رغم أنّ المدقّق في أدبيات وسلوك الجماعة يدرك جيداً أنّها حالة تنظيمية أكثر منها فكرية، إلّا أنّ التفتيش في أفكار الجماعة يقول الكثير عن سماتها ويفسّر النهج المراوغ الذي اتبعته منذ تأسيسها حتى اليوم.
متلازمة الغموض
لعلّ أهم ما وسم الجماعة هو التلازم بين الغموض الفكري والسلوك السياسي والتنظيمي، الذي يعتمد المناورة والمراوغة والتقية، بما يعزز لدى المراقب الشعور بأنّهما مقصودان لضمان البقاء والانتشار، بصرف النظر عن التأثير السلبي على الهدف الذي ظلّ الإخوان يتحدثون عنه طويلاً، وهو دعم مسيرة التحول الديمقراطي، المهمة التي لم يكونوا يوماً سوى العقبة الكؤود في طريقها بالحال والمقال.
لعلّ أهم ما وسم الجماعة هو التلازم بين الغموض الفكري والسلوك السياسي والتنظيمي
عندما أراد حسن البنا أن يحدد هوية الجماعة الفكرية، كتب في العدد 30 من مجلة "الإخوان المسلمين"، بتاريخ 29/11/1934 أنّها "فكرة جامعة تضم كل المعاني الإصلاحية، فهي دعوة سلفية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، أو جماعة رياضية، ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية"، وعندما قرّرت الجماعة الدخول إلى مربع السياسة، وأعلنت ذلك في مؤتمرها العام الخامس العام 1938 كتب البنا في افتتاحية مجلة النذير "سننتقل من حيّز الدعوة الخاصة إلى الدعوة العامة أيضاً، ومن دعوة الكلام وحده إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، ولسنا بذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقنا بالتدخل في السياسة، كما يقول الذين لا يعلمون، لكنّنا ننتقل بذلك خطوة ثانية في طريقتنا الإسلامية وخطتنا المحمدية ومنهاجنا القرآني، ولا ذنب لنا أن تكون السياسة جزءاً من الدين، وأن يشمل الإسلام الحاكمين كما يشمل المحكومين".
إطار فضفاض
يُلاحظ هنا أنّ الجماعة تتعمد وضع إطار فضفاض لفكرها يمكّنها من التعاطي مع كل سلطة سياسية، والتعامل مع القوى السياسية الموجودة أيضاً بقدر وافر من الحرية، التي لن يوفرها سوى هذا النهج، بما يجعلها في مأمن من الخضوع لأيّ قيود قانونية أو إدارية، كشأن باقي القوى السياسية، وفي الوقت نفسه يؤمّن لها ذلك جذب كثير من الأتباع في ظلّ تلك الشعارات العريضة التي تستوعب تطلّعات واهتمامات شرائح متعددة.
الابتعاد عن التحديد الصارم للهوية يحقّق تمايز الجماعة ويشبع رغبتها في "الاستعلاء الإيماني" تلك الفكرة التي رسّخها البنا وسيد قطب في نفوس الأعضاء.
الجماعة تتعمد وضع إطار فضفاض لفكرها يمكّنها من التعاطي مع كل سلطة أو قوى سياسية موجودة
يتيح ذلك الخطاب المزدوج للجماعة خيارات في المواجهة مع كلّ نظام سياسي، ففي حال اشتداد الضغوط عليها وحصارها بحقيقة مشروعها، تلجأ إلى خطاب التمسكن الذي تحاول من خلاله أن تقول إنّها دعوة سلمية تنتهج العمل الديمقراطي، وأنّها إصلاحية معتدلة، وفي حال الشعور بأنّ الضغوط قد خفت، وبدأت في الشعور بالصعود السياسي، أو الحضور الكبير، تتحدث من جديد بخطاب الشمولية لكل مناحي الحياة، بالنسبة إلى الإنسان المسلم، وتردد المقولات الثورية، مطالبة بالتغيير الجذري، طارحة لغة المساومة، أو التفاوض السلمي.
