في استذكار مهدي عامل وسمير قصير وقوافل شهداء الحرية

في استذكار مهدي عامل وسمير قصير وقوافل شهداء الحرية


27/02/2020

الدعوة التي أطلقتها مفوضية الاتحاد الأوروبي في العاصمة الأردنية عمّان، أول من أمس، وتحرص عليها سنوياً، والمتعلقة بدعوة الصحفيين الأردنيين إلى المشاركة بجائزة سمير قصير الـ15 لحرية الصحافة، تحمل في طياتها عزماً على مواصلة القتال من أجل حرية التعبير، كما تستبطن ثناء موصولاً للصحفي الشهيد سمير قصير الذي اغتالته قوى الظلام بسيارة مفخخة في بيروت في الثاني من شهر حزيران (يونيو) عام 2005.

اقرأ أيضاً: مفهوم التراث عند مهدي عامل: المعرفة ضد الخصوصية
وشكّلت مقالات سمير قصير وافتتاحياته في جريدة "النهار" في نهاية التسعينيات ومطلع الألفية الثانية أبرز ما كُتب في مواجهة الهيمنة السورية على لبنان وحكم الرئيس إميل لحود وأجهزته الأمنية، بحسب الموقع الإلكتروني لـ"مؤسسة سمير قصير". وقد دفع الأمر اللواء جميل السيد، مدير عام الأمن العام يومها والرجل الأول في التركيبة الأمنية، إلى تهديده هاتفياً ثم إرسال سيارات تطارده وصولاً إلى مصادرة جواز سفره في مطار بيروت الدولي في نيسان (أبريل) عام 2001، قبل إعادته إليه عقب حملة استنكارات سياسية وثقافية.
تستعاد سيرة سمير قصير ومآثره في لحظة لبنانية حساسة تشهد انتفاضة شعبية كالتي خاضها قصير

دفعوا دماً فداءً للكلمة الحرة
وتستعاد سيرة سمير قصير ومآثره في لحظة لبنانية حساسة تشهد انتفاضة شعبية كالتي خاضها قصير ورفاقه الذين دفعوا دماً فداءً للكلمة الحرة ولقيم الاستقلال والعدالة ومجابهة المحاصصة الطائفية. وإلى جانب قصير هناك مهدي عامل، وهما ما تذكره، وسواهما، الكاتب كريم مروة في موقع "المدن" الذي وصف كلاً من مهدي عامل وسمير وقصير كبطلين من أبطال الحرية الذين قدما حياتهما للدفاع عنها. وقال: نتذكرهما باسم الثورة المجيدة من أجل التغيير، التي لو كانا على قيد الحياة لكانا من أبطالها. وهما كما يشير إلى ذلك تاريخهما، مثقفان من نمطين مختلفين لكل منهما شغفه بالحربة ودفاعه عنها. وهو الشغف الذي قادهما مع مثقفين آخرين إلى الاستشهاد من دون أن يتراجعا مقدار ذرة عما اعتبراه الأساس في حياتهما في الدفاع عن حرية الفكر والنضال من أجل التغيير الديموقراطي في وطنهم لبنان.

كريم مروة: شهداء ثورة الاستقلال سيشكلون جسر العبور الصعب إلى مستقبل أفضل لوطنهم لبنان، ولو طال المدى

وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) عام 2005، شارك سمير قصير بفاعلية في إطلاق الانتفاضة الشعبية "في وجه الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان" كما يقول موقع "مؤسسة سمير قصير"، وكان له الفضل الأبرز في تسميتها بـ"انتفاضة الاستقلال" تأكيداً على طابعها الوطني الاستقلالي، وربطاً لها بالانتفاضة الفلسطينية في وجه الاحتلال الاسرائيلي عام 1987. وصارت مقالاته في "النهار" صوت الانتفاضة الأعلى والأنقى، وزاد عليها حضوره الدائم في ساحة الشهداء في بيروت يناقش مع السياسيين والإعلاميين والطلاب المتظاهرين أفكاراً واقتراحات لتطوير الأداء والانتصار في معركة استعادة السيادة والحرية.

