تشيلي والأرجنتين ودول أمريكا اللاتينية الأخرى هو السبب في العنف الإقليمي على امتداد القارة.

رغم إنجازاته غالباً ما ضلّل "كيسنجر المفاوض" الكونغرس والجمهور الأمريكي حول اتفاقياته

كما أنّهم أهملوا كيف أنّ التعاون مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا نشر الصراع العنصري في جميع أنحاء القارة، وقوّض مصداقية أمريكا الدولية، فقد تفاوض كيسنجر على هذه العلاقات الضارة من أجل تمرير مبيعات الأسلحة، وغالباً ما ضلّل "كيسنجر المفاوض" الكونغرس والجمهور الأمريكي حول اتفاقياته.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية