في نقد الحداثة إسلامياً

في نقد الحداثة إسلامياً


30/09/2018

موريس عايق

يحقق النقد الأخلاقي للحداثة حضوراً متزايداً في الغرب، ومنه استدان كثر من المنظرين ذوي الميول الإسلامية والتيارات الإسلامية هذا النقد باعتباره النقد الأساسي للحداثة، بخاصة أنه يشمل مختلف جوانب الحداثة من السؤال السياسي إلى الأخلاقي ومحنة القيم. قبل تناول تعاطي منظرينا مع النقد الأخلاقي للحداثة، من الضروري تقديم ملاحظة أولى تخص المسألة في سياقها الغربي.

إن النقد الأخلاقي للمجتمعات الحديثة، الرأسمالية والمجتمعات الصناعية، ليس أمراً حديثاً بل قديم وحاضر منذ البداية. أيضاً، لم يقتصر هذا النقد على تيار بعينه، فقد حضر في نقد التيارات الاشتراكية والأحزاب العمالية للمجتمع الرأسمالي، كما وجِد لدى المحافظين والكنيسة في نقدهم للحداثة والتنوير. التباين بين هذين التيارين دار حول مكان النقد الأخلاقي في الصورة الشاملة وبالنسبة إلى التاريخ والعقل. فاليسار تبنى قيم التنوير والعقل والتقدم، بحيث صار النقد الأخلاقي جزءاً مكملاً من الصورة ويحيل إلى الوجه السلبي (واللاعقلاني) للمجتمع الحديث الذي يجب تجاوزه باتجاه مجتمع أكثر حداثة يحل التناقضات الأخلاقية. في المقابل، تبنى المحافظون موقفاً يرتكز على أولوية البعد الأخلاقي وحصريته. فبالنسبة إليهم، كانت الحداثة - بوصفها كذلك - سبب ما نشهده من تحلل أخلاقي وفساد. هنا لا يعود النقد الأخلاقي جزءاً من صورة أوسع بجوار التقدم والعقل، بل على العكس يصبح النقد الأخلاقي في جوهره نقداً للعقل والتقدم اللذين يصبحان مسؤولين عن انهيار القيم الأخلاقية وعاجزين عن تقديم بديل أخلاقي له.

النقد الأخلاقي اليساري كان نقداً متفائلاً وينظر إلى المستقبل والتقدم، فيما كان النقد الأخلاقي المحافظ نقداً متشائماً ينظر إلى الماضي ويشهد انحسار الأخلاق. ارتبط الانتقال بين هذين الشكلين من النقد بالتحولات التاريخية التي واجهت المجتمعات. ففي حين طغى التفاؤل على القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين بفضل حضور يوتوبيا المجتمع الاشتراكي، فقد تقدم الشكل المتشائم منذ بداية القرن العشرين. اليوم، وبعد انهيار أنظمة الاشتراكية الواقعية والسيطرة التامة للرأسمالية التي تبدو أنها بلا بديل (حتى دول المناهضة للهيمنة الأمريكية ليست سوى رأسماليات أخرى وليست بدائل عنها) يتقدم الشكل الأخلاقي الصرف والمتشائم للنقد ليحتل كامل الصورة. فتتم استعادة صور متخيلة عن عصور ساد فيها الوئام الأخلاقي والحب بين أعضاء الجماعة، عصور أخلاقية حطمتها الحداثة. بالنسبة إلى هذا الشكل من النقد، لن يعني أي مسعى لتقديم يوتوبيا حديثة وتنويرية ومتجاوزة للرأسمالية سوى استبطان للقيم الحديثة الشريرة وتقنيات السيطرة التي تستخدمها لإعادة إنتاج مجتمع لاأخلاقي مخترق بالسلطة والتحكم مرة أخرى.

هذا هو النقد الذي وجدت التيارات الإسلامية نفسها مشدودة إليه ومغرمة به، فهو يشجب الحداثة نفسها على أساس أخلاقي قائم على استدعاء مباشر للدين والتراث وتقديمهما بوصفهما الشكل الضروري، وحتى الوحيد ربما، للتصور الأخلاقي عن العالم. يمتاز هذا النقد بعدم تمييزه بين وجه إيجابي وآخر سلبي للحداثة كما فعلت حركات التحرر الوطني بتوجهاتها الليبرالية أو الاشتراكية لاحقاً. بالنسبة إليه، الحداثة نفسها أصل الداء.

إن المعضلة الأولى لهذا النقد، في شكله الغربي الصرف، هي عدميته بقدر رجعيته، فهو لا يقدم ما يمكن البناء عليه. ففي اللحظة التي نسعى إلى تقديم بدائل، سنقع في شراك الحداثة نفسها. المعضلة الأخرى هي صورته الأحادية البعد وفي شكل مفرط للعالم الحديث الذي لا يراه إلا بوصفه كارثة.