إعادة الوهج للانتفاضة اللبنانية
ولعل قصير كان أول من تنبّه الى أنّ بقاء الانتفاضة من دون برنامج سياسي (لحقبة ما بعد الانسحاب السوري) يصلح النظام اللبناني ويعدّل التوجّهات الاقتصادية ويطرح مسألة تخطّي الطائفية ويؤمّن المصالحة الوطنية الحقيقية، سيعرّضها سريعاً للانتكاس. كما أنه كان أوّل من دعا الى انتفاضة داخل تلك الانتفاضة تعيد الى الشارع وهجه وإلى السياسة معناها النبيل والى المواقف وضوحها واستقامتها.
وفي الوقت نفسه، تمسّك سمير برفض جميع مظاهر العنصرية المتسرّبة إلى اللبنانيين تجاه السوريين عموماً، وطالبهم أكثر من مرة في مقالات ومن على منبر ساحة الشهداء بالتمييز الدائم بين النظام السوري ومخابراته القابضة على سوريا ولبنان، وبين الشعب السوري بعماله ومثقفيه.

بعد اغتيال رفيق الحريري شارك سمير قصير بفاعلية في إطلاق الانتفاضة الشعبية "في وجه الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان"

وبرفقة قصير، كان مهدي عامل مفكراً ماركسياً، كما يقول كريم مروة. وكان يحاول تقديم رؤية جديدة للعالم ولبلاده، في شروط عصر كان يضج بأحلام التغيير، ويزدحم بوقائع تصعِّب وتُعقِّد وتعيق تحقيق تلك الأحلام.
لذلك كان فكر مهدي كله نقدياً في أساسه. وكان نقده يطاول الوقائع القائمة، ولا يستثني حتى مشاريع التغيير، بما في ذلك المشروع الاشتراكي ذاته الذي كان ينتمي إلى مرجعيته الفكرية، مرجعية ماركس. لكن مهدي عامل، الذي اغتيل بكاتم الصوت، كان عنيفاً في نقده للطائفية وللنظام الطائفي في بلده لبنان. وكان عنيفاً أيضاً في نقد السلفية الدينية التي كان، ولا يزال، يتشبث أصحابها بالنظام القديم وبكل ما يعيق عملية التقدم في عالمنا العربي، يتشبثون بهذا القديم، باسم فهمهم المشوِّه للدين، الفهم الذي يغيِّب قيم الدين ويتجاوزها إلى نقيضها، يتابع مروة.

مهدي عامل اغتيل وهو في طريقه للجامعة
واغتيل مهدي عامل واسمه (حسن حمدان) في الثامن عشر من أيار (مايو) عام 1987 في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى عمله في الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، حيث كان يدرّس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات. وعلى إثر اغتيال مهدي عامل أعلن يوم التاسع عشر من أيار (مايو) من كل عام "يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي".
يقول كريم مروة: حين اغتال كاتم الصوت الصديق الكبير لمهدي، ورفيقه في الدرب وفي الفكر والمعركة دفاعاً عن حرية الفكر، حسين مروة - ابن الثمانين في فراش نومه-، لم يعبأ مهدي بكل ما جاءه من إشارات كان بعضها صريحاً إلى حدود الوقاحة بأنه، أي مهدي، سيكون الهدف الثاني بعد حسين مروة لكاتم الصوت أو لسواه من أسلحة الاستبداد والظلامية. ولم يلتفت إلى تحذيرات رفاقه وأصدقائه بضرورة التنبُّه إلى ما يحيط به من مخاطر. ولم يشأ أن يغيِّر مكان إقامته، ولا طريق سيره المعتاد من معهد العلوم الاجتماعية كل صباح لملاقاة طلابه. لم يشأ أن يغير أياً من عاداته. إذ كان يعتبر أن مثل ذلك سيكون من قِبَله رضوخاً أمام الخصم في تقليص حقه بالحرية. وظلَّ يمارس نشاطه الفكري بالطريقة ذاتها من دون تعديل. وظلَّ يمارس حياته كما لو أنّ شيئاً جديداً خطيراً لم يحصل، وفق مروة.