جمع التشدد والاعتدال
لم تتغير لغة الجماعة كثيراً في هذا الشأن، فقد جمعت بين الخطاب العام المتشدد والخاص المعتدل في مقام واحد؛ ففي 31/1/1995 في الخطاب الذي وجّهه مرشد الجماعة، محمد حامد أبوالنصر، للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، وفي إطار الدفاع عن أهداف الإخوان بعد أن اتهمتهم السلطة، بما يشبه التآمر لقلب نظام الحكم، قال: "إنّ الجماعة تحترم الدستور المصري، وهذا الدستور يكفل للإخوان الحق في ممارسة دورهم في النظام الديمقراطي، دونما قيود، وأنّهم يسعون للسلطة في ظلّ التعددية، دونما تأثيم أو تجريم"، ثم استدرك أبو النصر متحفظاً بالقول: "إلا أنّ الإخوان، رغم كلّ هذا، لا يسعون إلى السلطة، كما أنّ السلطة ليست من هدفهم".
رغم تأكيد الإخوان المتكرّر على احترام الدستور إلا أنّهم يريدون تغييره ليكون محققاً للإسلام كما يرونه
يبدو التناقض واضحاً؛ حيث لا يستقيم وضع العبارتين في خطاب واحد، الجماعة راغبة في السلطة ولا تسعى إليها، وإلا كيف ستحقق هدفها العام الذي تحدّثت عنه، وهو إقامة ما يسمى بالدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي، بل هي سلكت كلّ السبل على طريق السعي لهذا الهدف.
لكنّها تبقى أسيرة الشعارات الفضفاضة التي نشأت عليها وسلبت بها عواطف الكثيرين، تخشى الالتزام بقواعد الممارسة الديمقراطية، ولا تكفّ عن ترديد عبارات تؤكد كونها جماعة ذات رسالة عقيدية شاملة، تتوخى تحقيق تغيير جذري شامل في المجتمع، الأمر الذي يصطدم بضرورات الأسلوب المعتدل في التغيير.
تلاعب بالخطاب
هذا الازدواج بين المسار السري والإصلاحي، وما يتطلبه كل فضاء منهما من تدابير ووسائل وخطاب، هو الذي يعمّق الغموض في فكر الجماعة، وهو الذي يعبّر بوضوح عن أزماتها المتكررة، ويصيبها بالحيرة في صياغة إطار فكري مناسب للواقع ومستجداته، وهو ما يتّضح في الإصرار على استخدام شعار "الإسلام هو الحّل"، الذي تحوّل من شعار انتخابي إلى عنوان فكري، يعني التأكيد على أنّ الطريق الوحيد للإصلاح هو الإسلام، وأنّ جماعة الإخوان التي تمثل الإسلام الصحيح، وأنّها رغم تأكيدها أنّها ليست جماعة المسلمين إلا أنّ كلّ مقولاتها وسلوكها، تؤكد أنّ اعتقادها أنّها جماعة المسلمين التي توصلت إلى التفسير الصحيح للإسلام.
اقرأ أيضاً: الإسلام هو الحل.. شعار أم مشروع؟
كتب المرشد الخامس للإخوان مصطفى مشهور، في مقال له بجريدة "الشعب"، في 8/8/1995، في سياق الانتخابات البرلمانية: "الدستور يعطي لكل مواطن حقّ ترشيح نفسه، وأن يرفع الشعار الذي يرى فيه الإصلاح، والإخوان يرون أنّه لا صلاح ولا إصلاح إلا بالإسلام؛ لأنّه من عند الله العليم الخبير بخلقه، وبما ينفعهم ويصلحهم، ولو تبنّى هذا النظام هذا الشعار وحرص على تطبيق الإسلام ما وجد مبرراً لهذا التصعيد بين الإخوان والنظام مع اقتراب انتخابات مجلس الشعب".
لم يطرح الإخوان أبداً برنامجاً سياسياً حقيقياً يمكن تقييمه يترجم شعار "الإسلام هو الحل"
رغم تأكيد الإخوان المتكرّر والمستمر على احترام الدستور، وضرورة التزام الجميع به، إلا أنّهم يريدون تغييره ليكون محققاً للإسلام كما يرونه؛ كتب المرشد السادس مأمون الهضيبي، في الجريدة نفسها، في 17/10/1995: "لقد طالب الإخوان، وما يزالون، بتطبيق الشريعة وتجسيد نصّها في الدستور إطاراً يعيش الناس في بحبوحته، وينعمون بوارف ظله، إلا أن الحكومة اتهمتهم بالتطرف والتخلف والعودة إلى القرون الغابرة، والعيش في إطار الماضي، ثم أردفت ذلك باتهامهم بدعم وتأييد العنف والإرهاب".
اقرأ أيضاً: أين ذهب شعار "الإسلام هو الحل"؟
يبدو واضحاً التلاعب بشقي الخطاب الإخواني العام والمتشدد، الذي يجذب المسلمين، وهو تطبيق الشريعة والخطاب الخاص الذي يسعى للاستفادة من فرص المناخ الديمقراطي، وإذا كانت العبارات السابقة قد وردت في سياق ردود الإخوان على اتهامات أو انتقادات خلال فترة الاحتقان السياسي، العام 1995، فهي تشير إلى حرص الإخوان على إثارة قضية مضمونها أنّهم لا يريدون إلا حكم الإسلام وتطبيقه، وأنّ الحكومة تستهدفهم لأنّهم يطالبون بهذا الهدف السامي، البالغ الحساسية، لدى الرأي العام المصري.
لا برنامج يمكن تقييمه
لم يطرح الإخوان أبداً برنامجاً سياسياً حقيقياً، يمكن تقييمه يترجم هذا الشعار، وبقي ما طرحوه، سواء في مبادرة الإصلاح السياسي في 2004، أو برنامج حزب الحرية والعدالة في 2012، إطاراً فضفاضاً يتماهى مع مفردات أي حزب سياسي عادي، حتى إنّ كان هذا الحزب هو الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، الذي نسجت الجماعة على منواله في برنامجها، كما لو كانت تعلم أنّها ستكون في الحكم قريباً؛ لذا تبنت جلّ مقولات هذا الحزب وسياساته الاقتصادية والاجتماعية، دون أيّ تمايز.
اقرأ أيضاً: قواعد الفكر الإخواني (30): الإنكار تهرباً من المسؤولية
في الموقف من الديمقراطية والحرية، تعمد الإخوان الحديث بلغتين مختلفتين أو ترديد الخطاب المزدوج الذي لا يعزز سوى الغموض والمراوغة.
يقول مصطفى مشهور، في مقال له بجريدة "الشعب"، بتاريخ 28/2/1995: "إنّ الحرية غالية ولازمة لكلّ إنسان فيها يثبت وجوده ويحقق مطالبه، وهي الطريق إلى العزة والقوة للأفراد والشعوب والأقطار، والإسلام يقرر حق الإنسان في الحرية وفي إطار دقيق، ويرفض القهر والطغيان والظلم، ويحارب الاستعباد، ويشجع على تحرير العبيد".
هذا "الإطار الدقيق" الذي تتم من خلاله الحرية في الإسلام، هو بيت القصيد؛ فرغم التأكيدات المتكررة في أدبيات الإخوان، على الحريات المدنية والعامة، فإنّ المنطلق الفكري الذي يقوم عليه إدراكها لمعنى الحرية، مختلف إلى حدّ كبير عما هو معروف في هذا الفكر الذي يزعمون المطالبة بتحقيقه.
اقرأ أيضاً: قواعد الفكر الإخواني (25 ): طبقية تكشف فصام الجماعة
فبينما قال هذا الفكر إنّ الأصل في الحرية هو الإباحة، والإيمان بقدرة الفرد على إدراك مصالحه الحقيقية، وبأنّه خلق حراً، وما القيود التي توصّل لها الفكر الإنساني إلا لحماية هذه الحرية الفردية وتعزيزها، تؤكد أدبيات الجماعة أنّ الأصل في الحرية هو التقييد، وأنّ الفرد مطبوع على الخطأ والشرّ، وأنّه يميل بطبعه إلى العبودية، سواء كانت لإله أو لمخلوق أو لنظام بشري، وبينما تعدّ الحرية مبدأ أساسياً من مبادئ النظام السياسي الحديث، يعتبرها الإخوان مجرد وسيلة لخدمة مبدأ أكبر وأشمل لديهم، هو إقامة شرع الله وتحقيق الإسلام وفق رؤيتهم التي تجعلهم القيّمين الوحيدين على هذه الغاية.