في الحالة الإسلامية - التي تستعير هذا النقد بعد إضافة بعض البهارات الإسلامية إليه - تبدو المشكلة مضاعفة، ففي حين يستهدف النقد الغربي مجتمعات حققت منجزات كثيرة مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان والتطور العلمي، فإن النقد الإسلامي يعيد إنتاج هذا النقد تجاه مجتمعات ودول لم تحقق حتى الحد الأدنى من هذه المكتسبات السياسية والاجتماعية، فضلاً عن العلمية.

أمام هذا الواقع يعتمد النقد الأخلاقي ذو المرجعية الإسلامية «خدعة» جدالية، حيث يبدأ نقده بالإحالة إلى السياق العربي. مثلاً، الدولة العربية الحديثة دولة فاسدة ومتوحشة، فرضت تحديثاً قسرياً على مجتمعها لا يهدف سوى إلى تعزيز سيطرتها وقدراتها على التحكم وقمع مجتمعها متابعةً في هذا إرث الإدارة الاستعمارية. يشدد هذا النقد على استخدام الدولة العربية أيديولوجيا العقل والحداثة والعلمانية لتبرير هذه السيطرة والقمع الممارسين ضد مجتمعها الموسوم منها بالجهل والتخلف والتطرف.

لا أحد يماري في صواب هذا النقد الموجه للدولة العربية الطغيانية والمستبدة، والتي تستخدم أي شيء ممكن لإدامة طغيانها وتبريره. كذلك يستعيد هذا النقد الإسلام إلى المقارنة باعتباره تعبيراً عن الجانب الأخلاقي المفقود تحت سلطة الدولة الحديثة ووطأتها، وهذا بدوره أمر يمكن الموافقة عليه والانطلاق منه لتقديم نقاش مثمر وحقيقي يتجاوز فشل الدولة العربية الحديثة والتحديث العربي إلى مناقشة الحاجة الضرورية إلى البعد الأخلاقي الذي يشكل الإسلام مخزونه القيمي الأساسي.

لكنهم، وعلى مستوى النتائج والخلاصات، ينتقلون من الصيغة والسياق المقيدين إلى نتائج وخلاصات أكثر تعميماً وغير مقيدة. فعوضاً عن إدانة الدولة العربية، نصبح أمام إدانة تامة للدولة الحديثة، وعوضاً عن نقد تجارب التحديث العربية، وما نتج منها نصبح أمام رفض للحداثة كليةً، لأنها تتفرعن على مجتمعاتها وتدمرها باسم العقل. هم يستخلصون من نقد تجارب التحديث العربي، وهي حالة خاصة، إدانة تامة للحداثة نفسها. يتم هذا الانتقال من نقاش مُقدم في سياق مقيد يحيل إلى الدولة العربية ومشروع التحديث العربي، إلى صيغة أقوى وغير مقيدة للنتائج ترفض وتُدين الحداثة والدولة الحديثة من دون تبرير واضح وصريح، بل يُكتفى بالجدال المقدم في السياق العربي كأنه بذاته برهان الصيغة الثانية، وكأن الصيغتين (التحديث العربي والحداثة) متماثلتان ولا فرق بينهما. وهذا ما يعني أن دولة القذافي «الحديثة» هي نفسها الجمهورية الألمانية الحديثة، فالاثنتان تقومان على السيطرة والتحكم والقمع وإقصاء الأخلاقي وكل ما في جعبة هذا النقد من مقولات، وعليه فما يصدق على دولة القذافي يصدق تلقائياً على ألمانيا. لكن هذه المقارنة ذاتها (دولة القذافي مثل الدولة الألمانية) تبدو لاعقلانية وغير مقبولة على أي مستوى، ولا يمكن نتائج بُنيت على تجربة دولة القذافي أن تُعمم على الدولة الألمانية.

بالطبع، هم لا يقولون هذا صراحة، ولكن هذا هو مؤدى النقاش المقدم، فالتحديث العربي تتم مناهضته ليس بوصفه شكلاً مشوهاً للتحديث، بل بوصفه تعبيراً عن الحداثة نفسها انطلاقاً من مساواته مع مشروع الحداثة وليس من تباينه معها، لهذا نرى أن الحداثة تُقرن بالحروب والإبادات الجماعية حصراً. عليه، تصبح المشكلة متمثلة في الحداثة والدولة الحديثة، وليس في شكل محدد للتحديث وشكل معين للدولة الحديثة الذي تعبر عنه الدولة العربية الحديثة. هكذا، تنتفي كل الفوارق بين الليبرالية والتنوير من جهة والفاشية من جهة أخرى، ويصبح ما يجمعهما أكبر مما يفرقهما. هذه النقلة غير مبررة تشوه معاني الكلمات وتجعل التدليل على نتائجها غير ممكن، لأن النقاش السابق يبدو على متعينات في السياق العربي، بينما النتيجة مطلقة.

عن صحيفة "الحياة" اللندنية

الصفحة الرئيسية