اقرأ أيضاً: هل يرعى حزب الله اللبناني جميع وكلاء إيران في الشرق الأوسط؟
كان سمير قصير، منذ مطلع شبابه، يسارياً يحلم بتغيير بلاده في اتجاه التقدُّم، ولم يغيِّر موقعه اليساري قط إلا في الاتجاه الأكثر تحرراً من القديم الذي كان يشيخ، والأكثر تحرراً من اليقينيات التي تعيق التطوير والتجديد. وظلَّ في موقعه هذا، رغم انضمامه إلى منابر لم تكن معروفة بيساريتها، لكنها كانت منابر للدفاع عن الحرية لبلداننا ولشعوبنا وللإنسان الفرد فيها، ضد كل أنواع الاستبداد، أفكاراً وسياسات وأنماط سلوك وأنظمة حكم.
ويرى كريم مروة أنّ سمير قصير كان صاحب قلم جميل. وكانت أرقى عناصر الجمال في قلمه أفكاره الجريئة، حاملة الرغبة الجامحة في التغيير، الرافضة بحزم لكل أشكال الاستبداد القديم منها والمتجدد. لذلك فقد كانت كتاباته نقدية لاذعة. وكان النقد فيها سلاح المثقف، سلاحه الماضي الكاسر، السلاح المحصن بالشجاعة، والمصوَّب في الاتجاه الصحيح، من دون مهادنة أو مساومة.

حملة قاسية سبقت اغتيال سمير قصير
وكانت، كما يذكر مروة في مقاله، قد واجهت سمير قصير قبل اغتياله حملة قاسية من المضايقات والضغوط النفسية من قبل أجهزة النظام الأمني اللبناني- السوري، من أجل إرهابه. لكنه صمد في وجه تلك المحاولات، وعضَّ على جراحه، واستمرَّ في الطريق ذاته الذي اختاره منذ مطلع شبابه. وكان يعرف أنّ سلوك هذا الطريق مليء ليس بالأشواك وحسب، بل بكل أنواع المخاطر، التي قادت إلى الموت قبله رفاقاً وأصدقاء من المدرسة ذاتها، وحتى من مدارس أخرى، كان المفكر الثاني الشيخ صبحي الصالح أحد أبرز ممثليها.

مهدي عامل، الذي اغتيل بكاتم الصوت، كان عنيفاً في نقده للطائفية وللنظام الطائفي وأيضاً في نقد السلفية الدينية

سمير قصير، كما يؤكد مروة، لم يكن غافلاً حين اختار ذلك الطريق، عن رؤية مثل ذلك المصير الذي كان ينتظره. فجاءت العبوة المفخخة القاتلة لتؤكد أنّ ذلك الاحتمال الفظيع قد تحوَّل إلى أمر واقع. ودخل سمير، مع مهدي عامل ومع آخرين قبله وبعده، وآخرين قبلهما وبعدهما، في قافلة شهداء الحرية، الذين يشكلون أحجار الزاوية في بناء نهضتنا العربية الجديدة والقديمة، المتمثلة بإقامة دولة الحرية والعدالة والتقدم في لبنان وفي سائر بلداننا العربية. وكان على جورج حاوي، رفيق مهدي وسمير، أن ينال المصير ذاته، مع كوكبة من القادة السياسيين والإعلاميين الذين ذهبوا، الواحد منهم تلو الآخر، خلال الأعوام الثلاثة العجاف التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
ويؤكد كريم مروة أنّ "سمير ومهدي ورفيقهما القائد الشجاع جورج حاوي، وقبلهم المفكر الكبير حسين مروة، والإعلامي المتميز سهيل طويلة، والمناضل المثابر خليل نعوس، وقائدهم الكبير السابق عليهم في الاستشهاد فرح الله الحلو، والقائد الكبير للحركة الوطنية كمال جنبلاط، جميع هؤلاء الشهداء سيشكلون، باستشهادهم مع سواهم من أبطال الحرية في لبنان، وإلى جانبهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشهداء ثورة الاستقلال جسر العبور الصعب إلى مستقبل أفضل لوطنهم لبنان، ولو طال المدى".



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية